التلوّث ظل الإنسان على الأرض

04:09 صباحا
قراءة 6 دقائق
دكتور مهندس - محمد مصطفى الخياط *
يمكننا القول إن كوكب الأرض حين وطأته أقدام آدم وحواء كان في حالة اتزان فريدة، غير مسبوقة . فما إن مدا أيديهما يتناولان ثماره سداً لجوع ويشربا ماءه رياً لعطش حتى ارتجف التوازن . وعلى مر السنين تزاحمت مسيرة الإنسان على كوكب الأرض بصور شتى . تجاورت فيها السلبيات والإيجابيات . اختصر المسافات بطائراته وسياراته فاندفع في الفضاء خيط دخان . اختال بسفنه على سطح الماء فلوثه . أنشأ المصانع ودفن مخلفاتها بحراً وأرضاً . صار أينما حل يغرس بذور الموت إلى جانب بذور الحياة، ليرافقه التلوث كظله .
قدرت منظمة الصحة العالمية عدد الوفيات جراء التلوث بنحو سبعة ملايين فرد سنوياً . وفي ظل اعتماد ثلث سكان الأرض على الحرق المكشوف للحطب والروث والمخلفات الزراعية لسد احتياجاتهم من الطاقة، يتوفى 50% من الأطفال دون سن الخامسة بسبب استنشاق الهواء الملوث . وتشير التحاليل الطبية إلى انتشار أمراض كالسرطان جراء تلوث الغذاء والهواء بمخصبات التربة الكيميائية، فضلاً عن الزج بنحو 100 مليون شخص سنوياً في هاوية الفقر بسبب الإنفاق على الرعاية الصحية .
من هنا ينظر هذا المقال في إفرازات الحضارة البشرية وليس الإنسانية، فالأولى تغض النظر عن الآثار السلبية في البيئة، والثانية تنظر إلى الأهداف ضمن إطار إنساني يوازن بين الأبعاد، الإيجابية والسلبية، حرصاً على بيئة تضم الأرض، والمياه، والأحياء، والغلاف الجوي والمناخ .

إفرازات حضارية

"يلقى نحو 5 .3 مليون فرد حتفهم سنوياً جراء تلوث الهواء بنواتج الحرق المكشوف للفحم والكتلة الإحيائية في مواقد تنتشر في 3 مليارات منزل حول العالم . أيضاً تتسبب عوادم وسائل النقل، ومحطات الطاقة بوفاة قرابة 3 .3 مليون شخص سنوياً" . جاءت هذه الإحصاءات الصادمة ضمن المؤشرات التي تضمنها تقرير منظمة الصحة العالمية الذي تم عرضه في ريو دي جانيرو بمناسبة مرور 20 عاما على انعقاد مؤتمر "قمة الأرض" الذي شهد الإعلان عن حزمة من المبادئ الأخلاقية الهادفة لبناء مجتمع دولي ينعم بالاستدامة والسلام .
كانت المنظمة قد نشرت قائمة بأكثر المدن تلوثاً قياساً لنسبة الضباب الدخاني، تصدرتها مدينة الأهواز الإيرانية كرد فعل لانتشار الصناعات الثقيلة ومعالجة النفط في محيطها، في حين تصل كثافته في بكين إلى أكثر من 500 ميكروغرام للمتر المكعب، متجاوزة النسب الصحية . منذ يونيو/ حزيران 1972 حيث انعقد أول مؤتمر دولي بشأن البيئة برعاية أممية والرؤى بشأنها متعددة . الدول المتقدمة الأولى في إنتاج الملوثات رهنت قرار استخدام تكنولوجيا ما بنتائج تحليل التكلفة والمنفعة . في حين تراه بعض الدول النامية مصدراً للدخل بجعل أرضها مدافن للنفايات النووية . تعاقدت بنين على دفن خمسة ملايين طن من النفايات الخطرة سنويا في أرضها مقابل دولارين ونصف الدولار للطن . أدت التوسعات في إنتاج الطاقة إلى استخدم مفرط للفحم والنفط، كما أفضت جهود البحث عن غذاء وفير يسد أفواه الجوعى إلى اعتماد أساليب إنتاج غير مستدامة تعتمد على المخصبات الكيميائية .
يفقد العالم مع كل شجرة تقطع حويصلة هوائية تتنفس عنه . ومع هذا تعمل فرق قطع الأشجار تحت مبدأ "اقطع واحرق" . لا استثناء بين الدول المتقدمة والنامية . فرؤيتي لصف الأشجار المحترقة والممتد لعدة كيلومترات خارج سان فرانسيسكو أثناء زيارتي الأخيرة يتماثل مع ما دونته الكينية "وانغاري ماثاي" الحائزة على نوبل للسلام 2004 عن غابات الكونغو .

