الشارقة . . رهافة المعنى وخلود الكلمة

عاصمة للثقافة الإسلامية مع أول أيام 2014
02:00 صباحا
قراءة 7 دقائق
الشارقة - "الخليج":
منذ فترة ليست بالقليلة، أصبح مصطلح "الثقافة" في الوطن العربي والمحيط الإقليمي علامة إمارة الشارقة، وكأنها اختزلت هذا المعنى من عتبات التاريخ، وبطون الشعراء، وعوالم الكتب، وكنوز المخطوطات، وأسرار المقتنيات المتحفية لتحولها إلى واقع ماثل للأنظار، ينبض بالحياة، ويردد صدى الأزمنة الفكرية والثقافية البيضاء الماضية من جديد، ويجعل منها قبلة للقاصدين حب الكلمة، وجوهر الوجود الإنساني .
الشارقة عاصمة الثقافة العربية والثقافة الإسلامية، وهي المعتادة على ألا يوقفها لقب أو إنجاز متحقق، تدخل العام 2014 بقوة مستمدة من كونها تمثل اليوم مركزاً عالمياً للحفاظ على الهوية العربية والإسلامية بكل ثقلها وإرثها ودورها المعروف في نشر المعرفة، وفتح آفاق العلوم المختلفة التي نثرت بذورها منذ البواكير الأولى لتشكيل مصطلح الثقافة، الشارقة تؤدي هذا الدور الحيوي المهم، وتعمل على تجديد شباب الثقافة العربية مرة أخرى بخطة مدروسة نسجتها منذ عقود، وتمضي قدماً في قطف ثمارها لتؤسس مرحلة جديدة لإثبات هوية ووجود الثقافة العربية التي تتربع اليوم على عرش عاصمتها الموحدة المشرقة .
الشارقة دخلت هذا المضمار وهي تعلم أن بلوغ النجاح فيه يحتاج إلى عوامل ودعائم وأسس، فالثقافة تعني التاريخ، وتعني العمران، كما تعني الكتاب، والمتحف، ونظام التعليم، والفعاليات المختلفة، والجوائز المحفزة، وإذ حبى الله سبحانه الشارقة بكل هذه المزايا، جاءت ميزة أخرى تمثلت في القائد المثقف المحب للثقافة والكتاب فأضافت تفرداً آخر للشارقة، حتى لكأنك تتطلع إلى بصماته في كل ثنايا الشارقة التي تحولت إلى رئة يجد فيها المثقفون بغيتهم من القراءة، والتأليف بل والإبداع الذي يرافق سحر المكان والزمان وشغف الحديث الذي لا يمل عما تتميز به الإمارة ثقافياً وفكرياً وأدبياً بين مثيلاتها من المدن الأخرى .
فإذا استعرضنا التأريخ، هناك مدن عدة تنفض عنها غبار الماضي، وتستعد للدخول الى عصرنا الجديد بحلة أبهى، وطلة أزهى، ولا أدل من ذلك على ما وجه به صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة باختيار منطقة الشويهين لإعادة بنائها وتجديدها باعتبارها منطقة ذات قيمة تاريخية عظيمة، ورد ذكرها نهاية القرن الثامن عشر الميلادي في الوثائق والمصادر التاريخية لمنطقة الخليج العربي، تلاها الإيعاز بتطوير منطقة "قلب الشارقة" المدينة التراثية التي تستعد لتتزين بحلة جديدة تتناسب ومكانتها من تاريخ الإمارة، ومع أن بصمات الختام في أعمال التطوير لم تنته، لكنها لم تمنع تدفق الزائرين المتحمسين إلى رؤيتها قبل ولادتها من جديد .
إذا تكلمنا عن الكتاب، فالشارقة هي الكتاب، أو لنقل كتاب المنطقة المتحرك الذي يحكي أزلية عشق الحروف، ورهافة المعنى، وخلود الكلمة، فقد شكل معرض الشارقة الدولي للكتاب علامة فارقة في تاريخ الثقافة العربية، والبناء الثقافي العالمي منذ الدورة الأولى التي أقيمت في 19 يناير/كانون الثاني عام 1982 وافتتحها صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة الى الدورة 32 التي أقيمت للفترة بين 6-16 من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل للعام ،2013 حيث استطاع أن يجمع تحت سقفه خلال فترة امتدت على مدى أكثر من ثلاثة عقود عدة ملايين من عناوين الكتب، وملايين الزوار إلى جانب العارضين ودور النشر، ولا يزال المعرض يتوسع في كل عام ليؤكد أن الشارقة عازمة على حمل لواء الثقافة، وأن مشروع البيت الثقافي العربي الكامل بات لصيقاً بأروقته، وأن جسور التواصل بين الماضي والحاضر تمتد لتصل الى المستقبل حتى لتشعر أنك في عكاظ والمربد، وأن هيبة الكلمة لا تزال محفوظة وباقية، وأن حب الكلمة المقروءة للمعرض شعار أبدي .
