«ثورة ماو» تتحدى العالم بعد 70 عاماً

02:57 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. محمد فراج أبو النور *

«ما من قوة يمكنها أن تزعزع مكانة الصين أو تمنع شعبها من التقدم».. بهذه الكلمات توجه الرئيس الصيني شي جين بينج إلى الحاضرين في ساحة السلام السماوي «تيان إنمين» في بكين للاحتفال بالذكرى السبعين لانتصار الثورة الصينية.. وهو المكان نفسه الذي وقف فيه الزعيم التاريخي ماو تسي تونج منذ سبعين عاماً (في الأول من أكتوبر عام 1949) معلناً انتصار الثورة وتأسيس جمهورية الصين الشعبية.
الواقع أن كلمات شي جين بينج لم تكن موجهة إلى الحاضرين وحدهم، وإنما حملت رسائل موجهة إلى أطراف كثيرة في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد نظمت الصين - احتفالاً بذكرى ثورتها هذا العام - أضخم عرض عسكري في تاريخها، استعرضت فيه قوتها العسكرية المتنامية بسرعة كبيرة. وكان في مقدمة الأسلحة التي تضمنها العرض صاروخ (دي إف - 41) العابر للقارات الذي يبلغ مداه (14 ألف كم).. أي أكبر من مدى أي صاروخ أمريكي أو روسي مناظر بنحو ألفي كيلومتر وهو صاروخ متعدد الرؤوس، قادر على حمل (10 رؤوس نووية).. وعلى تغيير مساره أثناء التحليق. كما تضمن صاروخ (دي إف - 17) فائق السرعة (المفرط صوتياً) الذي أصبحت الصين ثاني دولة في العالم تملكه بعد روسيا، ولم تصنعه الولايات المتحدة بعد.. بالإضافة إلى الصواريخ المجنحة، وغيرها من الصواريخ المتطورة التي على صواريخ الدفاع الجوي اعتراضها، وطائرة الجيل الخامس المقاتلة من طراز (جي - 20) وغير ذلك من الأسلحة المتطورة.
وأكد شي أهمية دور الجيش في حماية سيادة الصين و(الحفاظ على الرخاء في هونج كونج وماكاو).. ومواصلة الكفاح في سبيل إعادة توحيد الوطن الأم توحيداً تاماً - في إشارة تقليدية إلى إصرار الصين على استعادة تايوان يوماً ما - وإلى أن محاولات الغرب وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا، لتأجيج الاحتجاجات وتشجيع الدعاوى الانفصالية لبعض القوى في هونج كونج، هذه الأيام، ستواجه بالقوة العسكرية إذا اقتضى الأمر.

«الردع» في الذكرى السبعين

وواضح تماماً أن الصين أرادت امتلاك قوة الردع بهذا العرض الهائل في الذكرى السبعين لانتصار ثورتها وتأسيس جمهوريتها الشعبية - أن تؤكد للولايات المتحدة قبل غيرها امتلاكها لقوة الردع القادرة على مواجهة أي هجوم، والوصول بصواريخها النووية إلى الأراضي الأمريكية.. وهو تأكيد تعتبره بكين ضرورياً في ظل إعلان واشنطن المتكرر أن الصين وروسيا تقفان على رأس قائمة المخاطر التي تهدد الأمن القومي الأمريكي، وما يرتبط بذلك من تصاعد الأنشطة العسكرية الأمريكية في بحر الصين الجنوبي ومنطقة شرق آسيا بأكملها، ونصب صواريخ منظومة الدفاع الصاروخية الأمريكية في كوريا الجنوبية واليابان بالقرب من الحدود الصينية وفي أستراليا غير بعيد كثيراً عنها.
وإذا أضفنا إلى ذلك كله ما حققته الصين من تطور كبير لجيشها البري وتحديث لأسلحته، بحيث تحولت من الاعتماد على الحشود البشرية الكبيرة إلى الاعتماد على التقنيات المتطورة والأسلحة الذكية.. وتطور سلاحها الجوي بالاعتماد على المقاتلات والقاذفات الروسية الحديثة، وصولاً إلى صنع طائرتها (الوطنية) من الجيل الخامس (جي - 20).. وإذا وضعنا في اعتبارنا كذلك التطور الكبير في سلاح البحرية الصيني وامتلاكه لعدد من حاملات الطائرات، والصواريخ المتطورة المضادة للسفن، فسنجد أن الصين قد أصبحت تمتلك قوة ردع تقليدية مرهوبة الجانب تستطيع الدفاع عن مصالحها في البحار المحيطة بها، بما في ذلك الجزر المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي.
وخلاصة القول إن الصين قد استقبلت العيد السبعين لثورتها بالإعلان عن امتلاك قوة الردع النووي والصاروخي الخاصة بها من خلال الصاروخ (دي إف - 41) العابر للقارات، والصواريخ (دي إف - 17) الفائقة السرعة وغيرها من مكونات ترسانتها الصاروخية المتقدمة، بالإضافة إلى التطور الكبير في قواتها المسلحة التقليدية لتؤكد مكانتها كقوة عسكرية عظمى.

