المجاعة في إفريقيا.. تواطؤ البشر مع الطبيعة

01:29 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. أيمن شبانة

في نهاية فبراير/شباط الماضي أصدرت الأمم المتحدة تقارير تحذر من إمكانية حدوث موجة جديدة من المجاعات في القارة الإفريقية، تشمل إثيوبيا وجنوب السودان والصومال ونيجيريا وزيمبابوي وجنوب إفريقيا وموزمبيق، ليصبح معها أكثر من40 مليوناً من الأفارقة على شفا الموت جوعاً، ما لم يتم ضح مساعدات عاجلة تقدر ب4.5 مليار دولار.

نذر هذه الكارثة تثير تساؤلات عدة حول مدى انتشار المجاعات في إفريقيا، والعوامل التي تؤدي لحدوثها بشكل متواتر في قارة يفترض أن تكون إحدى سلال الغذاء في العالم، وسبل مواجهة الجوع الذي أضحى ضيفاً ثقيلاً على موائد شعوبها البائسة.
شهدت القارة الإفريقية موجات متكررة من المجاعات خلال العقود الأربعة الماضية، حيث عانت 18 دولة إفريقية على الأقل ما يمكن تسميته «الوضع الطارئ»، حيث يقترن الجوع بمعدلات الوفاة المرتفعة. كما كشفت تقارير منظمة الأغذية والزراعة «فاو»، أن الأوضاع الغذائية في إفريقيا أضحت أسوأ منها في عهد الاستعمار، وأن القارة باتت أكثر قابلية للمجاعة، بعدما ارتفعت احتمالات حدوث المجاعة فيها من 18% إلى 38% مقابل انخفاضها في آسيا من 43% إلى 13%، مؤكدة أن استمرار هذا الوضع سوف يضعف قدرة القارة على توفير الغذاء لسكانها، لتصبح غير قادرة على إطعام أكثر من 25% منهم بحلول عام 2025.
وعند تحليل العوامل المسؤولة عن حدوث المجاعات في إفريقيا يلقي معظم المحللين باللائمة- للوهلة الأولى- على عوامل الطبيعة، مثل الجفاف، والتصحر، والفيضانات، والأعاصير، وغزو الجراد، والآفات الضارة، والأمراض التي تصيب المحاصيل، وهي العوامل التي تتفاقم عندما تقترن بالاحتباس الحراري، خاصة عندما تفتقر الدول إلى نظم مناسبة للري. ففي موزمبيق مثلاً تعرضت البلاد للمجاعة نتيجة لعوامل طبيعية متباينة تتمثل في الفيضانات في شمال البلاد، والجفاف في جنوبها.
لكن العوامل الطبيعية ليس بوسعها أن تنهض وحدها لتفسر تواتر المجاعات في إفريقيا. فالأمر لا يخلو من تدخلات بشرية، سواء من الحكام والمسؤولين الأفارقة، أو المنظمات الدولية والجهات المانحة، والدول الغربية، حيث يتم انتهاج سياسات تفضي عملياً لتفاقم المجاعات، وليس منعها، أو احتوائها على الأقل. وهو ما أدى أحياناً لسقوط النظم السياسية في القارة. ومثال ذلك سقوط نظام جعفر نميري في السودان عام 1985، وسقوط نظام مانغستو هيلاميريام في إثيوبيا عام 1991.
ففي كثير من الدول يسهم نمط الزراعة ونظام توزيع ملكية الأرض في انخفاض الإنتاجية الزراعية وتفشي الجوع، فالاعتماد على أسلوب الزراعة المعيشية، التي تنتج بغرض الاكتفاء الذاتي، وتفتيت الملكية الزراعية إلى أقل من فدان للمزارع الواحد، يجعل استخدام الآلات الحديثة غير موات اقتصادياً، ويصعب من فرص إقامة مشروعات للري والتنمية الزراعية.
وفي حالات كثيرة تؤدي الحروب الأهلية لحدوث المجاعات في القارة، وتجلى ذلك مؤخراً في جنوب السودان، فمع اتساع نطاق العنف فيها انخفض الإنتاج الزراعي بشدة، بعدما هجر المزارعون أراضيهم، تاركين إياها للميليشيات المسلحة، فاضطر المواطنون لتناول الأعشاب والنباتات البرية، لعدم قدرة الحكومة على تنمية القطاع الزراعي، أو توفير مصادر خارجية بديلة للغذاء، بعد أن التهم الإنفاق على السلاح أكثر من 40% من ميزانية الدولة.