معرض الشارقة الدولي للكتاب اليوم هو أحد أكبر 4 معارض تقام للكتاب على مستوى العالم، واحد من مجموع مؤسسات كبيرة تدعم البناء الثقافي في الشارقة، وهناك العديد من الأنشطة الثقافية المختلفة، بينها الجوائز المخصصة للمبدعين مثل جائزة اتصالات لكتاب الطفل التي يشرف عليها حاليا المجلس الإماراتي لكتب اليافعين، وانتشار الكثير من مؤسسات التأليف والنشر والترجمة والمشاريع الثقافية، ففي الشارقة وحدها هناك جمعية الناشرين الإماراتيين، ودار كلمات للنشر، ومشروع ثقافة بلا حدود الذي لن يتوقف حتى يجعل في كل بيت إماراتي مكتبة عامرة بأنواع الكتب، وذلك بعد أن "باغت" المثقفين بفكرة وضع مكتبات في دوائر الحكومة، يستفيد منها الموظف، والمراجع وهو يسير باتجاه تخليص معاملته .
تؤمن الشارقة أن أي نهضة لا يمكن أن تتم إلا على أعتاب التعليم الناجح المستند إلى بنية تحتية متينة، وخبرات متكاملة، وخلاصة علوم حضارية معاصرة، فأخذت على عاتقها إنشاء الجامعات والكليات والمعاهد، واستقدام ذوي الخبرات والكفاءات، وإتاحة الفرصة للطلاب في تنمية وتلبية طموحاتهم المستقبلية بالانتماء إلى أمكنة جامعية منافسة في مستوياتها التدريسية ومحتوياتها العلمية أرقى المستويات الجامعية، وتميزت بحداثة باهرة في التصميم جعلت منها صروحاً علمية معمارية حية، تلقي بظلالها على تاريخ عريق سبق أن قاد حضارة عالمية امتدت على مدى قرون من الزمان، وأسهم في تدفق آلاف الخريجين من القادة في مختلف المجالات، ولعل أبرز تلك الصروح المدينة الجامعية التي تضم بين أرجائها العديد من الكليات، إضافة إلى العديد من الجامعات والكليات الأخرى التي تمثل بمجملها أكبر مجمع تعليمي في الشرق الأوسط .
للشارقة اليوم حزمة جوائز تصب في تدفق تجديد الثقافة العربية المعاصرة بالتنقيب عن المبدعين في أنحاء العالمين العربي والإسلامي، وقد روعي في إقرارها استيعابها لكل مجالات الثقافة المعاصرة حتى لا تدع مجالاً لأحد في الشك بريادتها وصواب نظرتها المستقبلية وسيرها في طريق بناء الصرح الثقافي بلا رجعة، ففي الجوائز الثقافية هناك: جائزة الشارقة للإبداع العربي "الإصدار الأول"، وجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي، وجائزة الشارقة للثقافة العربية "اليونيسكو"، وجائزة الشارقة للأدب المكتبي .
وفي الجوائز المسرحية، هناك جائزة التأليف المسرحي، وجائزة الشارقة للإبداع المسرحي العربي، وجائزة الشارقة الكبرى للمسرح الخليجي، وجائزة الشارقة للشعر العربي، وفي إطار الجوائز المترافقة مع معرض الشارقة الدولي للكتاب، هناك جوائز مترافقة مع انعقاد فعاليات معرض الشارقة الدولي للكتاب مثل جائزة الكتاب الإماراتي، في مجالات: "تأليف، دراسات، إعداد وترجمة، ومطبوع عن الإمارات"، وجائزة معرض الشارقة الدولي للكتاب "لتكريم دور النشر"، وأفضل دار نشر: "محلية، عربية، أجنبية"، وجائزة معرض الشارقة الدولي للكتاب: عن "شخصية العام الثقافية"، وجائزة معرض الشارقة الدولي للكتاب عن "أفضل كتاب عربي، وافضل كتاب أجنبي"، وجائزة اتصالات لكتاب الطفل وهي أكبر جائزة لأدب الطفل على مستوى الوطن العربي .
