موسكو وواشنطن.. صراع سيبراني

04:53 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. نورهان الشيخ *


أدت الثورة التكنولوجية والمعلوماتية إلى بروز الفضاء الإلكتروني ليكون أحد مجالات التنافس والصراع بين القوى الكبرى، وظهر لأول مرة مفهوم الحرب الإلكترونية أو السيبرانية التي يعتبرها البعض حروب المستقبل، وأنها لا تقل خطورة عن الحروب التقليدية من حيث التهديد الذي تنطوي عليه وحجم التدمير الذي يمكن أن تؤدي إليه أخذاً في الاعتبار السرعة الفائقة، والانتشار الواسع، وكونها تُنفَّذ بأساليب يصعب تتبعها في كثير من الأحيان.
مثل هذه الهجمات الإلكترونية تكون بالتحكم والسيطرة على أجهزة الحاسبات والمعلومات والشبكات الإلكترونية والبنية التحتية المعلوماتية والمهارات البشرية المدربة للتعامل مع هذه الوسائل.
في خضم التوتر المتصاعد بين موسكو وواشنطن حول مدى واسع من القضايا الثنائية والإقليمية، تزداد حدة المواجهة السيبرانية بينهما في ضوء الاتهامات المتبادلة بتوجيه هجمات إلكترونية على أهداف حيوية، كان آخرها ما أثير حول مقالة صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية التي نُشرت في ال 15 من يونيو / حزيران الجاري، وتضمنت تقارير تفيد بأن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية تنشط عمليات قرصنة إلكترونية ضد مؤسسات حكومية روسية حيوية، وأن جنوداً في قيادة الحرب السيبرانية الأمريكية زرعوا الشيفرة الخبيثة في أنظمة الطاقة الروسية لضربها حال تدهور العلاقات بين البلدين، ويُسمح لهذه المجموعة من القراصنة العسكريين بتنفيذ «نشاط عسكري سري» على شبكات الكمبيوتر وفقاً لقانون تفويض الدفاع الوطني، الذي صدر في عام 2018.
وعلى الرغم من أن الرئيس ترامب نفى ذلك، بل واتهم الصحيفة «الفاشلة»، على حد تعبيره، بارتكاب «عمل قد يرقى إلى الخيانة»، فإن روسيا على لسان الناطق باسم الرئاسة، ديميتري بيسكوف، لم تستبعد أن مؤسسات أمريكية ما تابعة للدولة تفعل ذلك من دون إبلاغ الرئيس ترامب، مؤكداً أن المجالات الاستراتيجية الحيوية للاقتصاد الروسي كانت ولا تزال تتعرض لهجمات إلكترونية من الخارج، وأن موسكو تتعرض لهجمات إلكترونية أمريكية «منذ سنين».
وسبق أن أعلن نائب وزير الدفاع الروسي، ألكسندر فومين، في ال 26 من أكتوبر / تشرين الأول 2018، أن طائرات استطلاع أمريكية عملت على توجيه الطائرات المسيرة التي أطلقتها الجماعات الإرهابية مستهدفة قاعدة حميميم الروسية مطلع عام 2018.
على الجانب الآخر، تتصاعد الاتهامات الأمريكية والغربية لموسكو بشن هجمات إلكترونية عليها، من أبرزها اتهام روسيا بالتدخل في الانتخابات الأمريكية لعام 2016، ومحاولة الهجوم السيبراني على منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، واتهامات الاستخبارات الهولندية والبريطانية التي أسفرت عن اعتقال أربعة أشخاص قيل إنهم أعضاء في وكالة الاستخبارات العسكرية الروسية. وكذلك اتهامات وزارة العدل الأمريكية ضد سبعة من عملاء الاستخبارات الروسية بقرصنة منظمات مكافحة المنشطات الدولية.
ونفت روسيا في أكثر من مناسبة هذه الاتهامات، وأشار نائب مدير مركز التنسيق الوطني الروسي لحوادث الحاسوب، نيكولاي موراشوف، إلى أن إحصاءات التوزيع الجغرافي لمصادر الهجمات الإلكترونية عن عامي 2016-2017 تُظهر بوضوح أن المصدر الرئيسي للنشاط الإلكتروني الخبيث هو الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وأن الولايات المتحدة تحتل المركز الأول، وفقاً لتصنيف الدول التي تشكل مصدراً للتهديدات لأمن المعلومات، تليها فرنسا وهولندا ودول أخرى.
