الوقف الخيري انصرف عنه المسلمون ويطبقه الغربيون

نظام فريد أسهم في تشكيل الحضارة الإسلامية
13:54 مساء
قراءة 8 دقائق

القارئ للتاريخ الإسلامي سيكتشف وبسهولة أن الأوقاف الخيرية كانت تمثل رافداً مهماً من روافد بناء المجتمع والفرد معاً لأنها كانت تتيح الحصول على المال لتحقيق المصالح العامة كتعليم الطلبة والإنفاق عليهم خلال مرحلة دراستهم أو إنشاء المستشفيات أو الملاجئ فيما كان يسمى بالتكايا . أو رصد الأموال لخدمة بيوت الله وتعميرها أو مساعدة المحتاجين في مختلف المجالات ولكن في الفترة الأخيرة تراجع دور الوقف الخيري وليس هذا فحسب بل إن الأثرياء من المسلمين انصرفوا عن وقف بعض أموالهم لصالح المشروعات الخيرية

ويكفي أن تأتي شهادة البروفيسور اليهودي إسحاق رايتر لنظام الوقف في الإسلام حيث ألّف كتاباً عنه يقول فيه: إنه نظام مهم جداً ولا يوجد مثله في العالم . . فهو يسمح بتداول الثروة . . هذه المعضلة التي استعصت على كل النظريات والفلسفات والثورات ويتعجب هذا الأستاذ اليهودي من تصفية هذا النظام الإسلامي المتميز بأيدي المسلمين أنفسهم . . وهو ما يطرح سؤالا مهماً وهو لماذا انصرف المسلمون عن وقف أموالهم لصالح المشروعات الخيرية؟

الخليج طرحت القضية للنقاش من خلال التحقيق التالي:

في البداية تقول الدكتورة سامية الساعاتي أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس: المتابع لحال التضامن الاجتماعي في المجتمعات العربية سيلاحظ بالفعل أن هناك تعطيلاً منذ فترة طويلة لمؤسسة الوقف فباستثناء الأموال الموقوفة منذ مئات وعشرات السنين لن تجد ثرياً يوقف جزءاً من ممتلكاته لصالح المشروعات الخيرية ولا جدال في أن تغييب دور الوقف كان له أبلغ الأثر في تفشي مشكلات اجتماعية خطيرة مثل الفقر والبطالة والمرض والعنوسة وتراجع قيمة التعليم حيث كانت الأموال والممتلكات التي يوقفها الأثرياء في الماضي تنفق على الفقراء وتساهم في تشغيل العاطلين وتعلم المحتاجين وتعالج المرضى وتزوج الشباب والفتيات غير القادرين ولكن مع الانصراف عن وقف الأموال فإن المجتمع المسلم المعاصر تفشت فيه الظواهر السلبية وفي الوقت الذي غابت فيه ثقافة الوقف عن المجتمعات العربية والإسلامية انتشرت فيه هذه الثقافة في المجتمعات غير المسلمة التي استفادت وبحق من الآليات التي شرعها الإسلام من أجل مكافحة المشكلات الاجتماعية المختلفة فالمتابع للغرب اليوم سيفاجأ بأن كل أسرة أوروبية أو أمريكية تخصص تلقائياً نسبة من دخلها السنوي للجمعيات الخيرية والمنظمات غير الحكومية كما أن رجال الأعمال والأثرياء هناك يرصدون تلقائياً وكظاهرة عامة مستقرة في يقينهم بعض ما يملكونه من عقار أو أموال لصالح الجمعيات الخيرية والمنظمات غير الحكومية أي أنهم من حيث لا يدرون يطبقون تلقائياً فكرة الوقف الإسلامي .

