"الملعونون" لعوض شعبان نصوص تدين الاستغلال

الهروب من الفقر إلى استلاب الروح
05:32 صباحا
قراءة 4 دقائق

عندما ينتهي القارئ من كتاب الملعونون لعوض شعبان، يتكوّن من 4 روايات قصيرة، يشعر بالمرارة التي ينجح السارد في نقلها إلى المتلقي من خلال شخصيات مصابة بشقاء ما، شقاء يتحوّل إلى لعنة الأحلام المهدرة نتيجة لواقع اجتماعي عالمي يصفه المؤلف في تقديمه للكتاب بالظالم .

شخصيات عوض شعبان تصيبنا أحياناً بالحيرة، تمتلك أبعاداً عدة، أحياناً نرفض تصرفاتها ورؤاها للواقع المحيط الذي أنتجها، وكثيراً ما نتعاطف معها من منطلق مشروعية الطموح الإنساني البسيط، ويلعب المؤلف على التناقض بين الفضاءين السابقين أو بين آليات النظام الاجتماعي واشتراطاته والأمل في تحقيق حياة أفضل، ومن هنا تنشأ اللعنة ويتزايد ثقلها عندما يحولها شعبان إلى معطى وجودي، فالفقر ليس هنا وحسب ولكن في كل مكان، والرأسمالية تمارس استلابها المعهود لروح الإنسان في لبنان وأوروبا وأمريكا اللاتينية، للعرب والإسبان والبرازيليين وللهنود الحمر أيضاً، والقراءة الأولى لنصوص شعبان لا تضع يدها بدقة على من يقصدهم بعنوان كتابه الذي لا يتضمن نصاً تحت اسم الملعونون .

الملعونون شخصيات من لحم ودم، بسيطة تعيش بيننا ولكنها ليست مسطحة أو أحادية الاتجاه، ولا تتورط في تفصيلات أو حوارات مثقفنة، فالمؤلف المثقف أو المنظر يختفي تماماً في رواياته الأربع القصيرة، يحملون بداخلهم مختلف النوازع الإنسانية، والملاحظة الأهم في مسار الأحداث في روايات شعبان القصيرة تلك الحرية التي يمنحها لأبطاله، لا أزمة مختلقة أو مناخاً مأساوياً مفتعلاً، أو مأزقاً يصعب الفكاك منه، هنالك دائماً الخيار بين طريقين .

يفتتح شعبان الكتاب بمقدمة يتناول فيها مصطلح الرواية القصيرة أو النوفيلا، خاصة مع حداثة هذا المصطلح في الأدب العربي المعاصر، ودور احداث النصوص الأربعة حول شباب لبنانيين يسافرون إلى البرازيل، ومن مقدمة الكتاب أو في خلال تجوالنا في السرد يتأكد لنا حساسية استيعاب المؤلف للمجتمع البرازيلي الذي أمضى فيه سنوات عدة، وتركيزه في مقاطع كثيرة على رصد أوجه التشابه بين الثقافتين العربية واللاتينية أو على وجه الدقة إبرازه لوحدة حال الثقافة العربية هنا وفي المهجر، إضافة إلى مقاربة شخصيات تنتمي إلى ثقافتين متمايزتين ولكنهما ذات مشترك إنساني واحد، ويعانون من آثار الظلم والاستغلال .

في الرواية الأولى طريد الثأر القديم نتعرف إلى شخصية عقاب الأحمر اللبناني الهارب من الثأر إلى البرازيل، يستطيع تكوين ثروة طائلة ولكنه يعجز عن الفكاك من لعنتين : الحنين إلى الوطن والشعور بالأمان، هو دائماً يشعر بأن هناك من سيقتص منه يوماً وهو مايحدث بالفعل في خاتمة الرواية حيث يحاول ابن الرجل الذي قتله في شبابه أن يثأر لأبيه، وبالرغم من نجاة عقاب إلا أن مسألة عودته إلى لبنان تصبح مستحيلة نتيجة لقتل الابن أيضاً .

