"بيت ديكسون" شاهد حي على التاريخ الكويتي

حولته الدولة من منزل إلى متحف ثقافي
01:00 صباحا
قراءة 7 دقائق

بين عصرين يقف متحف بيت ديكسون على الخليج العربي شاهداً على مراحل بالغة الأهمية في تاريخ الكويت، وبين ماض لعب فيه البيت الدور الأبرز كسكن للمعتمد البريطاني في البلاد وارتبط اسمه بأشهر معتمد سطر اسمه في تاريخ منطقة الخليج، وحاضر يلعب فيه دوراً تنويرياً بالغ الأهمية من خلال نشاط ثقافي وحضاري مميز، تأتي أهمية البيت التاريخي الذي لايزال محافظاً على عمارته وطرازه الذي يعد الأقدم في البلاد، كما يحتفظ البيت بين جنباته بعبق التاريخ الأصيل وقصص وحكايات مصورة لأشهر قاطنيه وكيف انخرطوا في المجتمع الكويتي وامتزجوا مع أهله .

بني بيت ديكسون في نهاية القرن التاسع عشر على موقع مطل على البحر قرب قصر السيف، وتعود ملكيته إلى أسرة آل الصباح الحاكمة، ويعتقد أنه كان في الأصل ملكاً لأحد التجار الكويتيين، يبدو أنه كان يستخدمه كمخزن وسكن، وعقب الاتفاقية التاريخية التي تمت بين الشيخ مبارك الكبير وبريطانيا عام 1899م، أصبح هذا البيت مكتباً وسكناً للمعتمد السياسي البريطاني في الكويت منذ عام 1904م، وحتى عام 1935م ويستخدم حالياً كمركز ثقافي ومتحف لتاريخ العلاقات الكويتية البريطانية .

ويتألف البيت، في الأصل، من عدد من الغرف في الدور الأرضي تتقدمها، في الواجهة الأمامية الرئيسة المطلة على البحر، بائكة من أربعة أقواس مدببة توجد خلفها غرف لها دهليز عريض ومرتفع يبدأ من الممر الأمامي وينتهي إلى الحوش الفناء الخلفي، وبما أن الدهليز معرض لتيار هوائي بحري لطيف لأنه مفتوح من طرفيه، فلابد أنه قد استخدم كديوانية صيفية، وحين صار البيت مقراً للمعتمد البريطاني أصبح الدهليز الممر مكاناً لانتظار الزوار العرب .

ومثله مثل سائر الابنية الكويتية تتسم عمارة بيت ديكسون بالبساطة فأساساته مبنية من حجر البحر المرجاني، وجدرانه من اللبن الطين أو حجر البحر المرجاني السميك المرتبط بعضه ببعض بوساطة الطين، أما عوارض الشندل المؤلفة من جذوع شجر القرم مانجروف المستورد من شرقي إفريقيا، وهي عبارة عن عوارض متوازية تصف عرضاً فوق الجدران . يعلو الشندل طبقة الباسجيل وهي شرائح من أعواد الخيزران القصب ترتب في صفوف متقاطعة، ويفرش فوقها طبقة البواري، وهي الحصير المنسوج من الخيزران، تغطى جميعها بطبقة من الطين المخلوط بالقش يبلغ سمكها نحو عشرين سم، وتخلط هذه الطبقة بالرماد لتكون عازلة للرطوبة .

الطراز الكولونيالي

وينحدر طراز البيت ذي الشرفة الإسبانية الكولونيالي من نمط معماري شاع في المستعمرات الأسبانية والبرتغالية وفي البحر الكاريبي وأمريكا اللاتينية في بداية القرن الثامن عشر، ثم أخذ هذا الطراز يظهر في الشرق في ما بعد، وتميز هذا الطرز الشرفة المرتفعة عن سطح البيت، والغرض من هذه الشرفة المسقوفة والمكشوفة من الجوانب، هو استقبال أقصى قدر ممكن من هبات النسيم لتلطيف حرارة بيوت المناطق ذات المناخ الحار .

وتقوم الشرفة، كما هي الحال في الليوان الممتد أمام الغرف في البيت الكويتي التقليدي، بحماية جدران الغرف التي تظللها من امتصاص الحرارة، وتخفيف وهج الشمس اللافح الذي يتسلل من النوافذ، ومن أجل الحصول على البرودة بوساطة الانتقال الحراري وسقوف البيوت الكولوينالية في الأغلب عالية والشرفات بالتالي على نفس العلو، ما يؤدي إلى دخول قدر كبير من وهج الشمس وحرارتها، لذا يغطي الجزء العلوي في الفتحات التي بين أعمدة الشرفة بمشبكات تعمل على حجب الشمس دون إعاقة حركة الهواء . وخلال القرن التاسع عشر تبنى المعتمدون السياسيون وأصحاب المصانع التجارية من الأوروبيين المقيمين في الخليج، هذا الطراز، فأقاموا أكثر مبانيهم على غرار البيت الكولونيالي في الهند على سبيل المثال بيت الحاكم في بوشهر، الذي يظهر كأنه نسخة من بيوت الهند الكولونيالية، أما بيت ديكسون، فيختلف عن تلك المباني لأنه لم ينفذ منذ البداية حسب خطة معمارية كولونيالية، وإنما عدل عن أصل تقليدي محلي .