سيطرة الأنانية

وتضيف: ومما لا شك فيه أن سيطرة الطبيعة الأولى للنفس على المسلم المعاصر هي أحد أهم أسباب انصرافه عن وقف أمواله لصالح المشروعات الخيرية فسيطرة الأنانية على الإنسان تؤدي إلى تضخم الذات على حساب المجتمع مما يمنعه من الانفتاح على الآخرين وتقديم يد المساعدة والعون لهم نظراً لانشغاله بجمع المال عن أي شيء آخر وهناك سبب آخر لتراجع قيمة الوقف وهو سوء التخطيط من قبل الجمعيات والحكومات في آن واحد حيث تؤدي الحملات الإعلامية التي تتبناها الجمعيات الخيرية وبعض المنظمات غير الحكومية والحكومية أيضاً إلى حدوث تضخم في جانب من جوانب العمل الخيري وقلته تماماً في جوانب أخرى وهو ما حدث مع الوقف في الفترة الأخيرة حيث تتبنى الجمعيات الأهلية ثقافة جمع الصدقات لتوزيعها على الفقراء من دون أن يضع أحد في حسبانه أن هذا السلوك سيجعل الفقر موجوداً إلى الأبد ولن يؤدي إلى علاجه وهكذا نرى وجود وفرة في التبرعات المالية للمؤسسات الدينية وهو أمر مطلوب، وفي الوقت ذاته تندر الأعمال التبرعية في مجال الخدمات العامة للناس، أو المجال العلمي والمعرفي العام أو المجال الصحي، أو المجال الأمني والاجتماعي .

وتطالب د . الساعاتي بحملة شعبية وإعلامية لنشر ثقافة العمل الخيري يشارك فيها علماء الدين بنصيب وافر .

اختفاء التربية الإسلامية

ويشير الدكتور رضا محمد عريضة أستاذ علم النفس التربوي بجامعة عين شمس إلى أن تراجع المسلمين عن وقف أموالهم للمشروعات الخيرية يعود إلى اختفاء ثقافة التربية الإسلامية وعدم حرص أولياء الأمور المسلمين على زرع حب فعل الخير وصنعه في نفوس أطفالهم الأمر الذي يجعل الطفل ينمو ويكبر وهو يظن أن التدين الحقيقي ينحصر في الصلاة والصيام والحج فقط من دون أن يدرك وجود عبادات وفرائض دينية أخرى تتمثل في الصدقات والزكاة والوقف وإذا كنا نرغب في نشر ثقافة وقف الأموال من جديد فيجب أن نبدأ في العمل على تكوين شخصيات أطفالنا وطبعهم منذ الصغر على إفادة المجتمع وخدمة الآخرين، من خلال المشاركة الفاعلة في عمل الخير، وهذا الدور يجب أن يشارك في القيام به المؤسسات التربوية كافة بداية من الأسرة مروراً بالمدرسة والمسجد وحتى الأندية حيث يمكن أن تعمل كل تلك المؤسسات على حث الطلاب والتلاميذ الصغار على التبرع بجزء من مصروفهم اليومي من أجل المساهمة في عمل الخير . ومن المهم أيضاً أن نشرح للطفل منذ الصغر وبصورة عملية أهمية المشاركة في المشروعات الخيرية .

ويشير د . عريضة إلى أن اعتياد الأطفال على المساهمة في أعمال الخير منذ الصغر يكون له انعكاس إيجابي كبير بعد ذلك على شخصياتهم؛ حيث يكبرون على حب الخير ومساعدة الآخرين، وهو ما يجنّبهم الكثير من الأمراض الاجتماعية المنتشرة في المجتمع اليوم نتيجة الإعلاء من قيمة المادة، فتدريب الأطفال على عمل الخير منذ الصغر هو أحد أهم وسائل تكوين الشخصية السوية القادرة على خدمة مجتمعها .

وبحيث يدرك الطفل أن الصلاة والصيام والحج والعمرة وزيارة الأماكن المقدسة التي تتميز بطابعها الفردي، ليست هي أعظم القربات إلى الله سبحانه وتعالى، لأن الإسلام يعتبر الزكاة والوقف وغير ذلك من العبادات المالية من أعظم وسائل التقرب إلى الله تعالى وباختصار لابد من تربية الأجيال الجديدة على حب واحترام التشريعات التي شرعها الإسلام لتحقيق أرقى سبل التكافل الاجتماعي ومنها الوقف فنشر ثقافة وقف الأموال يجب أن يبدأ من الصغر .

