الإمام الشافعي.. مؤسس علم «أصول الفقه»

قامات إسلامية
03:21 صباحا
قراءة 5 دقائق
بقلم: محمد حماد

أبو عبدالله محمد بن إدريس الشافعي المطلبي القرشي (150-204ه - 767-820م) يلتقي مع الرسول- صلى الله عليه وسلم- في جده «عبد مناف»، لذلك يقال عنه «ابن عم الرسول».
اعتبر الإمام الشافعي «مجدد القرن الثاني» و«ناصر الحديث»، وهو ثالث الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، ومؤسس علم أصول الفقه، وهو أيضاً إمام في علم التفسير وعلم الحديث، وقد عمل قاضياً فعرف بالعدل والذكاء، وإضافة إلى العلوم الدينية، كان الشافعي فصيحاً شاعراً، وكان يتقن الرمي، حتى أنه كان يرمي عشرة سهام، فلا يخطئ في سهم واحد منها.
ولد الشافعي في غزة في العام نفسه الذي توفى فيه الإمام الأكبر أبو حنيفة النعمان، ونشأ الشافعي يتيماً فقد مات أبوه بعد سنتين من ولادته، وانتقلت به أمه إلى مكة، فحفظ القرآن الكريم وهو ابن سبع سنين، ثم شرع في حفظ الأحاديث النبوية، وهو ابن عشر سنين، ثم أرسلته أمه إلى قبيلة هذيل في البادية، فمكث بينهم سبع سنين يتعلم لغتهم، ويحفظ أشعارهم، حتى عاد إلى مكة فصيح اللسان. ثم أخذ يطلب العلم حتى أذن له بالفتيا وهو فتى دون العشرين.

الجمع بين مدرستين

كان الشافعي رحالة في طلب العلم، هاجر أولاً من مكة إلى المدينة المنورة ليتتلمذ على الإمام مالك بن أنس ولازمه حتى وفاته، ثم ارتحل إلى اليمن وعمل فيها، ثم ارتحل إلى بغداد سنة 184 هجرية، فطلب العلم فيها عند القاضي محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة، ودرس المذهب الحنفي، وبذلك اجتمع له فقه الحجاز (المذهب المالكي) وفقه العراق (المذهب الحنفي).
عاد الشافعي من رحلته إلى العراق ليمكث في مكة تسع سنوات، ومعه فقه جديد يجمع بين الفقهين، فقه «أهل الرأي» وفقه «أهل الحديث»، ونشط في إلقاء دروس العلم في الحرم المكي، وكانت مواسم الحج مناسبة ليلتقي عدداً من كبار العلماء، ويحضر مجلسه أناس من جميع الأقطار والبلدان، ومرة أخرى يعاود الإمام الشافعي الترحال إلى بغداد سنة 195 ه، وصار له بها مجلس علم يحضره العلماء، ويقصده الطلاب من كل مكان. وفيها قام بتأليف كتاب «الرسالة»، الذي وضع به الأساس لعلم «أصول الفقه»، ثم سافر إلى مصر سنة 199 ه.
وفي مصر أعاد الإمام الشافعي النظر في بعض مسائل مذهبه، وقام بتصنيف كتاب «الرسالة»، الذي كتبه للمرة الأولى في بغداد، وراح ينشر مذهبه الجديد، ويعلم طلاب العلم، وصنف الكثير من كتبه الجديدة، وسار ذكره في البلدان، وقصده الناس من الشام، والعراق، واليمن، وسائر النواحي للأخذ عنه، وسماع مؤلفاته الجديدة، وساد أهل مصر التي استقر فيها حتى توفي سنة 204 ه.
كان انقسام الناس بين «أهل الحديث»، الذين يحسنون حفظ المرويات أكثر مما يجيدون النظر فيها، وبين «أهل الرأي»، الذين يتقنون النظر والجدال أكثر مما يتقنون فن الحديث، سبباً في لفت انتباه الإمام الشافعي إلى أهمية وضع أصول للفقه يرجع إليها في معرفة الحق من الباطل، فكان له حظ وشرف الجمع بين الأمرين فنصر الحديث بالرأي، وألزم الرأي بالصحيح من الحديث، فلم يقدم الشافعي الحديث على إطلاقه، ولم يقدم الرأي على إطلاقه، وكان يرفض الحديث الضعيف، وانحصر الرأي عنده في قاعدة القياس، التي تعني إلحاق أمر غير منصوص على حكمه بأمر معلوم حكمه لاشتراكه معه في علة الحكم. ووضع رسالته التي كان لها فضل السبق إلى تأسيس علم «أصول الفقه»، ونقل بها الفقه إلى علم كلي، له أصول يجري عليها، وكان قبله الفقه علم فتاو وأحكام جزئية.
ويعد فقه الإمام الشافعي ازدهاراً في تاريخ التشريع الإسلامي، لأنه يجمع بين فقه أهل العقل والرأي وفقه أهل النقل والحديث وأهم ما يميز مذهبه أنه حدد طرقاً لفهم القرآن والسنة وقواعد لاستنباط أصول الفقه، كما وضع شروطاً وقيوداً على الأخذ بالإجماع بعد القرآن والسنة.

