“ريتاج” رواية واقعية بحبكة بوليسية

غواية “السرد المُلَغز” تتجاوز سحر التشويق
02:36 صباحا
قراءة 5 دقائق
محمد وردي
سؤال لطالما صال وجال في ذهني لسنوات عدة، وبقيت الإجابة عنه معلقة، أو حائرة تتردد في مخيلتي ما بين تصديق وتكذيب حتى اللحظة الراهنة؟ فما الدوافع أو الأسباب التي تجعل المرء يظلم أقرب الناس إليه، ويقسو عليهم لدرجة ينفطر فيها القلب الندي، ويحيله الى حطام وشظايا يصعب ترميمها، مهما طال العمر أو امتد الزمان به، كونها جروحاً - بالمعنى الثقافي - تصيب الروح وتغور عميقاً في النفس أو الذات، وتستوطن في لاوعي الإنسان، ذلك اللاوعي الببغائي، الذي يتفوق على الحاسوب الآلي بالحفظ أو التسجيل، وهو دائم الحضور لتقديم مخزونه من هذه الآلام وغيرها، حالما يشرع العقل بالتفكير في قضايا القلب وبخاصة منها الخفقة الأولى أو الدهشة البكر، الملونة بترانيم الوجدان أو العاطفة . ما يجعله يرتد إلى كهوف الخوف والكراهية، ويُقفل بوابات الروح بوجه الدنيا وما فيها من مسرات، ويكتم أنفاس الحب برعب ولوعة مريرة، حسب دراسات علم النفس الاجتماعي الحديث .
وهل هناك مبرر لهذا النوع من المظلمات أو هذا الصنف من القسوة المفرطة، أو السطوة الغاشمة باسم الأبوة، التي من أقل توصيفاتها أنها تنم عن قلوب متحجرة .
في الواقع إن رواية "ريتاج" للدكتور حمد الحمادي تقدم مقاربات عدة للإجابة عن هذا السؤال، بمعنى أن الكاتب يلامس حقيقة الرؤى الأحادية، أو جوهر البنية الذهنية الأحادية المغلقة، التي لا تستطيع الفكاك من قيودها الإيديولوجية؛ طالما هي أسيرة التلقي الأبكم، وطالما هي متنعمة بكسلها الذهني، وبعيدة كل البعد عن منطق التفكير أو المساءلة العقلية لكل ما تتلقاه، فتتحجر القلوب وتصبح كارهة، لا بل حاقدة على كل ما حولها، فلا ترى سوى نفسها أو من كان على شاكلتها أو من طينتها، أما سواها فهو العدو الذي يجب إلغاؤه أو جلبه إلى الحظيرة التي يرتع فيها بكل الوسائل، باعتبارها وسائل مشروعة طالما اعتبر نفسه مرجعاً للحقيقة؟! لذلك عندما تتمكن الذات المغلقة؛ تفتك وتبطش بشهوة عمياء لئيمة . ويزداد الأمر عماءً وإجراماً كلما ارتبط التلقي الأبكم بالدين أو مفاهيم الإيمان، حيث تزدهر لدى هؤلاء الفلسفة الذرائعية، وتبيض وتُفَرخُ بوعيهم البذرة المكيافيلية . ما يجعلهم يستسهلون الولوغ في دماء أهلهم وعشيرتهم كما الذئاب الجريحة، التي غالباً ما تفتك بأبناء جنسها حتى فَلّذات أكبادها، الذين هم من لحمها ودمها، وبخاصة عندما تجوع أو تشم رائحة الدم . ولكن أنى للضواري أن تنعم بنعمة الحب التي هي جوهر الإيمان وديدن الإنسان السوي ما دامت الحيات تسري في عروقه؟

جبل الملح

الرواية تحكي قصة الفتاة ريتاج، التي قُدِرَ لها أن يكون اسمها في يوم ولادتها رهينة ذكرى لاجتماع ذلك الأب "سيف .م .ك" مع مرشده، الذي يسطو على عقله، من موقع رئيس الجماعة المحظورة أو التنظيم السري الذي ينتمي إليه . وكبرت الفتاة ودخلت مرحلة العنوسة، وهو يستأثر بها لخدمته والعناية به . وهي قامت بدورها بحب وتفاني الابنة الوحيدة للأب الوحيد، كونها تحسب أن أمها ماتت يوم ولادتها، وأنه بجلالة قدره تَبَتَلَ من أجلها كما أقنعها!؟ . ولم تكتشف المسكينة أن والدها المؤطر بقلبه كما عقله حرمها على مدى أربعة عقود من أمها، لأسباب لم تتضح بالنص، رغم أنها مازالت حية ترزق، وأنه تزوج قبل عشر سنوات سراً بأرملة جندها في التنظيم النسائي، أو المُطَوِعَة "أم حميد"، المتفرغة لتجنيد النساء في خدمة أهداف الجماعة السرية التي ينتمي إليها . أما ابنته بالنسبة له فما هي إلا ورقة لتضليل الأجهزة الأمنية، فيستخدمها بخبث ونذالة يندى لها الجبين، حتى اللحظة الأخيرة من حياته، التي انتهت بالجلطة الدماغية لحظة تكشفت له مدى بشاعة جريمته على وجه ابنته المفجوعة بقلبها وحبها ومولودها وزوجها الذي تزوجته كرهاً على كره تحت التهديد بكشف حقيقة حبيبها سالم "الإخونجي" للأمن، وحرصاً منها على صحة والدها المعطوبة بالكبد الوبائي، الذي لم تكتب له النجاة حتى تبرعت له بنصف كبدها، لتكتشف بالنهاية أن والدها هو المخطط والمدبر ومحرك كل الخيوط في المتاهة التي دخلت بها من البداية إلى النهاية، وعندما صرخت بوجع مستفسرة منه عن السبب الذي يجعله يكسر قلبها بهذه الطريقة الوحشية، وهي غير مصدقة، وتتمنى أن يُكذب ذلك ولو بكلمة، إلا أنه يعجز عن النطق، وينهار كجبل الملح مع أول زخة مطر، فيمضي إلى نهايته دون كلمة مواساة أو تبرير أو اعتذار، ما جعل عيناها تبخلان عليه ولو بدمعة واحدة .
تقول ريتاج قبل النهاية بمرارة موجعة: "إننا قد لا نعلم كل شيء عن أقرب الناس إلينا، وهذا ما يجعلنا نؤمن بأنهم معصومون عن الخيانة، هذا ما يجعلنا نستميت بالدفاع عنهم لا لشيء، أو لأنهم كانوا بارعين في إخفاء الشبهات التي تحوم حولهم، سوى لأنهم كانوا بارعين في التمثيل؟ للأسف، اكتشفت متأخرة أنه كان يجيده باحتراف"، "تقصد والدها الحنون" .

