«الإنسان» كلمة السر في نهضة الإمارات الثقافية

تتمسك بقيم التسامح والتعددية وتمتلك بنية تحتية إبداعية
02:17 صباحا
قراءة 5 دقائق
القاهرة «الخليج»:
الحالة الثقافية التي تعيشها دولة الإمارات العربية المتحدة، تضرب في الصميم مقولات، ظلت مسيطرة على الذهنية العربية لسنوات طويلة، وأهم هذه المقولات مقولة «المركز والأطراف»، فقد كانت الثقافة العربية تتعامل طوال الوقت مع القاهرة وبغداد وبيروت على أنها مراكز ثقافية عتيدة، وما دون ذلك من دول عربية، مجرد أطراف تستهلك ما تنتجه هذه المراكز، من كتب وأسماء وأنشطة فنية وثقافية، حتى إن هناك جملة ذاعت لفترة طويلة، تقول: «إن القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ».

ما يحدث الآن وحالياً في دولة الإمارات العربية المتحدة، يكشف ما تعانيه هذه العواصم، بسبب عوامل طبيعية، تتعلق بالوصول إلى مراحل الذروة، التي تعقبها انتكاسة أو وعكة صحية، والأمر لا علاقة له بما تمر به تلك البلدان من ظروف تاريخية، تعتبر طارئة في عمر الشعوب، فلا ثورات ما أطلق عليه الربيع العربي وحدها، هي السبب في التراجع الثقافي الذي تعيشه القاهرة، ولا السبب يكمن في تلك الحرب الأمريكية على العراق، بما صحبها من تمزق طائفي، أدى إلى انشغال بغداد بتضميد جراحها، تحت وطأة الاقتتال، وجحافل «داعش» الظلامية، ففي ظني أن تلك الحال التي وصلت إليها هذه العواصم الكبيرة، كانت نتيجة لما آلت إليه أحوال الثقافة بها، في العقد الأخير من الألفية الثانية، من انغلاق أفق والوصول إلى طرق مسدودة.

الإمارات الثقافية حالة مختلفة، بانفتاحها على آفاق واسعة في حركة الثقافة الإنسانية، متجاوزة في ذلك محيطها العربي، الذي ينوء تحت أحمال ثقيلة، منها مشاريع نهضوية مجهضة، وبروز تيارات ظلامية تناوئ فكرة الثقافة في ذاتها، وفي الأخير هذه التيارات الظلامية نتاج تلك الثقافة، التي لم تستطع أن تغرس قيم التحضر والتنوير في تربتها، لذلك يكون السؤال الدائم: لماذا فشلت مشروعات التنوير العربية؟ وكما نرى فإن التصفية الجسدية والفكرية هي أقرب أدوات إنهاء الصراع، بين الجماعة الثقافية الوطنية وتيارات الظلام، فتلك التيارات إفراز مشوه ومتخلف لتلك الثقافة، وهنا تأتي ضرورة الإشارة إلى قيم التسامح والاحتفاء بالتعددية، التي تتميز بها دولة الإمارات العربية المتحدة، ما انعكس على البناء الفوقي للثقافة بها.
تقدم الإمارات مشروعها الثقافي مترامي الأطراف في كل حقول الثقافة، لأنها لا تعاود من زمن إلى آخر، الرجوع إلى نقطة الصفر، شأن ما يحدث في بلاد عربية أخرى، فهناك بناء يتم صنع التراكم الثقافي حوله وفوقه، ليكون لدينا جديد باستمرار، من تشييد بنية تحتية تستطيع استيعاب طاقات إبداعية عديدة، إلى حركة متقدمة في مجال الترجمة، عبر مشروعات طموحة لا يمكن تجاهلها، إلى اهتمام بفنون التشكيل، المنخرطة في حركة الفنون التشكيلية في العالم، ومعارض الكتاب على مدار العام، وصناعة المجلات الثقافية، التي كانت حكراً على بلدان بعينها لفترة طويلة، كل هذه المشروعات الثقافية تؤكد أن الإمارات ليست بمعزل عن العالم، كما أن هذه المشروعات تمتد بمظلتها إلى غير بقعة في الوطن العربي، وفي جولة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة الأخيرة في القاهرة، ما يغنينا في الحديث عن البعد العروبي في الثقافة الإماراتية، ففي أسبوع واحد افتتح سموه مشروعات ثقافية كبرى، أسهم في دعمها بصورة رئيسية.

