شامس بن محمد المدحاني . . استحضار نصف قرن مضى

عاش حياة قاسية بين الجبال والغربة والعسكرية
12:37 مساء
قراءة 7 دقائق

إن كنت من عشاق السياحة الجبلية أو من المتشوقين لمعرفة ما وراء الجبال والأودية في منطقة رؤوس الجبال في الفجيرة ورأس الخيمة وسلطنة عمان، أو تستهويك الحياة العسكرية أو حياة الأسفار، فما عليك إلا أن تصحبنا في هذا الرحلة واللقاء الذي استضافنا فيه الوالد شامس بن محمد بن شامس الشامسي المدحاني الذي حملنا على ظهور الجمال ورجع بنا إلى نصف قرن من ذاكرة الزمن والتاريخ وعصر لم نعشه وطاف بنا بقاعاً كانت في زمنه عامرة ولم يبقَ منها في زماننا سوى الصورة والكلمة التي يصورها لك بعض كبار السن ممن عاشوا تلك الحياة الصعبة والقاسية بحلوها ومرها .

أنا من مواليد قرية مدحا في منطقة رؤوس الجبال عام 1944 ميلادية، وكانت هذه القرية إلى ما قبل الستينات قرية عامرة بالناس وبساتين النخيل والهمبة (المانجو) واللومي (الليمون) والخضار المختلفة والغليون، وكانت تمد الكثير من مدن الخليج باللومي والتمور والهمبة والفندال (البطاطة الحلوة) والتتن (الغليون) .

كان يتراوح عدد سكان مدحا بين 14 و 15 ألف نسمة وكانوا يتوزعون في مناطق عديدة منها، وكانت بها آبار المياه والأفلاج وينابيع من أعلى ووسط الجبال، التي جفت مع مرور الزمن وبقيت الأفلاج فقط هي الحية وتجري فيها المياه، وكان يحيط بمدحا العديد من القلاع والأبراج الاستطلاعية والدفاعية التي تسمى سيبة كون مدحا كانت مطمعاً للصوص وقطاع الطرق لما فيها من الخيرات والإبل والماشية والنخيل والحبوب والخضرة، وكانت تتعرض كثيراً لغاراتهم التي يصدها الأهالي بكل بسالة وشجاعة، وكان سكانها ينقسمون إلى قسمين هما المدحاني والسعدي، والمدحاني ينقسمون إلى آل بوشامس والكنود والشحوح والبداة والعوامر وجوهرية، وكان السعديون يسكنون ويتمركزون في الغونة وينقسمون إلى السوالم وبني حميد الذين يسكنون حجر بني حميد التي هجروها وانتشروا واستقروا في خورفكان ورأس الخيمة والشارقة، وكنا نحن نعيش في منطقة تعرف باسم ظهر بن شامس تقع في شمالي مدحا، وكانت لنا محوز وهي مناطق كانت تحوزها العوائل والقبائل حسب العرف وتنسب إليها وهي التي يقطع منها عسل النحل من خلاياها وأماكن تجمعها في الجبال .

حافظ القرآن

حفظت أجزاء عديدة من كتاب الله الكريم وكنت ولله الحمد أستوعب الدروس سريعاً، وكنت أحفظ من دون كتابة وقراءة، وهذا ما لاحظه عليّ العديد من الأشخاص من الأهل والأقارب وأصدقاء الوالد وكان من بينهم المرحوم سالم بن طالب وهو تاجر قطري كان يسكن مدينة الشارقة بياع شراي في سوقها، فطلب من والدي أن يأخذني معه إلى قطر ويتركني عند أسرته ويلحقني بمدرسة في قطر فرفضت والدتي لصغر سني حيث كان عمري حينها سبع سنين، وكان والدي راعي طرشات أي صاحب سفرات يسرح في الشتاء بالحيوانات وفي الصيف بالتمر واللومي والهمبا وغيرها من الفواكه والخضار ويقصد أسواق الشارقة ودبي، وكان المرحوم سالم بن طالب يحث والدي على تعليمي كلما رآه أو رآني معه .

وفي العام 1962 ميلادية سافرت مع العديد من أهل مدحا إلى دولة الكويت، منهم علي بوحسن وأحمد الغديري وحمدان محمد السعدي ومحمد عبدالله خلفان وعبدالله محمد المدحاني وأخوه يوسف الذي درس في الكويت حتى الثانوية ومن ثم أكمل دراسته في أمريكا وهو حالياً مهندس، وأحمد علي ناصر الذي كان يعمل في الصباح ويدرس في المدارس والمراكز المسائية حتى أنهى دراسته الثانوية وهو يعمل في شرطة دبي حاليا برتبة ملازم أول، وكان معنا في الدراسة المرحوم عبدالله سعيد المدحاني الذي كان أكبرنا سناً والذي كان يحيط بنا ويرعانا كأولاده وإخوانه الصغار .

