النضال الصامت

03:51 صباحا
قراءة 7 دقائق
** القاهرة: «الخليج»

ما بين «أدب السجون» و«أدب الأسرى»، يذوب الخط الوهمي الفاصل، ففي الحالتين هناك كاتب احتُبست حريته، فأطلق لملكاته الأدبية العنان، أو أنه مسبقاً كانت لديه خبرة بالكتابة، أهّلته لأن يكتب من منطلقات جديدة، فالأسر تجربة إنسانية تقتضي أن يكون هناك صراع بين خصمين، ومعارك شرسة ومواجهات على الأرض، والحروب المتوالية بين العرب وإسرائيل، تطلبت أن يكون «أدب الأسرى» موجوداً، كذلك هناك الحرب العراقية - الإيرانية، التي استمرت لثماني سنوات، وخاضها عدد من المبدعين العراقيين، وقع بعضهم في الأسر، لكن ما تكرس تحت لافتة «أدب الأسرى»، كان أكثره من مبدعين فلسطينيين.
في الحالين يمكن أن نطلق على «أدب الأسرى»- كما يرى الروائي الفلسطيني حسن حميد - أدب الندرة والأسرار والمكاشفة، وبيان ما هو مستبطن داخل أمكنة مستبطنة هي (السجون والمعتقلات) وهو تجليات لأذرع الاحتلال داخل حيز مكاني محدد ومغلق، يسيطرون عليه بالقوة المطلقة، مثلما هو تجليات لأشكال المواجهة ما بين حامل السلاح (السجّان) والأعزل (السجين) وهي أشكال مقاومة، لأن الرهان على الحياة، وأمام أسير رأى بعينه رفاقه يستشهدون، هو رهان لصالح الأسير، لا لصالح السجّان.
لكن ما طبيعة «أدب الأسرى»؟ إنه أدب يقص حياة الشهداء وأحداث المقاومة، كما يقص الحكايات، وهو يتنقل من بيئة إلى أخرى، ومن بيت إلى آخر، ولذلك فإن الأسير ليس كائناً محكوماً بالانتظار، حين توقفت حياته خارج جدران السجن، وإنما هو الكائن الذي ما زال يمارس دوره من خلال ثقافة المقاومة، لأن الأسير يخلق شروطاً جديدة، داخل السجون.
أدب الأسرى - كما يوضح حميد- يتم تشخيصه على هذا النحو: سجّان يمعن في خلق شروط الضعف والهوان، وأسير يمعن في طي الزمن، بالعمل على اختلاف وجوهه وأشكاله، أحدهما يمضي نحو عوالم الموت، والثاني يمضي نحو عوالم الحياة، فالسجون الإسرائيلية، بدل أن تُخرج أسرى موتى، خرّجت أدباء وشعراء وفنانين وأساتذة جامعات، تحصّلوا على هذه الألقاب داخل السجون.

أحلام بالحرية

قبل هزيمة يونيو 1967 اشتهر أسيران فلسطينيان هما: محمود بكر حجازي، وفاطمة برناوي، ولعل أحد أسباب شهرتهما أن مَن دافع عنهما هو المحامي الشهير «جاك فيرجس» الذي دافع عن جميلة بوحيرد، وتزوجها بعد الإفراج عنها، لم يكتب الأسيران عن تجربة سجنهما، فكان أول كتاب يصدر عن تجربة الأسر «ستة أشهر في سجون الاحتلال» لطالبين جامعيين من الجبهة الشعبية تم أسرهما، هما: تيسير قبّعة وأسعد عبد الرحمن.
يتقدم بنا الكاتب الفلسطيني «رشاد أبو شاور» خطوة في الاتجاه الصحيح، حين يوضح أن «أدب الأسر» يكتبه أسرى من واقع تجربتهم، وهو يختلف عن «أدب السجون» ولعل أكثر من اهتموا بكتابته هم أدباء وقعوا في أسر قوات الاحتلال، منهم: توفيق فياض، حسن عبد الله، المتوكل طه، ومن بين اللاتي كتبن تجربتهن: عائشة عودة، التي وقعت في أسر الاحتلال، وصدرت بحقها عدة أحكام بالمؤبد، ثم كتبت سيرتها في كتابين أحدهما «أحلام بالحرية».
لكن الدكتور حسن عبد الله من أكثر من كتبوا عن أدب الأسرى، ففي «رام الله تصطاد الغيم» يقول: «أصارحكم أنني انتصرت في بعض الجولات على الاعتقال، حين كان خيالي يخترق الأبواب الموصدة، ويسافر مستغلاً أجهزة الإنذار المبكر ليحملني إلى رام الله»، وفي عدة أعمال أدبية كتب الشاعر المتوكل طه، تجربته في الأسر، وهناك رواية «المجموعة 778» للروائي الفلسطيني توفيق فياض، وهو أسير محرر، من فلسطينيي 1948 لم يكتب تجربته الخاصة، لكنه كتب تجربة تلك المجموعة التي عُرفت بهذا الرقم 778 في سنتي 1968 و1969.
هناك أسرى دوّنوا تجربتهم بأنفسهم، مثل مروان البرغوثي في «ألف يوم في الزنزانة»، حيث لا يزال صامداً في زنازين الاحتلال، وقاد إضراب الأسرى الطويل، الذي لفت الانتباه إلى معاناة الأسرى في سجون الاحتلال، وهناك أيضاً عميد الأسرى العرب سمير القنطار، الذي قضى حوالي ثلاثين عاماً في معتقلات إسرائيل، حيث أملى رحلة أسره، وصدرت بعنوان «قصتي»، ثم سهى بشارة في كتابها «مقاومة»، وفي وقت مبكر التقى صالح برانسي أحد أبرز مؤسسي حركة الأرض، مع المفكر هشام شرابي في العاصمة الأمريكية واشنطن، وسجل له شرابي عدة أشرطة، أصدرها في كتاب بعنوان «النضال الصامت».