تلوث الماء

تتعرض المجاري المائية لأنواع عديدة من التلوث تشمل مخلفات الصرف الصحي، والمخلفات الزراعية، والمبيدات الكيميائية، والمخصبات الزراعية، إلا أن أشدها ضررا يكمن في مخلفات المصانع والتسرب النفطي .
يؤدي تسرب النفط أثناء استخراجه من أعماق البحار إلى مشكلات بيئية تؤثر في الحياة الطبيعية . تلوث بقع الزيت الأسماك وتمنع وصول الضوء للمجهريات البحرية فتموت . ولعل أشد الحوادث ما وقع في أبريل2010 . فأثناء حفر شركة "بريتش بتروليوم" على عمق 1600متر في خليج المكسيك انفجرت منصة الحفر لتقتل أحد عشر عاملا، وليتسرب 4 .4 مليار برميل . كما أدت عاصفة شديدة إلى انشطار ناقلة نفط يونانية عام 2002 لتلوث نحو 77 ألف طن من المازوت الشواطئ الإسبانية، نفق على إثرها 250 ألف طائر .
تتلقى البحار والمحيطات نحو 5 ملايين طن سنويا من النفايات البلاستيكية، تمثل 80%من إجمالي ما تتلقاه من نفايات . تعلق أكياس البلاستيك كقناديل البحر لتقتنصها الطيور والثدييات، لتبقى في أمعائها دون هضم مسببة موتها .
أيضاً تسهم مخلفات مصانع الحديد والورق والمنتجات الغذائية والبتروكيماويات في الإضرار بالأحياء البحرية، لينتقل الضرر إلى الإنسان عقب تناوله هذه البحريات . فضلاً عن آثار الصيد في المتفجرات طلباً لكميات أكبر من الأسماك .

تلوث التربة

تحتضن الأرض البذور لتخرج منها نباتات متنوعة . صنوان وغير صنوان . يسقى بماء واحد . ولأن كل بئر تنضح بما فيها، تزخر الأسواق بمنتجات تسكن أنسجتها الكيميائيات وبذور موتنا . علاوة على ذلك يتسبب تجريف الأرض في فقدانها لخصوبتها، وإنتاج سلاسل غذائية لا تحتوي على القيم المثلى للفيتامينات . تؤدي إزالة الأشجار والغابات إلى زيادة درجة حرارة الأرض، وبالتالي اختلاف أنماط المطر الموسمية عالمياً . وترى ليزا نيوتن أن تفسير "رأس المال الطبيعي" يجب أن يبنى على احتساب قيمة الخدمات الطبيعية التي يقدمها الموئل السليم في إطار متكامل غير منفصل . كما ينتج عن احتراق البنزين دخان ذو نسبة رصاص عالية ترفع مستويات التلوث في الهواء والتربة إلى حدود خطرة . لذا يصنف الرصاص كأخطر السموم انتشاراً في الهواء، مسبباً تشوه الأجنة وإجهاض الحوامل . ويسبب دخول مركبات الدايوكسنات ومادة ال"د .د .ت" في تصنيع وتغليف الغذاء أمراضاً خبيثة . لقد أكدت عدة تقارير احتواء لبن المرضعات على نسب من هذه المواد .
إن نظرتنا إلى احتياجاتنا يجب أن يشملها إطار بيئي آمن يراعي حقوقنا كآدميين، حتى وإن أدى ذلك إلى خفض حصتنا من المأكل والمشرب . يتسع مفهوم تلوث الهواء ليشمل العديد من المسببات، كالمطر الحمضي، ومركبات الكلورو فلورو كربون، وعوادم السيارات، ونواتج الحرق . من هنا جاءت صيحة منظمة الصحة العالمية بأن أسباب وفاة سبعة ملايين نسمة سنوياً ترجع إلى إصابة: 34% بالسكتة الدماغية، و25% بالقلب، و22% بالانسداد الرئوي، و13% بالالتهاب الرئوي، و6% بسرطان الرئة، فضلاً عن الإصابة بالحساسية الصدرية والربو .
كانت حرائق ما يزيد على ألف بئر نفط كويتية إبان حرب الخليج فبراير/ شباط 1991 قد تسببت في تغطية سماء معظم دول الخليج بالدخان نافثة أكاسيد الكربون، والكبريت والنيتروجين، وغيرها، لتكتوي دوله بآثارها .
وعلى صعيد آخر، حفل تاريخ الطاقة النووية بعدة كوارث إنسانية وبيئية، بدءًا من تفجير أمريكا القنبلة النووية فوق رؤوس سكان مدينتي هيروشيما وناغازاكي، والتسرب الإشعاعي لمفاعل تشرنوبل في أوكرانيا عام ،1986 وإغلاق المفاعلات اليابانية في فوكوشيما بسبب زلزال بلغت قوته 9 .8 درجة على مقياس ريختر مصحوبا بموجات تسونامي، أدت إلى مقتل 1300 شخص، وإخلاء السكان من منازلهم في دائرة قطرها 20 كيلومتراً حول أحد المفاعلات النووية . كل هذه الكوارث وغيرها أثرت بشكل مباشر في زيادة معدلات التلوث التي يتعرض لها الإنسان والكائنات الحية عموما، فعندما تسرب 40 طنا من مادة "ميثيل الإيزوسيانات" السامة من مصنع مبيدات حشرية بمدينة بوبال منذ نحو ثلاثين عاما قضى نحو ثلاثة آلاف هندي أثر استنشاق الغازات السامة . كما قتل المئات من المدنيين السوريين جراء قصف أحياء مدنية بالغازات السامة في الحرب الدائرة منذ نحو ثلاث سنوات .