علم جديد

ألف الإمام الشافعي حوالي 113 كتاباً في الفقه والتفسير والأدب وغير ذلك، وأهمها كتابا «الأم» و«الرسالة»، اللذان تحدث فيهما عن أصول الفقه، وترجع أهمية كتاب «الرسالة» إلى كونه أحد الكتب، التي أسست لعلم جديد في العلوم الإسلامية، فقد أجمع عدد من العلماء والمحققين على أنه أول كتاب في علم «أصول الفقه»؛ بل وعده البعض أول كتاب في أصول الحديث أيضاً، قال الإمام الفخر الرازي في كتابه (مناقب الشافعي): «كانوا قبل الإمام الشافعي يتكلمون في مسائل من أصول الفقه، ويستدلون، ويعترضون، ولكن ما كان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة، وفي كيفية معارضتها وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه، ووضع للخلق قانوناً كلياً يرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع، فثبت أن نسبة الشافعي إلى علم الشرع كنسبة أرسطو إلى علم العقل».
وقال الشيخ أحمد شاكر محقق كتاب «الرسالة»: «إن أبواب الكتاب ومسائله التي عرض الشافعي فيها للكلام على حديث الواحد والحجة فيه، وإلى شروط صحة الحديث وعدالة الرواة، ورد الخبر المرسل والمنقطع، إلى غير ذلك مما يعرف من الفهرس العلمي في آخر الكتاب، هذه المسائل عندي أدق وأغلى ما كتب العلماء في أصول الحديث، بل إن المتفقه في علوم الحديث يفهم أن ما كتب بعده إنما هو فروع منه، وعالة عليه، وأنه جمع ذلك وصنفه على غير مثال سبق، لله أبوه».

منطق مفحم

أثنى على الشافعي الكثير من العلماء والفقهاء، ويقول إسماعيل بن يحيى المزني وهو أحد من تتلمذوا على الإمام في الفقه وكان ينظر في الكلام (علم الصفات والأسماء): «لما قدم الشافعي قلت: إن كان أحد يخرج ما في ضميري وما تعلق به خاطري من أمر التوحيد فالشافعي، فصرت إليه وهو في مسجد مصر، فلما جثوت بين يديه قلت: هجس في ضميري مسألة في التوحيد فعلمت أن أحداً لا يعلم علمك فما الذي عندك؟ فغضب ثم قال: أتدري أين أنت؟ قلت: نعم، قال: هذا الموضع الذي أغرق الله فيه فرعون أبلغك أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمر بالسؤال عن ذلك؟ قلت لا، قال: هل تعلم من الصحابة؟، قلت: لا، قال: تدري كم نجماً في السماء؟ قلت: لا، قال: فكوكب منها تعرف جنسه، طلوعه أفوله، مم خلق؟، قلت: لا، قال فشيء تراه بعينك من الخلق لست تعرفه تتكلم في علم خالقه؟».
يقول المزني: ثم سألني عن مسألة في الوضوء فأخطأت فيها، ففرعها على أربعة أوجه فلم أصب في شيء منها فقال: «شيء تحتاج إليه في اليوم خمس مرات تدع علمه وتتكلف علم الخالق؟ إذا هجس في ضميرك ذلك فارجع إلى الله، وإلى قوله تعالى: «وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم إن في خلق السماوات والأرض»، فاستدل بالمخلوق على الخالق ولا تتكلف علم ما لم يبلغه عقلك قال: فتبت».
ومما روي في مدح الشافعي ما ذكره عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: قلت لأبي: أي رجل كان الشافعي فإني أسمعك تكثر من الدعاء له؟ فقال لي: «يا بني كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف أو منهما عوض؟»، وقال الفضيل بن زياد: سمعت أحمد بن حنبل يقول: «ما أحد أمسك في يده محبرة وقلماً إلا وللشافعي في عنقه منة».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"