«السترات الصفراء».. أوروبا إلى أين؟

03:29 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. أحمد سيد أحمد*
 
في مشهد لم تشهده فرنسا منذ عام 1968، حين قامت تظاهرات عرفت وقتها بتظاهرات الطلبة، خرجت تظاهرات تضم الآلاف من المواطنين من مختلف الأعمار ومختلف المهن ومختلف الطبقات خاصة المتوسطة والفقيرة إلى الشوارع في السابع عشر من نوفمبر الماضي في احتجاجات شهدتها العاصمة باريس والعديد من المدن الأخرى، التي عرفت باسم «السترات الصفراء»، وذلك احتجاجاً على السياسات الاقتصادية التي تنتهجها حكومة الرئيس ماكرون، والتي يعتبرها المحتجون انحيازاً للأغنياء، وتأتي على حساب الطبقات الفقيرة.
 
التظاهرات بدأت عفوية احتجاجاً على ارتفاع أسعار الوقود، وتوسعت لتشمل الاحتجاج على مجمل السياسة الاقتصادية التي ترتكز على التقشف ورفع الضرائب وأسعار الوقود، ما أدى إلى ارتفاع تكاليف المعيشة على الطبقة الوسطى الفرنسية، واستمرت الاحتجاجات للأسبوع الرابع على التوالي لتشكل تحدياً واختباراً للرئيس ماكرون البالغ من العمر 40 سنة، ولحكومته ولسياساته الاقتصادية، واستفتاء على شعبيته التي تراجعت بشكل كبير، خاصة مع تعاطف الكثير من الفرنسيين مع تظاهرات أصحاب السترات الصفراء.
 
هذه الاحتجاجات وضعت الحكومة الفرنسية وأصحاب السترات الصفراء في مأزق كبير لعدة اعتبارات:
 
أولها: أن الدولة الفرنسية على لسان رئيسها ماكرون ورئيس الوزراء إدوارد فيليب أعلنت بوضوح عدم التراجع عن تلك السياسات الاقتصادية، لأنه لو تراجعت عنها أمام الاحتجاجات فهذا يعني انتقاصاً من هيبة الدولة وضغوطاً على الحكومة لإثنائها عن المضي قدما في مسيرة الإصلاح الاقتصادية.
 
 ثانيها: هناك إشكاليات تواجه أصحاب السترات الصفراء، فإلى جانب عدم وجود قيادة ومطالب محددة تعبر عنها ويمكنها التفاوض مع الحكومة، تحولت تلك الاحتجاجات إلى أعمال عنف وشغب وحرق مئات السيارات ونهب المتاجر وإغلاق الطرق، ووصل الأمر إلى إحداث تلفيات وحرائق في مبان مهمة مثل قوس النصر، ونهب محتويات بعض المتاحف، وتحول شوارع الشانزليزيه إلى ساحات حرب بين المحتجين ورجال الشرطة، إضافة إلى خسائر مالية تقدر بعشرات الملايين من اليورو نتيجة لإحراق السيارات والمحال، ووقوع العشرات من المصابين. هذه الأعمال العنيفة التي غلبت على التظاهرات أفقدتها التعاطف الشعبي، وكذلك دفعت الحكومة إلى اتخاذ ردود فعل قوية وعدم التراجع عن سياستها، والتهديد بإعلان حالة الطوارئ لمواجهة أعمال الشغب، حيث اعتبر الرئيس ماكرون في خطابه خلال قمة العشرين بالأرجنتين أن الاحتجاج السلمي أمر مشروع، لكن أعمال العنف والشغب غير مشروعة، واعتبر ماكرون أن هناك مندسين من اليمين واليسار المتطرف، استغلوا تظاهرات أصحاب السترات الصفراء ليقوموا بأعمال العنف. 
 
 ومن ناحية أخرى أكد الرئيس ماكرون عدم التراجع عن خطته الانتقالية للطاقة، حيث اعتبر أن الضرائب على المحروقات جزء من مسعاه لمحاربة تغير المناخ، وأنه يريد إقناع السائقين الفرنسيين بالاستغناء عن السيارات التي تعمل بالديزل والإقبال على أنواع أقل تلويثا للبيئة. وأكد أنه لن يحيد عن أهداف سياسته، ما يعني أن التناقضات والفجوة تزداد بين الحكومة وبين أصحاب السترات الصفراء، وإصرار كل طرف على التمسك بموقفه وعدم تقديم تنازلات وهو ما يزيد الأمور تعقيداً أمام التوصل إلى حل وسط للخروج من تلك الأزمة.