تعديل معماري

وصل إلى الكويت، في شهر أغسطس/ آب من عام 1904م، أول معتمد بريطاني يعين فيها، هو الكولونيل نوكس الذي اشتهر بقيامه برحلة داخلية على ظهر الجمل متوغلاً الصحراء حتى وصل حفر الباطن، الذي يقع على بعد مئة وستين ميلاً غربي الكويت، ولم يزره أحد من الأوروبيين قبله .

وكان البيت، حين تسلمه الكولونيل نوكس (1904-1909م) مؤلفاً من طابق أرضي له حوش خلفي، وواجهة من الأقواس المدببة تطل على البحر وتقع خلفها المخازن وربما غرف الاستقبال والمعيشة، ويعلو سطحه، كما في البيوت الأخرى المجاورة، غرف متفاوتة الأغراض مبنية عند حافة السطح لتتلقف النسيم البارد مساءً، وبينها ساحة مفتوحة تستعمل مكاناً للنوم صيفاً .

وبعد انتهاء خدمة الكولونيل نوكس، تسلم المعتمد الجديد الكابتن شكسبير (1909-1915م) مهام منصبه في الكويت، وربطته صداقة حميمة بحاكم الكويت الشيخ مبارك بعد برودة شابت علاقتهما في بادئ الأمر، وكان شكسبير حاد الطبع ومتسرعاً بل متهوراً، إلا أنه كان شجاعاً مقداماً، فقد قام في عام 1913م برحلة على ظهر الجمل من الكويت إلى العقبة استغرقت ثلاثة أشهر، وتعرف إلى الملك سعود عام 1910م في الكويت، وفي يناير عام 1915م، قاتل إلى جانب السعوديين ضد ابن رشيد في معركة جراب، وقتل آنذاك وعمره ستة وثلاثون عاماً مخلفاً وراءه ذكرى طيبة وسمعة ذائعة الصيت، وأقيم له نصب تذكاري في الكويت، في مقبرة صغيرة للمسيحيين، هي المقبرة نفسها التي دفن فيها الدكتور ميليريا عام 1952م .

وكان تأثير شكسبير في بيت ديكسون من حيث طرازه المعماري كبيراً، إذ أجرى عليه أهم التعديلات حين حوره من نمطه العربي المحلي التقليدي إلى مزيج من هذا الطراز والطراز الكولونيالي، ومن تعديلات شكسبير المهمة الشرفة المرتفعة التي حولت البيت إلى الطراز الكولونيالي . وبعد الكابتن شكسبير، تعاقب على المنصب عدد من المعتمدين البريطانيين لفترات قصيرة متفاوتة وهم الكولونيل جراي، والكولونيل هاملتون، والكابتن لوش الذي لم يسكن في بيت ديكسون، وإنما اختار لنفسه مبنى الحجر الصحي (الكوارانتين) القديم في منطقة الشويخ - والكابتن ماكولام وفي عام 1920م، جاء بعد هؤلاء المعتمدين الكولونيل مور الذي استمر في منصبه حتى عام 1929م، وكان مور عالماً باللغة العربية الفصيحة، وتمتع بحنكة لا يستهان بها، وسعى دائماً لأن يكون مثالاً للرجل البريطاني في احترام عمله .

الكولونيل ديكسون

تولى الكولونيل هارولد ديكسون منصب المعتمد البريطاني، بعد الكولونيل مور، وخلال السنوات السبع التي خدم فيها كمعتمد بريطاني في الكويت، أبدى كثيراً من المهارة والحنكة السياسية، وخدم الكويت بحماس عظيم فاق حماس أي مستشار آخر أرسلته بريطانيا .