وفي ظل الصراعات أيضاً يصعب إيصال مواد الإغاثة الإنسانية للسكان المحاصرين في مخيمات اللاجئين والنازحين، حيث تتعرض شاحنات الغذاء للنهب المسلح، ويتم إجبارها على دفع رسوم باهظة للمرور، مع التعسف في تفتيشها، خشية أن يكون نقل مواد الإغاثة ستاراً لإمداد الخصوم بالسلاح. كما تسهم رداءة الطرق البرية، ونقص وعدم صلاحية مهابط الطائرات، وانتشار الغابات والمستنقعات، في بطء وصول المساعدات. وهنا تؤكد التقارير أن 77% من حالات الوفاة خلال المجاعات في إفريقيا تحدث خلال مرحلة إعداد برامج الإغاثة الإنسانية.
وفي حالات أخرى يتورط المسؤولون من الساسة والبيروقراط في نهب المساعدات المالية المخصصة لمواجهة الجوع، بغية الإثراء على حساب الضحايا، مثلما حدث في ليبيريا وأنغولا وسيراليون. والأغرب أن بعض الحكومات لا تعلن أحياناً عن حدوث حالات المجاعة في بلادها، لأسباب سياسية تتعلق بالخوف من انخفاض شعبية النظام الحاكم، خاصة قبيل الانتخابات، والرغبة في التحكم في توزيع المساعدات الغذائية.
فالإعلان عن المجاعة سيفرض على الحكومات توجيه كل المساعدات إلى المناطق المنكوبة، بينما يحرص الساسة على استغلال المساعدات كسلاح سياسي، لكسب الولاء وشراء أصوات الناخبين، بتركيز المساعدات في العواصم، ومنحها للأنصار وحرمان الخصوم منها. حدث ذلك في زيمبابوي عندما منحت الحكومة معظم المساعدات لأنصارها من جماعة الشونا الداعمة للرئيس موغابي على حساب الجماعات الإثنية الأخرى.
تضاف إلى ذلك، السياسات الخاطئة التي تتبعها المؤسسات المالية الدولية والجهات المانحة، وحكومات الدول الغربية، التي تكون متعمدة أحياناً. وعلى سبيل المثال أدت برامج التثبيت والتكيف الهيكلي المدعومة من صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي إلى تدهور الإنتاج الزراعي في معظم الدول الإفريقية التي طبقتها، بعدما فرضت على حكوماتها تعويم عملاتها، فارتفعت أسعار الأسمدة والمدخلات الزراعية الأخرى. فضلاً عن تقليل الإنفاق العام، وتوجيه الاستثمارات من قطاع الزراعة إلى القطاعات الخدمية سريعة العائد، والتركيز على زراعة المحاصيل النقدية مثل القطن على حساب المحاصيل الغذائية مثل الحبوب.
كما أن اعتماد الجهات المانحة على تقديم المساعدات المالية في مواجهة المجاعات، يعني أنها تتعامل مع أعراض المشكلة المتمثلة في نقص الغذاء، من دون اقتلاع أسبابها الحقيقية، وهو ما يفضي لتكرار المجاعات، خاصة مع تورط العديد من المنظمات الإنسانية في نهب الأموال المخصصة لإغاثة الضحايا.
والأسوأ هو تخاذل الحكومات الغربية عن القيام بواجبها في إغاثة منكوبي المجاعات، رغم مسؤوليتها عن الاحتباس الحراري ورفع أسعار الغذاء، بسبب التوسع في إنتاج الوقود الحيوي، لدرجة أنها لا توفر أكثر من 2 سنت في المتوسط مقابل كل دولار مطلوب لمواجهة المجاعة، بل إن بعضها يلجأ لاستغلال الغذاء كسلاح لمعاقبة الشعوب الإفريقية. ففي العام 2003 رفضت الولايات المتحدة إغاثة النيجر بعدما اجتاحتها المجاعة، تاركة الشعب فريسة للجوع، لمعاقبة حكومتها، التي رفضت الخضوع للضغوط الأمريكية بالموافقة على مشروع قانون يمنح الحصانة للمواطنين الأمريكيين من المثول أمام المحكمة الجنائية الدولية.
وختاماً، فإن الممارسات غير السوية للبشر أضحت مسؤولة، إضافة إلى العوامل الطبيعية، عن تفاقم وتكرار المجاعات في القارة الإفريقية، وهو ما يوجب على الأفارقة العمل الجاد لمواجهة الأسباب الحقيقة للمجاعات، واتباع استراتيجيات حديثة لتطوير قطاع الزراعة ونظم الري، بدلاً من التركيز على الأعراض، والتذرع بغضب الطبيعة، واستجداء المانحين الدوليين، الذين لا يتحركون في الغالب من دوافع نبيلة، بقدر ما تحكمهم المصالح، للدرجة التي تجعلهم لا يتورعون عن المتاجرة ببني الإنسان.

*مدرس العلوم السياسية-معهد البحوث والدراسات الإفريقية(جامعة القاهرة)

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"