رقابة

يوضح «رشاد أبو شاور» أن هناك أعمالاً قصصية وروائية كتبها أسرى، وهرّبوها إلى الخارج، وصدرت في طبعات خاصة، ولذا وزعت بشكل محدود، وتعذر وصولها إلى القارئ عبر المكتبات، وهذا ما يعقّد أمر الاطّلاع عليها، والكتابة عنها، لكن كيف يكتب الأسرى إنتاجهم الأدبي خلف القضبان؟ يجيب عن هذا السؤال، الأسير «عمار الزبن» في روايته «الزمرة» يقول لأحد المواقع الإلكترونية الفلسطينية، إنه لم يستطع توثيق الشهادات خلال النهار، بسبب رقابة الاحتلال، ما يجعله ينتظر حلول المساء، فيكتب أعماله على ضوء خافت ليلاً، بسبب إطفاء المصابيح من قبل المحتل، داخل الزنازين، ثم يسلّم ما كتبه إلى من يتطوعون بنسخه.
وفق كلامه فإن الأسرى يكتبون ليلاً، وهناك من يتطوعون لنسخ ما كُتب، المشكلة بعد الانتهاء من الكتابة، هي كيفية الحفاظ على الدفتر الأصلي، والنسخ منه، إلى حين إيجاد طريقة لتهريبه خارج السجن، ومن الأساليب التي يسعى الاحتلال لممارستها على المعتقلين لتنفيذ مخططاته، سياسة الإفراغ الثقافي، التي تهدف إلى زرع ثقافة بديلة، تعمل على صياغة نفسية المعتقل من جديد، وتطويعه وفق إرادتها، لهذا قامت سلطات الاحتلال بإعلان الحظر التام على الثقافة الوطنية، وعلى كل وسيلة ثقافية، حتى الورقة والقلم والكتاب.
استمرت سياسة الحصار الثقافي من سنة 1967 حتى 1970؛ حيث أدرك الأسرى خطورة الوضع، فخاضوا غمار عدة ميادين، كالاحتجاج المباشر، والإضراب عن الطعام، والاتصال بالصليب الأحمر الدولي، الأمر الذي جعل إدارة الاحتلال، ترضخ في النهاية لمطالبهم، فقد اضطرت إلى السماح بإدخال الكتب والصحف والدفاتر والأقلام، إلا أنها وضعت قيوداً على ذلك، تمثلت في إخضاع المواد المكتوبة للرقابة، وتحديد نوعية الكتب المسموح بإدخالها، وكمية الأقلام والورق، وأخيراً فرضت على كل أسير ألا يقتني أكثر من كتاب، وفي حالات كثيرة كانت سلطات الاحتلال تقوم باقتحام غرف الأسرى، ومصادرة الكتب والدفاتر والأقلام.
من الكتابات التي صدرت وتعبر عن هذه الفترة، ديوان شعر مشترك بعنوان «كلمات سجينة» وقد صدر بخط اليد في معتقل بئر سبع عام 1975، وجاء التطور الإبداعي لدى الأسرى في فترة الثمانينات؛ فقد تمكنوا من تهريب إبداعاتهم إلى الخارج، واهتمت الصحف والمجلات بنشره، ما شجعهم على مواصلة الكتابة، كما توجت إبداعاتهم بإصدار روايات من داخل السجون، كانت في أغلبها تحكي واقع الأسر وظروفه المعيشية، وممارسات السجّان، كما حاول المبدعون الأسرى توصيل نتاجاتهم إلى أكبر عدد ممكن، وذلك بالتغلب على مسألة النشر داخل جدران السجن، بالعمل على إصدار مجلات أدبية.

