«ترامب بوتين».. قمة مزدحمة بالقضايا

02:30 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. محمد فراج أبو النور *

قمة هلسنكي الوشيكة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ونظيره الروسي فلاديمير بوتين (16 يوليو الجاري)، حدث مهم انتظره العالم طويلاً، وهي أول قمة روسية بينهما بعد لقاءين أحدهما سريع على هامش قمة العشرين في هامبورج ب«ألمانيا»، في يوليو من العام الماضي، والثاني خاطف على هامش قمة «الأبيك» في دانانج ب«فيتنام»، في نوفمبر من نفس العام.
معروف أن العلاقات الأمريكية الروسية، شهدت تدهوراً حاداً خلال السنوات الأخيرة، بدءاً من الولاية الثانية لباراك أوباما (يناير 2013 يناير 2017)، وبصورة خاصة على خلفية الأزمة الأوكرانية، وما ارتبط بها من عقوبات أمريكية وأوروبية ضد روسيا، وتسريع لنشر عناصر الدرع الصاروخية الأمريكية في أوروبا الشرقية.
وازداد تدهور العلاقات حدة، أثناء حملة الانتخابات الرئاسية بين ترامب وهيلاري كلينتون، حيث اتهم الحزب الديمقراطي وفي مقدمته أوباما وكلينتون، روسيا بالتدخل في الانتخابات لصالح ترامب، من خلال هجمات إلكترونية واختراق لخوادم «سيرفرز» الحزب الديمقراطي، وتم فرض مزيد من العقوبات على روسيا، كما اتهم الديمقراطيون ترامب وحملته الانتخابية بإقامة علاقات غير مشروعة مع الروس.
وهكذا تم «تفخيخ» العلاقات الأمريكية الروسية، ووضع ترامب في موضع الحصار بالاتهامات، مما أعطى المحافظين الجدد وغيرهم من العناصر المتشددة، اليد العليا في الإدارة والكونجرس، ومكنهم من فرض مزيد من العقوبات على روسيا، وزاد من توتر العلاقات بخلاف ما كان يريده ترامب أحياناً.. وهو ما جعل الرئيس الروسي بوتين، يقول إن السنوات الأخيرة، هي أسوأ فترة في تاريخ العلاقات الروسية الأمريكية، وجعل المراقبين يتحدثون عن «حرب باردة جديدة».
ومن هنا، فإن مجرد انعقاد قمة هلسنكي في حد ذاته يعتبر نجاحاً مهماً، وانتصاراً للتيار «البراجماتي» بزعامة ترامب، في مواجهة العناصر والتيارات المتشددة «المؤدلجة»، سواء في صفوف إدارته أو في صفوف الكونجرس، من «المحافظين الجدد» وغلاة «الحزب الديمقراطي»، الذين كانوا يميلون إلى تصعيد التوتر والعقوبات ضد روسيا، ورفض الحوار معها، ما لم تستجب للشروط الأمريكية والغربية؛ أي فرض المواقف عليها سواء في قضايا مثل «التخلي عن القرم.. وهو أمر مستحيل بالنسبة لموسكو»، أو غيرها من القضايا الإقليمية والدولية، وقضايا التسلح والأمن السيبراني «المعلوماتي».
الاتجاه البراجماتي، يرى أن روسيا نجحت في فرض وجودها على الساحة الدولية، بالرغم من كل محاولات الحصار، وأن توسع حلف الأطلنطي باتجاه الشرق، قد نجح في الحد من خطرها بدرجة مقبولة، وأن الإصرار على مواصلة حصارها سيدفع بها في اتجاه الصين؛ «القوة الأكبر والمنافس الأخطر للولايات المتحدة»، وأنه ليس من مصلحة أمريكا تعزيز هذا التحالف، فضلاً عن أن النفوذ الذي حققته روسيا، أو استعادته في عديد من مناطق وبلدان العالم، وتأثيرها في قضاياه يجعل من الضروري إشراكها في معالجة كثير من المشكلات، وتسوية كثير من الصراعات والنزاعات.
وقد برهن ترامب منذ أيام حملته الانتخابية، على أنه يستوعب هذه التوجهات بحكم تركيبته كرجل أعمال «براجماتي»، فقد التقط التوجه البراجماتي الأصيل لدى فلاديمير بوتين مثلاً، وتحدث بصورة متكررة عن إمكانية «عقد الصفقات» معه، ولما كان ترامب قد حقق نفوذاً جماهيرياً وسياسياً لا بأس به، بفضل معاركه الخارجية ذات الطابع الشعبوي و«الوطني» في مجال «حماية» السوق الأمريكية، والضغط على الحلفاء «لتحصيل ثمن الحماية الأمريكية لهم».. إلخ، فإنه نجح أيضاً بدرجة واضحة في تجاوز «العقدة أو البطحة الروسية» التي لازمته في الفترة الأولى من رئاسته.