حملات توعية

من جانبه يقول الدكتور محيي الدين عبدالحليم أستاذ الإعلام بجامعة الأزهر: إذا كانت المجتمعات الإسلامية ترغب فعلاً في استعادة دور الوقف في التنمية فعليها أن تتبنى حملات رسمية وشعبية واقعية للتوعية بأهمية وقف الأموال دينياً واجتماعياً واقتصادياً بحيث يدرك كل قادر أن وقف جزء من ممتلكاته يمنحه الرضا ويزيد في ميزان حسناته وليس هذا فحسب بل إن الله يبارك له في تلك الممتلكات كما يدرك الفقير أنه يحيا في مجتمع عادل لا يعرف التمييز العنصري وهو ما يجعل الأمن المجتمعي يسود .

ويضيف: لقد كان الوقف الإسلامي على مدار التاريخ مؤسسة كبرى وقربة دينية عظيمة لها أبعاد إنسانية وحضارية واجتماعية واقتصادية ولقد نما الوقف وازدهر وأسهم في تشكيل حضارتنا الإسلامية التي أضاءت العالم قروناً عديدة وعزز النمو الاقتصادي والعلمي والفكري والثقافي وأسهم في علاج مشكلة الفقر وخفف عن المحتاجين من خلال رعايته لطلبة العلم والإنفاق على الرعاية الصحية والمرافق العامة وكل ذلك ابتغاء رضوان الله عز وجل .

من هذا المنطلق فنحن في حاجة حقيقية لإقامة الندوات والمؤتمرات ونشر الكتب والبرامج التلفزيونية والإذاعية للتأكيد على فوائد الوقف وتطبيقه وتوضيح المردود الاجتماعي والاقتصادي لوقف الأغنياء لأموالهم ويجب أن تكون هناك آلية إعلامية إسلامية لنشر ثقافة وقف الأموال لصالح المشروعات الخيرية والتنموية وهناك مسؤولية على الفرد المسلم للمساهمة في العمل الخيري بمختلف أشكاله وعليه أن يدرك أنه وهو يصنع ذلك يساهم بدور فعال في كبح الانفلات الاقتصادي والأخلاقي والاجتماعي الذي يحاول الغرب الثري نشره في مجتمعاتنا ذات الأغلبية الفقيرة .

الوقف والتكافل الاجتماعي

يرى الدكتور نصر فريد واصل مفتي مصر الأسبق وعضو مجمع البحوث الإسلامية أن الوقف أحد أهم أركان الإنفاق في وجوه الخير وقد حرص الشارع الحكيم على ذكر فضل الإنفاق في وجوه الخير في أكثر من موضع في القرآن الكريم فقال تعالى: يا أيّها الّذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر اللّه ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون (المنافقون: 9) وقد كان للوقف طوال التاريخ الإسلامي دور بارز في مختلف المجالات حيث أوقف الأثرياء المسلمون أموالهم لتقديم الغذاء للفقراء وعابري السبيل ولتوفير الملبس والعلاج والسكن المناسب ودعم الطلبة والدارسين وتوفير احتياجاتهم الدراسية بل إن التاريخ الإسلامي يوضح لنا أن هناك من أوقف ماله أو جزءاً منه من أجل تقديم الطعام للحيوانات الضالة وبالجملة فإن للوقف دوراً مهماً في جميع مناحي الحياة حيث إن أغراضه متعددة ويؤيد ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم: أن ما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً علمه ونشره أو ولداً صالحاً تركه أو مسجداً بناه أو بيتاً لابن السبيل بناه أو نهراً أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موته .