ليس هذا فحسب، بل إن دولة الإمارات العربية المتحدة باتت جاذبة لأنشطة عالمية عديدة، بما تطلقه من مبادرات، على سبيل المثال برنامج «الفنان المقيم» الذي يسهم في تعزيز سبل الحوار والتبادل الثقافي بين الغرب والشرق، فلم تعد الطريق إلى تحصيل الثقافة، تحتمل التعقيدات القديمة، بمعنى أنه يمكنك أن تزور متحف اللوفر ومتحف جوجنهايم، وتعاين مزادات دار كريستي، دون مشقة، ودون أن تكون مضطراً لقطع الأميال إلى هناك، فقد باتت تلك المنارات عند أطراف أصابعك، كما أن الجوائز تمنح هنا للكتاب العالميين الذين أسهموا في إثراء الثقافة العربية، وتوجه إليهم الدعوات للمشاركة في الفعاليات الثقافية في معارض الكتب والندوات.
لا تتوقف المبادرات الثقافية المطروحة عند حد معين ولن يكون آخرها «مبادرة تعزيز النشر الإماراتي» فقد كانت دور النشر في البلدان العربية ملجأ لنشر إبداعات كتاب الخليج، وقد آن لهذا الوضع أن ينتهي، معززاً بشبكة توزيع قوية، تصل بالكتاب إلى أقصى منطقة نائية في الوطن العربي، حتى تكتمل دورة الكتاب بقارئ، تصله هذه الإبداعات العربية، هذه المبادرات تنطلق من المال الخاص إلى العام، وفي هذا ينبغي الاستشهاد بجائزة سلطان العويس، التي لا تنحاز إلا للقيمة الأدبية، وغيابها عن ساحة اللغط المرتبط بأغلب الجوائز العربية، فلم يشكك أحد في نزاهتها ومصداقيتها طوال دوراتها الفائتة.
يمكن أن نضيف إلى ذلك، المحاولات الدؤوبة لاستعادة المسرح العربي، بعد أن فقد ثقله، بتأسيس الهيئة العربية للمسرح، ومعهد الشارقة للفنون المسرحية، وإن كانت هناك لدى البعض ملاحظات مهمة بألا تكون الأنشطة المسرحية مقصورة على المهرجانات، ثم يتوج كل هذا بالجوائز، التي تكرم الكتّاب المبدعين في مختلف مجالات الإبداع، حتى إن هذه الجوائز أصبحت مطمحاً لعدد من كتّاب الوطن العربي، لأنها باتت تعني تكريس كاتب ما، ووصول عمله إلى القراء هنا وفي الخارج، عبر طباعته وترجمته إلى لغات العالم الحية.

كلمة السر في انطلاقة المارد الثقافي تلك هي «الإنسان» وهنا أستشهد بما قالته الناقدة المصرية «فريدة النقاش» في جولة معها في أروقة معرض الشارقة للكتاب: «هذا البلد يتقدم بسرعة عمرانية مذهلة» وهي تشير بيديها إلى أماكن لم تكن موجودة في زياراتها السابقة للشارقة، و«الإنسان» بالتأكيد هو من يقف وراء هذا التطور، فقد اكتشف تلك اللفتة مبكراً المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان حين قال: «إن بناء الإنسان ضرورة وطنية وقومية تسبق بناء المصانع والمنشآت لأنه بدون الإنسان لا يمكن تحقيق الازدهار والخير لهذا الشعب» ولذا فإن حالة الازدهار الثقافي التي تعيشها دولة الإمارات العربية المتحدة مرتبطة في الأساس بنهضة تعليمية وعلمية كبرى قوامها الإنسان.
ما يميز التجربة الثقافية الإماراتية، أنها تفتح عيناً على الحاضر والمستقبل، وتنظر بالثانية إلى ماضيها وتراثها، ولذلك يحظى الموروث الشعبي بالاهتمام الكبير في الأجندة الإماراتية، بالقدر الذي تنفتح به هذه الثقافة على الحداثة في الفنون وكافة أشكال الأداء، فلا تغفل الإمارات العربية المتحدة تاريخها، وتؤسس لهذا الاهتمام بإنشاء المراكز البحثية المعنية بالتراث الشعبي، وإصدار التشريعات والمراكز التي تحمي هذا التراث، ومنها على سبيل المثال: «نادي تراث الإمارات - مركز الفنون الشعبية في الشارقة - جمعية الفنون الشعبية في عجمان».
«الإنسان» وقيم التسامح والتعددية إذاً هي كلمة السر في تلك النهضة الثقافية الكبرى، التي تشهدها دولة الإمارات العربية المتحدة، والانفتاح على الآخر أياً كانت ثقافته، مفتاح هذا الازدهار، فالانكفاء على الذات أول أسباب التراجع الحضاري والثقافي، وهو ما تعيه التجربة الناهضة في دولة الإمارات العربية المتحدة على كل المستويات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"