فوجدناه يقترح في قمة السبعة الكبار (G7) الأخيرة في كندا، إعادة روسيا إلى تلك القمة لتعود (G8) الثمانية الكبار، كما كانت، باعتبار أن هذا ضروري لحسن إدارة العلاقات الدولية والشؤون العالمية، «ومعروف أن السبعة الكبار يطلقون عليهم أيضاً تسمية مجلس إدارة العالم»، وأن غياب روسيا يعقّد معالجة كثير من القضايا والصراعات، علماً بأنه لم يربط هذه الخطوة بأية شروط.
أما وزير الخارجية بومبيو، فقد صرح بأن «حضور روسيا في النقاشات الجيوسياسية المهمة، أمر لا مفر منه». كما وجدنا ترامب يتحدث عن أن تخلي روسيا عن القرم، ليس شرطاً لتحسين العلاقات معها، ولا يستبعد الاعتراف بضم القرم إلى روسيا، ويقول رداً على سؤال صحفي: «سنرى»! وأيضاً: «بما أن سكان القرم يتحدثون الروسية فهم روس».
وإذن فإن هناك ما يمكن الحديث عنه بين ترامب وبوتين في هلسنكي، وهناك إمكانية لترفع العقوبات المرتبطة بالأزمة الأوكرانية، أو تخفيفها ولو تدريجياً.
غير أن هذا الموقف المواتي لروسيا، لا يمنع ترامب من تكليف البنتاجون ببحث تكلفة سحب القوات الأمريكية من ألمانيا، ونقل جزء منها إلى بولندا، بالقرب من الحدود الروسية، وهو ما تعتبره روسيا تهديداً لأمنها القومي، وتعارضه بشدة.
وإذن، فإن الذين يتصورون أو يُشيعون بسوء نية أن بوتين سيخدع ترامب مخطئون تماماً؛ ناهيك عن أن علاقات القوى لا تدعو إلى ذلك طبعاً.
أما على صعيد خفض التسلح فيقول ترامب: سنناقش سباق التسلح بهدف توفير ملايين الدولارات التي تنفق على السلاح، «والأصح أن يقول عشرات إن لم تكن مئات المليارات»، وهذه واحدة من أهم القضايا على الإطلاق للطرفين.
ومعروف أن إمكانات أمريكا أكبر كثيراً من روسيا في هذا الصدد «موازنة عسكرية أمريكية قدرها 700 مليار دولار لعام 2018»، وتكلفة بناء «الدرع الصاروخية» على الأرض الأمريكية وفي أوروبا، واليابان وكوريا الجنوبية، ربما تبلغ مئات المليارات من الدولارات.. لكن الاختراعات الصاروخية الجديدة التي أعلن عنها بوتين في1 مارس 2018، وخاصة الصواريخ «الفرط صوتية/أسرع من الصوت ب10 أو 20 مرة»، والصواريخ والغواصات الاستراتيجية ذات الصفة الشبحية، قادرة على اختلاق «الدرع» الأمريكية، وربما تعطيلها؛ علماً بأن تكلفتها أقل بكثير من الدرع، وهو ما ينطبق على صواريخ (ٍS-400)، و(S-500)، وإن كانت حتى هذه التكلفة الأقل مرهقة جداً لروسيا.
وإذن، فإن هناك معنى للطرفين لبحث إمكانية وقف هذا النزيف العبثي، وإحياء اتفاقات خفض التسلح القديمة، أو طرح اتفاقيات جديدة.. وهذا أيضاً من أهم القضايا المطروحة للنقاش في هلسنكي.
وهناك أيضاً قضية الأمن المعلوماتي «السيبراني»، والقدرة على شن الهجمات الإلكترونية. وتشير التقارير لتفوق روسيا والصين في هذا المجال، وهناك حاجة لاتفاقية تنظمه.
الوضع في سوريا أحد المواضيع بالغة الأهمية في أجندة محادثات هلسنكي، وتشير التطورات الأخيرة في الجنوب، إلى أن أمريكا تترك لروسيا هذا الملف، لكن بشرط إخراج الحرس الثوري الإيراني والميليشيات الموالية لطهران من سوريا، والموقف الروسي واضح في هذا الصدد. ونعتقد أنه في ظل الحصار الأمريكي المتصاعد لإيران بسبب الملف النووي، فإن احتياجها لروسيا والصين مؤكد، وستكون مضطرة للخروج من سوريا، وحتى بدون حاجة للضربات «الإسرائيلية» المحرجة لروسيا، وأما ما يخص تركيا، فسيتعين على روسيا التفاهم معها بشأنها. كما نعتقد أن روسيا ستكون مرشحة إلى جانب الصين، للقيام بدور في ضمان تسهيل التسوية في شبه الجزيرة الكورية، وإخلائها من السلاح النووي مع الرفع التدريجي للعقوبات.
هناك احتياج متبادل وماس، للاتفاق على حلول للقضايا الكثيرة والمتراكمة بين الطرفين، أو على الأقل لدفعها في اتجاه الحل.. والبراجماتيان الكبيران، ترامب وبوتين، يدركان ذلك جيداً، ولن ينصرفا من هلسنكي خاليي الوفاض، ونكرر أن مجرد التقائهما أخيراً، وتحريك الأمور من النقطة الميتة، هو في حد ذاته إنجاز مهم.

* كاتب ومحلل سياسي وخبير في الشؤون الروسية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"