وبلا شك فإن وقف الأملاك فيه تزكية لنفس الواقف، ولماله وفيه تحقيق للتكافل بين أبناء الأمة الإسلامية، ودعم لأعمال الخير الكثيرة وتأكيد على أن أمتنا المسلمة هي أمة البذل والعطاء وأمة التكافل والتعاون من خلال موارد كثيرة ومنها الوقف الإسلامي الذي ساهم عبر العصور في دعم سبل الخير ومجالاته ولكن للأسف الشديد فإننا نرى تراجعاً ملحوظاً للوقف والاهتمام به في عصورنا المتأخرة، وذلك الأمر يعود لأسباب عديدة أولها غياب الوازع الديني لدى أهل الأموال في هذا العصر الذي نعيش فيه وسيطرة المادة على كل أركانه وعشق الأغنياء لتكنيز الأموال والتقصير من جانب علماء الدين بعدم نشر بيان فضل الوقف وأهميته في تطهير أموال الواقفين وتحقيق العدالة الاجتماعية والأمن .

ويضيف د . واصل أن تفعيل دور الوقف لا يمكن أن يتم وفق صوره التاريخية القديمة خاصة في ظل استحداث المجتمعات الإسلامية المعاصرة لقوانين تخالف تشريعات الوقف كما عرفه المسلمون قديماً ولهذا فمن الواجب أن نعمل على استحداث صور وقفية جديدة تتفق مع الشريعة والعصر الذي نعيش فيه فعلى سبيل المثال من الممكن استحداث صناديق وقفية تقدم إسهامات لإقامة المشروعات الصغيرة للشباب أو تقديم العون للمرضى من الفقراء أو المنح الدراسية للطلبة غير القادرين وإنشاء صناديق وقفية لتعمير الصحراء، وأخرى لمحو الأمية، ولكن بشرط ألا تدار بواسطة الحكومات لأن الوقف ليس نظام دولة .

مراجعة القوانين

من جانبه يقول الدكتور محمد رأفت عثمان أستاذ الشريعة الإسلامية بالأزهر وعضو مجمع البحوث الإسلامية: إن الوقف في الإسلام قديم فأول وقف ديني في الإسلام هو مسجد قباء الذي أسسه النبي صلى الله عليه وسلم حينما قدم مهاجراً إلى المدينة ثم المسجد النبوي الشريف وأول وقف من المستغلات الخيرية عرف في الإسلام وقف النبي صلى الله عليه وسلم وهو سبعة بساتين بالمدينة كانت لرجل يهودي اسمه مخيريق وكان محباً للنبي صلى الله عليه وسلم وقاتل مع المسلمين في موقعة أحد وأوصى: إن قتلت فأموالي لمحمد (يعني النبي صلى الله عليه وسلم) يضعها حيث أراد الله تعالى، وقد قتل يوم أحد وهو على يهوديته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مخيريق خير يهود وقبض النبي صلى الله عليه وسلم تلك البساتين السبعة فتصدق بها ثم تلاه وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه .

والواجب على الجميع المساهمة في إعادة إحياء هذه السنة العظيمة ولذلك متطلبات من عدة جهات من أولها الجهات الحكومية التي يجب عليها أن تراجع في القوانين التي جعلت دور الوقف يتراجع في خدمة الأمة وأهدافها التنموية فيجب أن يعود وأن تكون إدارته شعبية لأن سيطرة الحكومات على الأوقاف جعلت العديد من الأثرياء يتراجعون عن وقف أموالهم وممتلكاتهم بعد أن ظنوا أن ريع أموالهم لن يذهب إلى الغرض الذي أوقفوا تلك الممتلكات من أجله .

ولا مانع من أن يقوم علماء الإسلام الذين لديهم قبول لدى عامة المسلمين بزيارة كبار التجار وأهل الثراء لحثهم على وقف بعض ممتلكاتهم وبيان فضل الوقف والآثار الحميدة والطيبة للوقف وأنه أجر لا ينقطع للإنسان بعد موته .

كذلك فإن الوقف صدقة خيرية متميزة كاستثمار مستمر وهو يبعد الصدقة عن الاستهلاك بينما الوقف لبناء مدرسة أو مستشفى أو طريق هو عمل خيري استثماري، وأن الوقف هو صانع الحضارة الإسلامية وأنه كان السبب في عدم قيام وزارات للصحة والتعليم والبيئة والشؤون الاجتماعية في عدد من الدول الإسلامية إلى عهد قريب لقيامه بوظائف تلك الوزارات .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"