يتزامن هذا مع تسابق البلدين لتعزيز أمنهما السيبراني في مواجهة أي هجمات محتملة من الطرف الآخر، فقد أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال حواره المباشر ال 17 مع المواطنين الروس في ال 20 من يونيو / حزيران الحالي، استعداده للحوار مع نظيره الأمريكي دونالد ترامب، وأكد ضرورة الرد على الهجمات الإلكترونية الأمريكية التي تتعرض لها روسيا، وأشار إلى أن روسيا طرحت على الجانب الأمريكي مبادرة لوضع قواعد العمل في الفضاء الإلكتروني، إلا أنه لم يكن هناك رد أو استجابة من واشنطن. وفي ال 10 من سبتمبر / أيلول من العام الماضي أنشأ جهاز الأمن الفيدرالي الروسي مركزاً وطنياً لتنسيق مكافحة الهجمات السيبرانية على البنية التحتية الحيوية في روسيا، يتولى مهام الكشف والوقاية والقضاء على تداعيات الهجمات الإلكترونية، وتبادل المعلومات بين الهيئات المتخصصة في الداخل والخارج، وتحليل الهجمات السيبرانية الماضية وتطوير أساليب مكافحتها. وجارٍ العمل على فصل روسيا كلها عن الإنترنت بهدف زيادة فاعلية دفاعاتها ضد الهجمات الإلكترونية والقرصنة، حيث إن تداول البيانات بين المواطنين والمؤسسات في هذه الحالة سيكون داخل البلاد لا عن طريق مراكز توجيه دولية. وكان البرلمان الروسي قد وافق في ال 12 من فبراير / شباط الماضي على قانون عزل البلاد عن شبكة الإنترنت العالمية، لجعل البلاد في موقع أفضل لصد أي هجمات إلكترونية محتملة من الخارج، وبخاصة من الولايات المتحدة، وذلك على غرار نظام جريت فايروول الصيني، الذي ينظم الإنترنت لتعزيز السيادة الوطنية.
من ناحية أخرى، تعزز واشنطن من دفاعاتها السيبرانية أيضاً، حيث أنشأت القيادة الإلكترونية الأمريكية مجموعة عمل خاصة لمواجهة أنشطة روسيا في الفضاء السيبراني، ووقع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مرسوماً في ال 16 من أغسطس / آب من العام الماضي يلغي بموجبه التوجيه الرئاسي لسلفه باراك أوباما لتنظيم استخدام الأسلحة السيبرانية ضد معارضي الولايات المتحدة، رقم 20 لعام 2012، على النحو الذي يخفف القيود المفروضة على شن هجمات سيبرانية ضد معارضي واشنطن. وقد ظل مضمون هذه الوثيقة سرياً حتى عام 2013، عندما كشف الموظف السابق في وكالة الأمن القومي الأمريكية إدوارد سنودن عن عدد من الوثائق السرية المتعلقة بعمل أجهزة الاستخبارات الأمريكية والبريطانية.
كذلك أصدر البنتاجون مطلع عام 2018 قائمة «لا تشترِ» متضمنة أسماء عدد من الموردين الذين ربما استهدفتهم مجموعات القراصنة المعادية الذين تدعمهم روسيا والصين، وجرى تعميمها على مسؤولي عمليات الشراء الذين يعملون مع الجيش الأمريكي لتزويده بالخدمات المرتبطة بالتكنولوجيا وغيرهم من الفرق المسؤولة عن توفير البرمجيات للقوات المسلحة الأمريكية.
كما أعلنت واشنطن عزمها على التعاون مع شركائها الدوليين لتعزيز أمن الفضاء الإلكتروني، وفي هذا السياق أعلن الأمين العام لحلف شمال الأطلسي «الناتو»، ينس ستولتنبرج، في ال 6 من يوليو من العام الماضي، أن قادة الحلف وافقوا على إنشاء مركز للعمليات السيبرانية في حلف شمال الأطلسي، وكان الحلف قد أنشأ في عام 2008 مركزاً خاصاً به في مجال الدفاع السيبراني في تالين، تشارك في أعماله 20 دولة، وجرى منحه وضع منظمة عسكرية دولية، وينظم سنوياً تدريبات دولية على الدفاع الإلكتروني.
على الرغم من كل الجهود من الجانبين لتعزيز الأمن السيبراني يظل سباق الهجمات السيبرانية قائماً، وربما يتصاعد في ظل التوتر المتزايد بين موسكو وواشنطن، وإعلان ترامب تخليه عن حيادية شبكة الإنترنت، وهو الأمر الذي يثير مخاوف القوى الكبرى في النظام الدولي، وخصوصاً الصين وروسيا اللتين تطالبان بانفتاح أمريكي في التعامل مع فرص السيطرة الدولية على أمن الفضاء الإلكتروني.

* كاتبة وأكاديمية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"