ثالثها: تحولت الاحتجاجات إلى جزء من الصراع السياسي بين الأحزاب السياسية، خاصة أحزاب اليمين واليسار المتطرف، التي اعتبرت الاحتجاجات مؤشرا على فشل الائتلاف الحاكم وفشل سياسات ماكرون الاقتصادية، ودعا جان لوك ميلينشون رئيس «حزب فرنسا الأبية»، وماريان لوبان زعيمة اليمين المتطرف، إلى حل البرلمان والدعوة لانتخابات مبكرة، ما يزيد الأزمة تعقيدا، خاصة إذا ما استمرت حالة التمترس من جانب أطراف الأزمة واستمرت الاحتجاجات العنيفة، وهو ما قد يهدد تحالف ماكرون بقيادة حزبه، (الجمهورية إلى الأمام)، الذي أنشئ قبل عام بعد تحول حركة إلى الأمام التي كان يقودها ماكرون وفازت في الانتخابات إلى حزب سياسي تحالف مع بعض أحزاب الوسط. وقد تدفع هذه الأزمة إلى إجراء انتخابات جديدة وهو ما يمثل تحديا كبيراً للرئيس الشاب الذي راهنت عليه الجماهير بعد فشل الأحزاب التقليدية في تنفيذ أجندة وسياسات اقتصادية تساهم في تحسين مستوى معيشة المواطنين وتعالج المشكلات الاقتصادية التي تواجهها فرنسا خاصة ارتفاع معدلات البطالة بشكل كبير وارتفاع التضخم وارتفاع حجم الدين الحكومي، إضافة لمشكلات الهجرة، وكلها تحديات كبيرة أمام الحكومة الفرنسية.
 
*رابعها: أن احتجاجات السترات الصفراء تعكس الأزمة الاقتصادية الكبيرة التي تعاني منها الدول الأوروبية، فالاحتجاجات انتقلت من فرنسا إلى الدول المجاورة مثل بلجيكا وهولندا وألمانيا، ما دفع البعض إلى وصفها بالربيع الفرنسي ثم الربيع الأوروبي وأعادت للأذهان مشاهد ما سمي «الربيع العربي»، التي شهدت أعمال حرق ونهب وعنف، وهو يعني أن الاقتصاد هو المحرك الأساسي للتفاعلات السياسية الداخلية في أوروبا سواء مع وصول أحزاب اليمين واليسار المتطرف إلى الحكم خاصة في الرئاسة والبرلمان، أو اندلاع التظاهرات العفوية التي أخذت طابعا غير سلمي وهو ما يبدو غريبا على الثقافة الأوروبية وثقافة الاحتجاج السلمي. 

وما يعمق من هذه الأزمة التحديات الكبيرة التي تواجه الاتحاد الأوروبي كتكتل مع خروج بريطانيا ومساعي دول أخرى للسير على دربها بعد تراجع الأداء الاقتصادي وارتفاع تكاليف المعيشة، إضافة إلى أن الكثير من الدول الأوروبية تعاني مشكلات اقتصادية مزمنة، وتحتاج إلى إجراءات إصلاحية مكلفة قد يكون ثمنها انهيار العديد من الائتلافات الحاكمة في ظل غياب رؤية واضحة للخروج من تلك الأزمة واحتواء تلك الاحتجاجات العنيفة التي تتسع يوما بعد الآخر وتزداد تكلفتها الاقتصادية مع تراجع السياحة والخسائر المادية المرتفعة.
 
ورغم انحسار احتجاجات أصحاب السترات الصفراء نسبياً بعد استقبال الحكومة الفرنسية لعدد من ممثلي تلك الاحتجاجات، إلا أن جوهر المشكلة يتعلق بمستقبل السياسات الاقتصادية التي يتبناها الرئيس ماكرون وحكومته وما إذا كانت تحظى بالشرعية والتأييد من جانب الشارع الفرنسي، خاصة أن الأمر لم يعد مقصوراً عن التراجع عن رفع أسعار الطاقة، بل المطالبة بتغيير هيكل تلك السياسة التي يعتبرها المحتجون انحيازاً للأغنياء، وهو ما يجعل مستقبل الرئيس ماكرون السياسي ذاته على المحك، وكذلك الأحزاب الحاكمة في العديد من الدول الأوروبية، وكذلك مستقبل الأحزاب المتطرفة التي تسعى لاستغلال تلك الاحتجاجات لمواصلة صعودها ووصولها إلى السلطة.
* خبير العلاقات الدولية في الأهرام
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"