إذا استعرضنا المخطوطات في الشارقة فهي ترتبط حتماً باسم صاحب السمو حاكم الشارقة الذي حرص على جمع أعداد تفوق الحصر من المخطوطات والخرائط والوثائق التاريخية الموغلة في القدم على مدى سنين طويلة من حياته المديدة العامرة بحب الأصالة والتراث والانتماء الخالص للهوية، وبعض هذه الوثائق يرجع إلى فترات سابقة من التاريخ تمتد إلى أكثر من 500 سنة، وتصل إلى العام ،1493 وتسلط بمجملها الضوء على طبيعة الثقافة والحياة الاجتماعية والظروف السياسية والأمور المختلفة التي كانت تسود المجتمعات الآسيوية والإفريقية، ويمتد إلى القارة الأوروبية راسماً صورة حية لطبيعة التواصل بين الشعوب المختلفة .
وعلى سبيل المثال لا الحصر، تضم دارة الدكتور سلطان للدراسات الخليجية آلاف الوثائق والخرائط الأصلية، وتشكل مرجعاً لا غنى عنه للدارسين والباحثين، الذين كان سموه في مقدمتهم حينما انطلق في دراسته الخاصة بالدكتوراه حول الاحتلال البريطاني لعدن، واستعراض رسائل الصومال، وسيرة البحار العربي الشهير ابن ماجد، ورسالة الكويت، ونحوها مما يجمع بين العمل التاريخي الحر، والتوليفة الأدبية التي تمتاز بصياغة فائقة فذة .
في زوايا المتحف الإسلامي في منطقة المريجة في الشارقة، هو أحد المواقع الأثرية المهمة، باعتباره موقعاً حامياً لحصن الشارقة القديم، ويمتد عمره إلى 200 عام تقريباً، توجد دار المسكوكات الإسلامية التي تحتوي على مجموعة قيمة من العملات العربية والإسلامية المسكوكة في العصرين الأموي والعباسي، وبعضها يعود إلى زمن الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان، وقد انضمت الى هذه الدار مجموعة قيمة أخرى من العملات النادرة لتجعل من الشارقة مركزاً مهماً للباحثين عن تاريخ العملات العربية والإسلامية .
ومن دار المسكوكات إلى دار المخطوطات الإسلامية، حيث تعرض في هذه الدار الواقعة في المتحف الإسلامي المذكور نماذج مهمة من المخطوطات الإسلامية المذهبة والمخطوطة على يد أشهر وأمهر الخطاطين من أرجاء العالم، وشملت مخطوطات للقرآن الكريم، وأخرى في علوم مختلفة مثل النحو، والطب، والفلسفة، وغيرها، وتضم قائمة المخطوطات المهمة في هذه الدار صفحات نادرة من القرآن الكريم يعود تاريخها إلى القرن الثالث والرابع الهجري، أرخ بعضها بداية مرحلة التنقيط للحروف العربية التي استمرت إلى يومنا هذا، إضافة إلى العديد من رسائل الرسول صلى الله عليه وسلم الموجهة إلى الملوك والأمراء يدعوهم فيها للدخول إلى الإسلام في بداية الدعوة الإسلامية المباركة .
عند اختيار الشارقة عاصمة للثقافة الإسلامية كعادتها لم ترض إلا أن تشكل إضافة للثقافة الإسلامية وللقب العاصمة أعلنت اللجنة التنفيذية لاحتفالات الشارقة عاصمة للثقافة الإسلامية عن عزم إمارة الشارقة إطلاق أكثر من 24 مشروعاً من المشاريع النوعية التراثية والسياحية والثقافية والعمرانية وتنظيم أكثر من 100 فعالية خلال العام 2014 ضمن احتفالية ستكون الأبرز في احتفالات عواصم الثقافة الإسلامية، وتم الإعلان عن الجامعة القاسمية ومسرح المجاز وما زال الجميع يترقب بشغف وثقة إبداعات الشارقة التي ستخرج بها للعالم خلال العام الجاري .
مع كل هذا، لانزال لم نستوف الحديث عن الشارقة ودورها الذي تنوء بحمله اليوم دول عدة لا دولة واحدة، ولم نستعرض جميع ما فيها ما يدعم مكانتها المتميزة، لذلك عدنا إلى القول إن الشارقة تتسامى عن الألقاب، وأنها تضيف إلى اللقب لا تأخذ منه، وأنها تستحق ما هو أكثر وهي تتوجه لبناء صروحها تلو الأخرى بإرادة بانيها المحب للثقافة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة وأبناء الإمارات .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"