قفزات أسطورية

ومن البديهي أن التنين الأصفر لم يكن ليستطيع تحقيق هذه الإنجازات الكبيرة في المجال العسكري، لو لم يكن الاقتصاد الصيني قد حقق قفزاته الأسطورية التي أتاحت توفير الموارد الضخمة الضرورية لتطوير القدرات الدفاعية.
والحقيقة أن المعجزة الاقتصادية الصينية لا تفتأ تثير الإعجاب، بل الانبهار في العالم كله.. فبعد سنوات من التجارب والتعثر (والثورة الثقافية) بحثاً عن نموذج صيني خاص للتنمية، وضعت الصين قدميها على طريق الإصلاح الاقتصادي والانفتاح على العالم، وفق ضوابط تحددها المصالح الوطنية.
ومنذ أن بدأت الصين سياسة الإصلاح بقيادة (دنج شياو بينج) عام 1978 حتى الآن حققت معجزة اقتصادية لا نظير بها، بمعدل نمو سنوي بلغ (9.5%) سنوياً، بما سمح بمضاعفة حجم الاقتصاد كل ثماني سنوات تقريباً، وعملت على التركيز على الصناعات المتقدمة والتكنولوجيا فائقة التطور.. واستطاعت أن تصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم منذ عام 2010.. لتصبح بعد ذلك أكبر بلد مصدر في العالم.. ووفقاً لأرقام صندوق النقد الدولي فقد بلغ الناتج المحلي الإجمالي للصين (14 تريليون دولار) عام 2018 مقابل (20.4 تريليون دولار) تمثل قيمة الناتج المحلي الأمريكي.
مع أن الحزب الشيوعي الصيني الحاكم يدير الاقتصاد وفق قواعد اقتصاد السوق.. إلا أن اعتبارات العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص ومكافحة الفقر التي تلتزم بها الدولة قد ساعدت على إخراج أكثر من (800) مليون مواطن من دائرة الفقر.. وبلغ عدد أفراد الطبقة الوسطى الصينية حوالي (400) مليون نسمة، يمثلون ركيزة بالغة الأهمية للتوازن الاجتماعي.. كما تم القضاء على الأمية التي كانت تشمل (80%) من مواطني الصين عند قيام الثورة عام 1949.. كما يتيح التزام الدولة بمجانية التعليم وبرامج التنمية البشرية فرصاً جيدة للحراك الاجتماعي للمواطنين.

التفاوت في مستوى التنمية

بالرغم من الإنجازات الهائلة التي حققتها الصين، فإنها تواجه مشكلة التفاوت في مستوى التنمية، بين المناطق الشرقية المتطورة، حيث الصناعة المتقدمة والمدن الحديثة وشبكات المواصلات والاتصالات الممتازة، وبقية مناطق البلاد الشاسعة
(9 ملايين كم2) في الوسط وبصورة أخص في الشمال والغرب، ما يقتضي جهوداً أكبر لتطويرها في كافة المجالات.
وعلى المستوى السياسي تشعل الولايات المتحدة حرباً باردة فعلية ضد الصين، وتحاول تأجيج المظاهرات المعارضة والنزعات الانفصالية في هونج كونج، كما تشجع دعاة الانفصال والإرهاب في شينجيانج من الأويجور (غرب البلاد).. وتبذل كل جهدها لتوسيع الهوة بين الصين وتايوان، وإعاقة إمكانية عودة الجزيرة إلى الوطن الأم.
لكن التنين الأصفر العملاق يثبت قدرته على مواجهة التحديات والمشكلات بنجاح مشهود.. وتستقبل الصين الذكرى ال70 لثورتها وتأسيس جمهوريتها بإنجازات ضخمة لتبرز ملامح النظام العالمي بوضوح أكبر باعتباره نظاماً متعدد الأقطاب.. تتقدم الصين رويداً رويداً لاحتلال قمته.

* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"