التجاني يوسف بشير شبيه أبي القاسم الشابي

ويح الأديب يوم ضياعه
06:45 صباحا
قراءة 5 دقائق

الشاعران المتشابهان هما أبو القاسم الشابي (تونس) والتجاني يوسف بشير (السودان). ولئن عرف الأول عربياً وذاع صيته، فإن الآخر ظل متروكاً غير معروف، رغم قدحه الأعلى وقيمته الشعرية الكبرى في ما يظن النقاد من أهل السودان المنسي ذكرهم عربياً.

وعليه، فيستحق التجاني (الشبيه المنسي) في ذكرى (الشبيه الذائع) الشابي 1910 1934 بعض الإضاءة والتعريف به ويشعره أملاً في أن يحتل بعض مكانة غير جاهزة له بعد.

نقول: التجاني يوسف بشير، الملقب بشاعر الروح والوجدان والخلود، صاحب ديوان شهير في بلاد السودان بعنوان اشراقة، من بيت دين مشهور بالكتياب، وهم ينتسبون إلى قبائل الجعليين، بيته له عراقة وتقاليد ومشهود له بالعلم.

ولد التجاني عام 1912 وتوفي عام 1937 عن 25 سنة. لقبه أهله بالتجاني تيمناً بصاحب الطريقة التجانية المعروفة، فنشأ اسماً على مسمى، ورعاً وصوفياً بامتياز. درس القرآن في خلوة جده، ثم انتقل إلى المعهد العلمي في أم درمان، وتاق إلى الدراسة العليا في مستودع الثقافة (مصر)، إلا أن سعيه خاب وأمله ذهب أدراج الرياح، فظل شعور الحنين إلى (الشمال) يراوده ويوخزه بين حين وحين.

التجاني من بيت شعر أيضاً، من أخواله محمد عبدالوهاب القاضي، ومحمود عبدالوهاب القاضي، ومن أبناء خالاته صديق المجتبى وعبدالقادر الكتيابي، وله أقرباء نقاد وشعراء.

عمل التجاني باكراً في الصحافة السودانية في فترة الثلاثينات بالغة الأهمية بعد عشرينات الثورة والانقلابة الثقافية والفكرية المهمة في تاريخ السودان ابان الحكم الانجليزي.

تطلع إلى مصر وإلى (أبوللو)، تطلع إلى (الرسالة) وإلى شعراء وأدباء نهضوا إلى الرومانسية العربية، بل نهضوا إلى الجديد في السينما والمسرح والفنون والأساطير والآثار وقيم الحداثة، فصال وجال بقلم جريء رصين سيال.

جاء إلى السياسة من باب (الوطن):

قف بنا نملأ البلاد حماساً

ونقوض من ركنها المرجحن

هي للنازحين مورد جود

وهي للآهلين مبعث ضن

يستدر الأجانب الخير منها

والثراء العريض من غير من

هو ذا الشعور الوطني الجارف، ثورة ضد المستعمر الذي امتص خيرات البلاد والعباد، وترك حال أهل البلاد للودار.

قلنا إن التجاني ينتمي شعرياً إلى الرومانسية، فلنقل إنه الرائد الأول للرومانسية في بلاد السودان، أليس هو القائل:

أنا إن مت، فالتمسني في شعري

تجدني مدثراً برقاعه؟

فلننظره (يا لروعة عبارته فالتمسني) في شعره محاولين التعرف إلى رؤيته للرومانسية وللجديد وللشعر ماهية، معنى، مبنى..

يقول عن (الشاعر):

أنت قيثارة الجديد، بك استظهر من الوجود سر متاعه

أدب ملؤه الحياة وشعر مفعم بالسمو في أوضاعه

(القيثار) الناي، الكمان، رمز أوروبي للآلة/ للموسيقا/ ولكنه معادل حقيق بالربابة في المجتمعات العربية.. وتأتي القيثارة (مذكراً ومؤنثاً) في صياغاته الشعرية.

الشاعر هو صوت الجديد المبشر بوجود مغاير، بأدب للحياة وشعر للسمو والجمال.

فما الرومانسية بداية؟

هي ثورة على الكلاسية، والكلاسية العائدة.. هي انقلاب على قوالب ومعايير مفخمة مبالغ فيها شعرية إلى درجة عالية بتقاليد الأوزان والقوافي والتراكيب المعجمية.

ثورة تأتي إلى الجديد الذي يقرب الشعر إلى الحياة والواقع.. ثورة تقرب الشعرية إلى النثرية.

ثورة تقرب اللغة الشعرية إلى اللغة العادية اليومية..

هي ثورة تأتي بالشعر إلى الحياة الاجتماعية..

هي ثورة تأتي بالخيال المجنح إلى الواقع..

ولكن كيف؟

التعبير والتخييل

شعر الرومانسية مبعثه الشعور والمشاعر القوية الدافقة، وإعمال الخيال قوة خلاقة توجد من نفسها لغة تعبيرية تذهب بالتصور إلى التخييل.. تذهب الحقيقة معها إلى الجمال.. ويذهب الشعر إلى الحقيقة.. كما يذهب إلى الجمال.. الشعر والعاطفة.. الشعر والوجدان.. الشعر والروح.. الشعر والخلود.. والشعر والأخلاق.. منذ أوفيد والشعر لا يسف أو يسيء.. ومع الرومانسية الشعرية باعث على السوية الأخلاقية، فهو يوسع المخيال في دواخل البشر مما يعني تطهيراً وجمالاً.

بهذا النحو المكثف المختصر تكون الرومانسية التي أخذ العرب منها المشرب الأول من الفرنسيين والانجليز.. ولم تقتصر مجلة أبوللو في أن تكون صوت الجديد.. وفيها محل للتجاني وللشابي والهمشري وناجي.. و..