وأمضى ديكسون معظم وقته في الصحراء، التي كان يشعر فيها بالراحة كما لو كان في وطنه، وأعجبه أسلوب الحياة العربية وسلوكيات العرب ومبادئهم، وأحب البدو وتكلم لغتهم، وأكسبه تعلقه المخلص والأصيل بالجزيرة العربية وأهلها ثقة الحكام والمحكومين على حد سواء، فكان صديقاً مخلصاً وخادماً لا يكل للكويت وأهلها كما كانت معرفته بأهالي الصحراء وطريقة تفكيرهم وكيفية نظرهم إلى الأمور ذات قيمة كبيرة لبريطانيا حيث ساعدت على تكوين سياستها في الجزيرة العربية وفي منطقة الخليج، وإلى جانب حنكته السياسية ونشاطه الاجتماعي والسياسي واستقامة خلقه، كان ديكسون رساماً بالألوان المائية مما يشير ضمناً إلى شخصية ذات سمة رومانسية . ونظراً لتمكّنهما من اللغة العربية باللهجة المحلية ودبلوماسيتهما وحبّهما الأصيل لأهل المنطقة، اسهم الكولونيل ديكسون وزوجته السيدة فيوليت في تدوين تاريخ الكويت الثقافي، حيث سجلا ملاحظاتهما المتنوعة عن البلد، ولهما كتب في هذا المجال منها: عرب الصحراء والكويت وجاراتها كما كتبت السيدة فيوليت كتاب أربعون عاماً في الكويت والأزهار البرية في الكويت والبحرين، كما ألفت ابنتهما زهرة كتباً أخرى منها: الكويت كانت وطني . وترك الكولونيل ديكسون البيت عام 1935م لفترة وجيزة مدتها سنة، وذلك بعدما اكتمل بناء مقر المعتمد البريطاني الجديد - السفارة البريطانية وبيت السفير في الوقت الحاضر، وبعد تقاعده من الخدمة في العمل السياسي عام 1936م، وكان في الخامسة والخمسين من العمر، عينه الشيخ أحمد الجابر الصباح، في منصب الممثل المحلي الأعلى لشركة نفط الكويت التي كانت قد أنشئت حديثاً عام 1934م . وهكذا ارتبط ديكسون ارتباطاً وثيقاً بإنشاء الشركة، وبتطوير عملية استكشاف النفط في الكويت، وفي ذلك الحين انتقل إلى بيته السابق الواقع على الواجهة البحرية، وعاش فيه حتى وافته المنية عام 1959م، وواصلت أرملته السيدة فيوليت السكن في هذا البيت تلبية لطلب زوجها، وقد سمح لها أمير البلاد بالبقاء والاستمرار في استخدامه . وكانت لهذه السيدة، التي تعرف بين الكويتيين باسم أم سعود، مكانة محترمة في كل مكان، ومنحت وسام لقب (الشريفة) من بلدها بريطانيا في عام 1976م، وعاشت في بيت ديكسون حتى عام 1990م عندما نقلت إلى بريطانيا، في أثناء حرب الخليج، وتوفيت هناك في يناير من عام 1991م .

كان البيت في حالة يرثى لها حين تسلمه كولونيل هارولد ديكسون في مايو ،1929 مما حتم عليه، بالتعاون مع زوجته فيوليت، إجراء عمليات إصلاح وإعادة بناء متواصلة استمرت طوال فترة معيشتهم في البيت .

قام بإجراء عمليات الترميم، بنّاء كويتي من أصل إيراني، اسمه الأستاذ أحمد، حيث استخدم مواد البناء التقليدية، ودعم الأساسات بالصخور البحرية، وبنى أربع دعامات على امتداد الأعمدة في البائكة الأمامية، وذلك من أجل تحمل الثقل الواقع عليها من الطابق العلوي، وعلى الرغم من هذه الإصلاحات الشاملة التي أجريت عام 1929م، فقد خلفت الأمطار الشتوية مشاكل أخرى حيث جرفت طبقة الطين التي تغطي السطح، مما استدعى استبدالها بطبقة جديدة . وفي وقت لاحق شارف جدار غرفة الطعام الجنوبي على الانهيار وأصبح من غير الممكن أن يسند سقف الغرفة، مما دعا ديكسون إلى شق سارية قارب المعتمدية إلى نصفين ساندا بها عوارض السقف ليمنعها من السقوط، وفي هذا الوقت أيضا تمت توسعة الشرفة الشرقية، وبعد القيام بالإصلاحات الرئيسة لم يطرأ على البيت أي تعديلات أو تغييرات لمدة خمسة عشر عاماً .

وفي عام 1956م شقت طريق الواجهة البحرية للمرة الأولى مما استدعى إزالة سلمي الشرفة المنحنيين واستبدالهما بسلم واحد مستقيم ومزوى، لا يزال قائماً حتى اليوم، وقد حدث تغيير كبير ومهم في بيت ديكسون عام 1959م حين انهار جناحه الغربي نتيجة تلف إنشائي، مما دعا إلى إعادة بناء جدرانه وسقفه بالخرسانة المسلحة عوضاً عن مواد البناء التقليدية (الطين والخشب)، وفي الوقت ذاته تمت توسعة غرفة الطعام من الجهة الجنوبية فوق غرف الخدم التي وسعت بدورها باتجاه الحوش الخلفي حيث استخدم سطحها ليكون فيرندا أمام غرفة الطعام، وفي أثناء القيام بهذه التغييرات تم أيضاً سد الأقواس الثلاثة المدببة والتي كانت أساساً من عناصر البيت الأصلية .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"