أخذنا سكناً في منطقة المرقاب عند بوابة الشامية الذي كان عندها مركز الشرطة الخاص بهذه المنطقة، وكانت بوابة الشامية بوابة المدينة جهة الصحراء، وكان من جيراننا من أهل الكويت الأكرمين الأخيار عبدالرحمن الطراروة وكان عمره حينها ثمانين عاماً وأنا عمري ستة عشر عاماً، سألني أول ما رآني: من أين أنت؟ فقلت له: من مدحا، فقال لي: أنا زرتها مرات عدة وأعرف أهلها ومنهم فلان وفلان، وعدّ لي الكثير من أهلها، وقال لي: أنا محمل منها التمر واللومي وغيرهما من بضائع، وقد رعاني في دراستي وشجعني كثيراً، رحمه الله .

ومن أهل الكويت الطيبين وهم كلهم طيبون فهد محمد صالح العتيقي وأخوه داوود، وعبدالمحسن الخرافي الذي كان مسؤول الشرطة في مركز الشامية وكانوا نِعم الرجال .

أيام الدراسة

درست أربع سنوات وهي المرحلة الابتدائية في المدرسة المباركية في الفترة المسائية مثل بقية الذين كانوا معي، حيث كنا نعمل في الصباح وندرس في المساء، وكنت أعمل في مركز شرطة الكويت وفي مركز شرطة الشامية القريب من مقر سكننا، إضافة إلى بعض من سافروا معي من الأهل والأصدقاء، وكانت رواتبنا من عشر إلى خمسة عشرة ديناراً، وكانت تكفينا في حياتنا الطيبة في الكويت التي كان يعمل فيها الكثير من أهل الإمارات وسلطنة عمان، حيث كانوا يعملون في مهن عديدة مثل قيادة سيارات الأجرة وفي بعض الوزارات والدوائر الحكومية كسعاة ومراسلين، وكثير منهم عمل في صيد وبيع السمك وفي شركات التنقيب عن النفط، وبقيت في العمل في شرطة الكويت إلى العام 1966 ميلادية .

وكنا بعد دراستنا المسائية نعود إلى البيت للمذاكرة وإعداد الطعام ومن ثم ننزل إلى السوق، حيث كانت توجد مساحة شاسعة من الأرض كنا نلعب فيها رياضة التبة والمقسي أو القبة أي كرة القدم، وكذلك كنا نلعب الكريكت مع إخوتنا الكويتيين وأهل الإمارات وسلطنة عمان .

في العام 1966 عدت إلى الوطن والتحقت بقوة ساحل عمان حتى العام 1970 ميلادية، وكنت مرافقاً للعديد من الضباط الإنجليز الذين كانوا يقومون برحلات استطلاعية لدراسة الحدود وتحديد المواقع العسكرية المهمة في المناطق الجبلية وكنت أحد الأدلة المعتمدين لديهم، وهذا ما ترك لديّ حصيلة كبيرة من المعرفة بالمناطق الجغرافية في منطقة رؤوس الجبال، وقد شاركنا في أحداث سلطنة عمان والجبل الأخضر وكنا حينها صغار السن نعمل على أجهزة اللاسلكي، وكان معنا في هذه الأحداث الشيخ حميد بن سلطان القاسمي والشيخ عبدالعزيز بن محمد القاسمي والشيخ بطي بن سهيل بن بطي آل مكتوم وخلفان بن مطر الرميثي وهم من مؤسسي قوة ساحل عمان وكبار وأقدم ضباطها وعسكرييها .

طرق القوافل

كانت القوافل قديماً تمر في طرق معروفة والتي توصل بين المناطق الجبلية والساحل الشرقي وبين مدن الساحل الغربي مثل الشارقة ودبي، وكنا مع والدي أثناء تنقلاتنا نقصد كثيراً طريق الذيد التي توجد فيها قبائل الخواطر وبني قتب والطنيج والمحاينة وهم آل محيان ومنهم العميد علي بن عبدالله بن محيان المرافق العسكري لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة، وبعد الذيد تأتي سيح المهب وشماليها الزبيدة والوشاح ثم حمدة وتليها فلي وغربيها مليحة والمدام وجبال خضيرة واْخْيضر ثم جنوبيها شوكة ويحدها شمالاً وادي سيجي .