مرارة

يحكي محمد حسين يونس في رواية «خطوات على الأرض المحبوسة» تجربة الأسر، متجاوزاً ذلك إلى تسجيل شهادته حول واحدة من أكثر اللحظات مأساوية في التاريخ، يقول: «في كتابي هذا ستجد تجربة حرب 67 التي جرحتني، تلك التجربة التي حفرت بعمق شديد داخلنا جميعاً، وبالتالي في كتابي هذا، تجربة مباشرة لما قبل الحرب ولما بعدها، كذلك لفترة الأسر التي عشتها والتي رأيت فيها العدو مباشرة».
الرواية تعرض قصة مهندس شاب شارك في حرب 67، وأسر في معتقل عتليت، وبعد أن خرج من صفوف القوات المسلحة، شجّعه من حوله على كتابة تجربته، فاضطر إلى صياغتها في شكل رواية ليتحايل على رفض نشرها، حكى ما عاشه من مرارات الهزيمة، وذل الأسر.

إنسانية

عن تجربته في «سجن عتليت» «الإسرائيلي» بعد أسره في حرب 1967، كتب الروائي الراحل فؤاد حجازي روايته «الأسرى يقيمون المتاريس» التي صدرت للمرة الأولى عام 1976 وتوالت طبعاتها، وترجمت إلى الإنجليزية والروسية، كما تناولتها رسالتان للدكتوراه، إحداهما في جامعة ستوكهولم، يقول حجازي الذي قضى في الأسر ثمانية أشهر: «علّمني الأسر أن أكون أكثر إنسانية».

بيئة مغلقة

تقول الأرقام إن أكثر من مئة ألف عراقي، وقعوا في الأسر، أثناء الحرب العراقية - الإيرانية، وكانت هناك محاولات تعتيم على روايات الأسر، التي يمكن أن يكون قد أنجزها أدباء شاركوا في هذه الحرب، وفي كتابه «الرواية العربية في البيئة المغلقة.. رواية الأسر العراقية أنموذجاً»، يصف د. علي عزيز العبيدي ما تعرض له العراقيون الأسرى من أهوال وعذابات، تفوق طاقة البشر على الاحتمال، حيث حُشروا في زنازين ضيقة، خالية من نوافذ للتهوية.
يذكر د. العبيدي، أسماء كثير من الروايات، ويشير إلى حوادث جرت في الأسر، وتصلح لأن تكون روايات خالدة، فحسبما يذكر فإن كثيراً من الأسرى قاموا بمحاولات هروب، أذهلت الكثيرين، بسبب طبيعة التخطيط، والطرق التي اختارها منفذو العمليات، والتي أدهشت الإيرانيين أنفسهم، لأنهم لا يملكون دراية بمواقع تلك الطرق في بلادهم، بحيث وصل بعض الأسرى إلى حدود الاتحاد السوفييتي، وقطعوا الجبال والوديان، فهل استثمر أحد هذه المواضعات في رواية عن الأسر؟

بذور القمح

أصدر الروائي السوري خيري الذهبي كتابه «من دمشق إلى حيفا» وهو يعرض لسيرة إبداعية وإنسانية، حول تلك التجربة الغارقة في الألم، فبعد فترة من نكسة يونيو واحتلال هضبة الجولان عام 1967، التحق «الذهبي» بخدمة الجيش، كضابط ارتباط مع قوات الطوارئ الدولية، على خط الهدنة في الجولان، ثم وقع أسيراً أثناء حرب أكتوبر 1973 وقد تركزت أسئلة الاحتلال معه، حول مدى معرفته باللغة العبرية، ورأي الشباب السوري في دولة إسرائيل، ويتعرض للتعذيب، ثم يُنقل إلى سجن مجدو، ويصف المكان والحياة في انتظار لحظة الحرية.
يروي الذهبي، قصة إضراب الأسرى عن الطعام، للمطالبة بإدخال الصحف وتبادل الرسائل مع ذويهم، ويتحدث عن زيارة المطران كبوشي التي انتهت بتقبيله، بعدما أخبرهم بأنه حلبي المولد، وأنه يعتبرهم بمثابة بذور القمح، التي طمرت بالوحل لتنتج السنابل، وكما بدأت يوميات «خيري الذهبي» بالعودة إلى الوطن بعد التخرج، تنتهي بالرجوع إليه بعد عملية تبادل الأسرى.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"