في اللاهثون نحو السراب، شاب لبناني آخر يحلم بالثراء، يتعاون مع أحد الخارجين على القانون في إحدى الولايات البرازيلية، يهرّب له السلاح، ويستطيع تكوين ثروة جيدة من خلال عمله في التجارة، مستفيداً بعائدات ما حققه من ربح غير مشروع، وعندما يعزم على اتخاذ البرازيل وطناً تلقي الشرطة القبض على شريكه السابق وتقتله، يشعر بخوف شديد من التحقيقات التي ربما تشير إليه، يسارع بتصفية تجارته والعودة إلى وطنه .

في دائماً كارمن، شاب ثالث يعود من البرازيل إلى لبنان وفي أثناء استراحة يأخذها من رحلته البحرية الطويلة في لشبونة الإسبانية يدخل في علاقة مع امرأة ينفق عليها ثروته الطائلة، وفي النهاية يقترض ثمن تذكرة السفر مرة أخرى إلى البرازيل، فلا يمكن له العودة إلى موطنه محملاً بكل هذه الخيبات .

في جهنم الخضراء، شاب رابع يتخلى عن تجارته في مدن وقرى البرازيل ويذهب للبحث عن الأحجار الكريمة والذهب في غابات الأمازون، حيث مشاهد البؤس الشديد الذي ينجح المؤلف في رصدها بمهارة، وحيث أيضاً الحلم في الإثراء يتجاوز المخاطر الطبيعية، وينتصر على المخاوف الفطرية، يجد الشاب هناك رجلاً لبنانياً يعيش مع زوجته الهندية وأولاده، يدور بينهما حوار إنساني حول الطموح والوطن والأسرة، تتكشف للشاب أكاذيب الثراء ويقرر العودة .

الملعونون هم الهاربون من الفقر إلى فقر آخر يتجاوز المادة إلى الروح، الملعونون مرة ثانية هم الفارون من أحياء تعيسة إلى أخرى شقية في كل مكان كما يقول شعبان على لسان أحد شخصياته، الملعونون هم الآملون في حياة أفضل، يتركون أوطاناً يسودها العراك ومشكلات الثأر إلى أوطان اخرى تمتلىء بالجريمة، الملعونون يضعهم السارد دائماً في مواقف يمكنهم فيها الخيار ولكن أوطانهم الأصلية التي ترفض الفشل تدفعهم إلى اختيار الأسوأ دائماً، أو التورط في كل ما يفقر الروح، وحيث السراب يبقى سراباً وينقضي العمر بالخيبات المفجعة ولا يجني المرء إلا الحسرات، هي مرارة الحدث وصعوبة الاختيار واشتراطات المجتمع يلخصها شعبان في كلمات دالة ومؤثرة على لسان شخصياته .

الملعونون في النصوص الأربعة أيضاً هم من يتمسكون بكل ما عفا عليه الزمن من تقاليد بالية، هم من يدفعون شباباً إلى الهجرة من أوطانهم التي تتسع للجميع للرحيل وراء الأكاذيب، هم من يتاجرون في جسد المرأة ويحولونه إلى مادة استعمالية وإمتاعية رخيصة، هم من يتركون مساحات شاسعة بحجم الأمازون لتقع في أيدي المجرمين، يخربون البيئة، الملعونون هنا وهناك، وفي كل الأوطان، لا يوجد وطن غني ووطن فقير، ولكن يوجد الملعونون، الذين يصيبون الجميع باللعنة حتى أنفسهم، واللعنة ابنة الحلم الذي شكله مجتمع كاذب ومخادع، أو الظالم بتعبير شعبان، وتكتسب مرارتها أو مفارقتها من أن هذا المجتمع هو من يصنع هذا الحلم وهو أيضاً من يقيم نجاحه أو فشله، واعتقد أن نصوص شعبان ودت القول، كلنا ملعونون، سواء بصناعة بعضنا لهذه الأحلام ولهاث البعض الآخر وراءها وصمت فريق ثالث عن فضحها وعجز الأغلبية المستغلة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"