وبعد سيح المهب تأتي حويرا وهي قبل سيجي وهي سيح بين الرملة والجبل، وتليها الثقاب البيض والعرفج وحلف بني سعيد وهي تابعة لسيجي ومنها تنزل على وادي سيجي وشرقيها العشواني، ومن جهة الجنوب تأتي مسافي التي تنقسم إلى مسافي المحارزة ومسافي الشرقيين، وأعرف فيها بعضاً ممن كانوا معي في الحياة العسكرية أيام لواء بدر، وهم سنان وراشد بن خلف وسعيد بن محمد بن سالمين وهم من النقبيين أهل دفتا، وكان معنا من أهل غمرة خميس سالم بن حشر أخو سعيد .

وبعد حويرا تأتي ثوبان وتليها المنامة التي هي بين النعيم والشرقين، ومن ثم تأتي أذن التي فيها الزحوم والمزاريع الذين يوجدون أيضاً في الطويين وعسمة ووادي السدر ووادي البيح الذي ينزلك إلى دبا .

موارد القبائل

كنا كثيراً ما نسير في طريق الذيد الذي تكثر فيه الموارد وخاصة منطقة الذيد وهي الشريعة التي بها فلي الذيد ويبراله فلج المعلا، والزبيدة فيها الطوي الذي ينزل عليه الرعيان والطروش القادمون من دبي والشارقة ويريدون مناطق وقرى الجبال، وبالعكس فمن كان يأتي من المناطق الجبلية يريد الساحل ينزل إلى هذا المورد ومنهم من يسرح إلى دبي ومنهم من يقصد الشارقة .

وكان الطريق الرئيس للقوافل والمسافرين بين مناطق الساحل الشرقي والساحل الغربي هو وادي سيجي ووداي حام وكانت القوافل قديماً أيام الجمال والحمير تقصد هذا الطريق، وكانت تتوسط وادي حام قطعة جبيلة كبيرة تسمى حصاة المَنْ والمن من وحدات الوزن تساوي أربع كيلوغرامات، وكان الطريق من دبي والشارقة إلى الفجيرة وبالعكس يستغرق عشرة أيام على ظهور الجمال والحمير ذهاباً وإياباً، وقد سلكته وقطعته في هذه المدة أيام مرافقتي لوالدي في أسفاره وتجارته، وطريق حام يسمى طريق الصراط المستقيم لأنه لا تحويل ولا فروع تتفرع منه وهو في خط مستقيم، وقامت الدولة بتمديد الطريق الأسفلتي في مسارات الطرق القديمة نفسها، وقد مر هذا الطريق على منطقة تسمى المطوية وهي أخطر منطقة لصعود ونزول المركبات وقد حصدت الكثير من الأرواح منذ بدأ استخدام هذا الطريق من قبل السيارات، وكان أول ضحية لهذا الطريق هو المرحوم حارب الزعابي أحد أعز الأخوة والأصدقاء توقفت السيارة به وبأخيه الذي كان يقودها نتيجة عطب أحد إطاراتها فنزل لإصلاحها فدهسته سيارة مسرعة قتلته من فوره، رحمه الله .

والقادم من الشارقة عليه أن يمر بمناطق الفاية والمدام والفلي ومليحة وشوكة ويقصد طريق وادي القور، والذي يأتي من الساحل الشرقي من الشارقة ودبي ويقصد الباطنة يأخذ طريق وادي سيجي ومنها يصل إلى الساحل الغربي في الفجيرة، وكذلك من يريد مدن خورفكان وكلبا ودبي يأخذ طريق سيجي ووادي حام، وكذلك طريق حتا يوصلك إلى الباطنة وكان يقصده أهل دبي والعين وأبوظبي، والذي ينزل على السميني ووادي ديه اللذين يسكنهما بدو رحل ينزل إلى الروضة ومنها إلى وادي الوياية .

شويص وسكمكم

يقال في أمثال أهل المنطقة وخاصة أهل الفجيرة: وين شويص عن سكمكم، وهو مثل أو سؤال وأحجية تضرب للآخرين لتبين قرب منطقة من منطقة أخرى والتي تكاد أن تدخل فيها وتكون جزءاً منها مثل قريتي وجبلي شويص وسكمكم القريبين من بعضهما بعضاً ولا يفصل بينهما سوى سيح ضيق وصغير، ومَنْ لا يعرف ذلك يقال له هذا المثل أو الأحجية فإن لم يعرف عن المنطقتين شيئاً أجاب بعدم علمه بشيء فيقال له هذه شويص وهذه سكمكم فيرى قرب المسافة الذي بينهما مع أنهما قريتان وجبلان منفصلان عن بعضهما بعضاً .

وفي العام 1971 ميلادية تشكلت قوة دفاع دبي فاْلتحقت بها عام ،1972 وكان راتبي عند تعييني 270 درهماً، وفي العام 1975 شاركنا في قوات حفظ السلام في لبنان .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"