الرومانسية انطلقت من المفاهيم اليونانية القديمة، وأحيت قيم التعبير الجديدة.

من الشاعر الجديد؟ الرومانسي؟

يقول التجاني:

عبقري من نفحة الخلد مأتاه

ومن مهبط الهوى وبقاعه

يكتب التجاني يوسف بشير في مقالته (في المستوى الشعري للأمم): إن من أكبر الدلائل على سمو الخير في الأمة، وتمكن الأمة من الخير، أن يكون لها من ذوقها الشعري ما يدفعها إلى تفهم الجمال الحق، في أدق مظاهره الشعرية التي قد تكون سكوناً، وقد تكون حركة أو شيئاً منهما، وقد تكون صمتاً وقد تكون كلاماً أو شيئاً منهما، والتي هي لمحات وإيماء في عبارات كالصور أو صور كالعبارات، تفيض بها النفس من داخلها أو يطفح بها الكون من خارج النفس.

وإن أكبر الدلائل على سمو الذوق في الأمة، أن يكون للجمال المطلق في سلك حيواتها منزلة (المعبود).

وللشعر المطلق في كل مخادع صبواتها منزلة (العابد).

هو إذن (عبقري) بمعنى مغاير لوادي عبقر.. وإن تناصا غاية.. الشاعر ينداح قريضه مستلهماً سحر الجمال.

بعض أندائه فيوض من النور

ونبع من قوى خلاقة.

هي خلاقة من الشعور.. الخيال الدافق:

فهي دفق من عالم كله قلب خفوق.

من المشاعر القوية إذن هذا الدفق.. وهو دفق يصنع (الوجود المغاير).. إنه (ثورة) جارفة:

من لهذا الأنام يحميه مني

قلمي صارمي وطرسي مجني

هو فني إذا اكتهلت وما زال

على ريق الحداثة فني

هي ثورة الحياة الجديدة.. الحداثة.. الجمال.. الروح:

قم يا طرير الشباب

غني لنا غني

يا حلو يا مستطاب

أنشودة الجن.

واقطف ليّ الأعناب

واملأ بها دني

من عبقري الرباب

أو حرم الفن...

وعن الشعرية وصناعة الشعر، يخلص التجاني في بيت شعر واحد الى صورة كاملة لقيثاره الجديد، الشاعر:

1- فتخير

2- وصف

3- وصور

(رؤى الوحي)

4- وصغ

5- واصنع

(الوجود المغاير)

* يكتب محمد عبدالحي في (الرؤيا والكلمات - قراءة في شعر التجاني يوسف بشير): التركيز والنقاء هما الهدفان النهائيان للصناعة الشعرية عند التجاني (..) التركيز الشكلي يضمر محاولة متصلة لتركيز الوعي الشعري بالعالم (..) الى أن يتخلص الشعر من الموضوع، تخلصاً نهائياً، ويصبح (الحضور الشعري) محور عمل الشاعر.. وهذا يفسر لماذا كانت أكثر قصائد (إشراقة) عن طريق مباشر هي شعر عن الشعر.

هذا الطائر الغرد، هذا السابح في النور، هذا الناهض من نبع قوى خلاقة، لا يسعه الكون، يندغم في الطبيعة:

رقصت في الفضاء نفسي حتى

أوشكت من يدي أن تتبدد

أي تبدد هذا الذي يعنيه لنفس (تطاير كالشعاع).

التجاني يوسف بشير عنوان ديوانه (إشراقة)، فأي معنى للإشراق نلمسه ونحسه في شاعر عاشق للجمال والخلود وهو يصيح انتشاء:

- ربِ ما أعذب الجمال وأحلى..

- انظري الجمال في كل عين.

- طاف بالروح من غنائك شجو

نفض الروح في الفضاء وغرّد.

- بعض هذا الجمال يظهر بعضاً؟

من قصيدة (جمال وقلوب) نقرأ:

وحملناك يا جمال وصغنا

لك أنفاسنا هياماً وحباً

ووهبنا لك الحياة وفجّرنا

منابيعها لعينيك قربى

وسمونا بكل ما فيك من

ضعف جميل حتى استفاق وأربى

وحبوناك مما يزيدك بالعز

وضوحاً وأنت تفتأ صعباً

وذهبنا بما يفسر معناك

بعيداً وأنت أكثر قرباً

* * *

هو ذا شاعر رومانسي تخيّر قاموسه ولغته فتميّز في عصره وزمانه في وطنه المنسي، فتأسف:

أدب ملؤه الحياة وشعر

مفعم بالسمو في أوضاعه

ضاع، ويح الذي يغار عليه

الشعر وويح الأديب يوم ضياعه.

* القصائد من ديوان إشراقة للتجاني يوسف بشير ط،8 دار الجيل، بيروت 1987. من المعروف أن نشر ديوان إشراقة قد تم للمرة الأولى في مصر. الديوان في قسمين، تم نشر بعضه، باعتباره الديوان الكامل، وفُقد أو ضُيّع بعضه. توجد نسخ مصورة لأصل الديوان.. ويوجد نفر كريم حقق المخطوطة ووقف على تحريفات وعيوب طباعية وخلل في قصائد وحذف وإضافة هو ما أسبغ على الديوان ما ليس فيه، من مثل هذه (أمة) يفيض بها القيثار، وصحيحها هذه (أمه).. وقس على ذلك.

نتمنى أن تجد النسخة الحقيقية للشاعر طريقها الى النشر السريع في القريب العاجل، وأن تصل الى أيدي أبناء وبنات العروبة من الماء الى الماء..

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"