بيئتنا . . حياتنا

نعم . بيئتنا حياتنا . فالعلاقة بين البيئة والتنمية هي علاقة توافق لا تنافر . فتأثر بيئتنا في أنواع التلوث إلى جانب الاستهلاك المهدر للثروات يزيد من مخاوفنا المتعلقة بالصحة . يحاصرنا التلوث . ليصبح ظل الموت وأيقونته .
على المستوى العربي، تشير البيانات إلى اقتران العديد من الاستثمارات بسياسات نمو غير مسؤولة في قطاعات البناء والتصنيع والسياحة، تؤثر سلباً في البيئة . من هنا يصبح حجم الإنفاق على الصحة مرادفاً في كثير من الأحيان لزيادة معدلات التلوث . دعمت مصر الطاقة الكهربائية بحوالي 4 مليارات دولار عام ،2013 إلا أن استخدام نظم توليد غير مستدامة قاد إلى آثار صحية تقدر بنحو 3 .3 مليار دولار إضافية، لترتفع قيمة دعم الكهرباء إلى الضعف تقريباً . على مستوى الخليج، أمدت مخزونات الأسماك المواطنين بمصدر رئيسي للغذاء والدخل منذ مئات السنين . وهناك أدلة تشير لتزايد المخاطر التي تتعرض لها مصائد الأسماك تحت تأثير العلف المصنع وتقنيات التسمين غير المستدامة . أيضاً تتوقع الدراسات مساهمة إفريقيا بنصف التلوث العالمي من الجسيمات الناجمة عن حرق الحطب والفحم والوقود الأحفوري سنة ،2030 ارتفاعاً من 15% حالياً . إن إصرارنا على مثل هذه الإجراءات يجعلنا نغزل أكفاننا بأيدينا . وعالمياً يجب النظر إلى تلوث البيئة على أنه أمر محلي ذو مردود إقليمي ودولي . فانبعاث الغازات الدفيئة من بلد لا يؤثر في سكانه فقط، بل والدول المجاورة، وربما قذفته الريح من قارة لأخرى، كما حدث في مأساة آبار النفط الكويتية . إن الإجراءات الاحترازية ضرورة وليست ترفاً، حتى وإن وضعت حدوداً لتطلعاتنا الاقتصادية . إن استمرار النمو المفرط من دون قيود يضع بني البشر على المحك . حيث الخيار صفر . التلوث أو الموت .
[email protected]
www.energyandeconomy.com

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"