السرد المُلَغزْ

قد لا يكون نص "ريتاج" هو أول محاولة روائية إماراتية تقوم على لغة التشويق والإثارة، إلا أن المؤكد أنها أول رواية تتميز بحبكة أدبية مثيرة، مطرزة بالإمتاع الباذخ والإقناع الوازن، لجهة غواية السرد وقدرته على جذب المتلقي بخيوط سحرية مدهشة . ما جعل بنية النص أقرب ما تكون من الحبكة البوليسية المكتوبة بمهارة، رغم أنها رواية واقعية بامتياز، ذلك لأن الرواية البوليسية في الغالب تقوم على ضحية وقاتل مجهول، تجري مطاردته واقتفاء أثره من خلال فك الشيفرات، التي تركها وراءه باعتباره قاتلاً محترفاً، تختلط عنده شهوة الإجرام بنزعة تحدي البوليس، الذي يستجيب بدوره للتحدي فيعمد إلى حل ألغاز الجريمة، بمعنى أن الضحية والقاتل كلاهما حقيقة واقعية بالحبكة البوليسية، بينما القاتل والضحية في "ريتاج" كلاهما حقيقة مجازية، حيث تتمظهر الجريمة في دائرة القتل المعنوي؛ لأن البطلة ريتاج هي تروي حكايتها المغمسة بالأوجاع والآلام، ولكنها لا تكتشف أن السبب المباشر، أو السبب الأول والأخير في هذه المعاناة هو والدها، الذي وظفها بعناية فائقة، وعلى نحو خفي لخدمة التنظيم السري الذي ينتمي له .
واستطاعت لغة السرد تقديم هذه التوليفة الجميلة في إطار ما يمكن أن نسميه أسلوب "السرد المُلَغزْ"، الذي تنهض بنيته على بث الإشارات و"نصب الكمائن"، التي يستعصي فهمها قبل النهاية، وهو تكنيك لا يخلو من صعوبة، ويحتاج إلى "عدة لغوية" ومهارات أو خبرات عالية بفنون السرد، يفتقد إليها معظم الكتاب الشباب، إلا أن الحمادي نجح بذلك إلى حد بعيد . كذلك تميزت لغة السرد بالجزالة والتدفق العفوي من دون تكلف، ما جعلها لغة حارة، تنزف وجعاً ساخناً يهز الوجدان والناموس، ويجرح الوعي قبل القلب، وهنا بالضبط يكمن سر غوايتها، وقوة إقناعها وإمتاعها في شرطية الإبداع الأدبي . ومع ذلك فالرواية واقعية، لا بل مغرقة في واقعيتها، كون شخصياتها وأحداثها من أبناء الزمن الراهن، أو الزمن المعطوب، حيث تتشوه الحقائق، وتتمادى القباحة ببشاعتها عندما تتجرد من معمياتها وطلاسمها، فتظهر عارية من خلال محاكمات ما عُرف باسم "الخلايا النائمة" في التنظيم الإخواني المحظور، التي احتلت مانشيتات الصحف اليومية، والمحطات الإذاعية والتلفزيونية على مدى شهور من التحقيق والتدقيق بملفات هؤلاء؛ ومن ضمنهم والد البطلة ريتاج، الذي وظف ابنته في خدمة التنظيم حتى آخر بارقة حب في قلبها، وآخر نفس في صدره .
يبقى أن نشير إلى العنوان، الذي كان عتبة رئيسية للنص بحق، بمعنى أن دلالته تذهب إلى الضيق والاختناق، أو الحجر والعزل أو الانطواء، وهو يؤشر بقوة إلى الرؤى الذهنية الأحادية التي أشرنا إليها آنفاً . ولكن ما أضعف هذه الدلالات البالغة القوة، أن العنوان ينطوي على خطأين في الكتابة والمعنى، فالصحيح هو "رِتاج"، وتعني الباب المغلق، وليس "الباب الموصد، وفي الغالب يطلق على باب الكعبة"، كما ورد في النص، والأفضل أن تستخدم بمعنى "القفل" كما أظن .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"