صعود الشعبي.. سقوط النخبوي

00:50 صباحا
قراءة 4 دقائق
الشارقة: محمد ولد محمد سالم

أكد عصر الإنترنت و«مواقع التواصل الاجتماعي» مقولات الناقد الدكتور عبد الله الغذامي، في ما يتعلق بعصر «هيمنة الصورة»، وسقوط دور المثقف، بل إن هذا العصر ذهب إلى أبعد من ذلك ليؤكد تفكيك الهيمنة الثقافية التقليدية نتيجة ل «خطاب الصورة»، عندما طرح الدكتور عبدالله الغذامي كتابه «الثقافة التلفزيونية، سقوط النخبة وبروز الشعبي» 2004، كان يقدم من خلاله أفكارا جديدة كل الجدة في مجال ما عرف بالنقد الثقافي أو دراسة الأنساق الثقافية، وقد حلل فيه ثقافة الصورة وهيمنتها تحليلا شيقا جميلا، يدل على عمق ثقافي وبعد نظر وهضم لمقولات علم السيمياء، وعلوم النقد الأدبي، وإلمام بعلم الأنثربولوجيا.

الكتاب كما هو واضح من العنوان «الثقافة التلفزيونية» يركز على تأثير «الصورة» التي يبثها التلفزيون، والتي أصبحت تصنع ثقافة المجتمعات، وطرحت نفسها كبديل عن كل أشكال التعبير الثقافي الأخرى، التي تراجعت إلى الخلف في وجه الهيمنة العارمة لتلك الصورة التلفزيونية، التي يصنعها التلفزيون، ما نتج عنه ما أسماه الغذامي ب «الثقافة البصرية»، ويعرفها بأنها «مرحلة ثقافية بشرية تغيرت معها مقاييس الثقافة كلها إرسالاً واستقبالاً وفهماً وتأويلاً مثلما تغيرت قوانين التذوق والتصور. والحق أن الصورة تعتدي علينا فعلاً، فهي تقتحم إحساسنا الوجداني وتتدخل في تكويننا العقلي، بل إنها تتحكم في قراراتنا الاقتصادية؛ حيث تضطرنا إلى صرف مالٍ ما كنا سنصرفه لولا مفعول ثقافة الصورة، وهي مثلما تسلب علينا راحتنا النفسية فإنها أيضاً تمتعنا متعة من نوع جديد وبالغة التأثير، تماماً مثلما تدير ردود فعلنا السياسية والاجتماعية وتؤثر في توجهاتنا الفكرية والثقافية».
يقسم الغذامي مراحل الصيغ التعبيرية في الثقافة البشرية إلى المرحلة الشفاهية ثم مرحلة التدوين ثم المرحلة الكتابية ومرحلة الصورة التي يعيشها العالم اليوم، وهي لا تلغي المراحل السابقة لكنها تتقدم وتهيمن عليها، وتجعل خطاباتها ضعيفة وباهتة رغم أنها لا تزال موجودة، ويخلص الغذامي في كتابه إلى أمرين مهمين، الأول هو أن عصر الصورة هو عصر سقوط هيمنة المثقف، وتلاشي المكانة الرمزية التي كان يتمتع بها كصانع للأفكار وموجه للمجتمع، فلم يعد له ذلك الدور، سواء على مستوى السياسة أو الأخلاق أو القناعات الفكرية، وبدلاً من ذلك استحدثت ثقافة الصورة دور النجم، والنجم يختلف عن المثقف في كونه «تشخيص» لمعايير وقيم الصورة التي هي في الأساس معايير مادية حسية استهلاكية، والنجم بعكس المثقف لا يحمل خطابا ذاتيا خاصا به، لكنه يمثل خطاب الصورة والجهة التي تصنع تلك الصورة وتريد أن تفرض عن طريقها ثقافته البصرية الاستهلاكية، لذلك فإن النجم عندما يتغير الأساس المادي الذي اختير عليه، كالصورة أو الصوت، فإنه يختفي ليحل محله نجم جديد، ويذهب ذلك الأول للنسيان، كما أن تلاشي دور المثقف وخطابه الرمزي ألغى أيضا نخبوية الثقافة، لأن الصورة كخطاب ثقافي يستوي فيها المثقف والأمي، ولكل منهما القدرة على فهمها وتأويلها حسب مرجعياته، وهذا ما عناه الغذامي في بروز الشعبي، حيث في عالم الصورة أصبح الكل متساويا، وازدادت قوة الجماهير، وتوسعت سلطتها.
الأمر الثاني المهم الذي خلص إليه الغذامي، هو «وهم مقولة الغزو الفكري»، لأن تقليد ثقافة الصورة التي تشيعها أمريكا في العالم، وما يستتبعها من مظاهر ما يسمى في العالم بالعولمة، لم تؤد إلى تغييرات جوهرية في الممارسات الثقافية والفكرية للمجتمعات، وإنما أدت إلى تقليد شكلي في مظاهر الحياة، كما أن الصورة التي تقدمها لا تمر هكذا من دون مواجهة، فالمجتمعات البشرية تصنع بدورها خطابات صور مضادة لمواجهة الصورة الأمريكية التي هي رمز العولمة، وهذه الصورة المضادة تحمل البعد الثقافي والفكري للمجتمع الذي أنتجها، وتسعى لترسيخ ثقافته ضد الصورة المعولمة، يقول الغذامي إن «البشر صاروا يلجأون إلى مهارات عديدة تؤدي إلى تنوع في ردود الفعل على ما تنتجه ثقافة الصورة إلى درجة أننا نجد الرفض يتصاحب مع القبول، ونجد الصورة والصورة الناسخة؛ أي أننا أمام تورية ثقافية ذات معان مزدوجة، ولسنا أمام نمط واحد في الاستقبال، بل إن أنماط الاستقبال الثقافي صارت من التنوع والتعدد مما يجعل وهم الهيمنة المطلقة لثقافة كونية واحدة غير صحيح، بل الواقع هو التعدد، والواقع هو ظهور أنساق ثقافية تقوم على صراع للأنساق، وهي إذ تسوق نمطاً واحداً في ظاهر الأمر فإنها تحفز أنماطاً أخرى تخرج من المضمر الثقافي لتواجه وتعاند، بل إنها صارت تفرض نفسها عبر إنتاج صور مضادة، وصارت الصورة مقابل الصورة».
عندما نشر الغذامي كتابه في 2004 لم تكن المدونات الخاصة قد راجت بعد في الوطن العربي، كما أن مواقع التواصل الاجتماعي المهمة مثل «فيسبوك» و«تويتر» لم تكن قد ظهرت «فيسبوك ظهر في فبراير/شباط 2004»، لذلك كان كل تركيزه على الصورة التلفزيونية، وقد شهدت تلك الفترة انفجارا للفضائيات في الوطن العربي، ما جعلها تستحق الدراسة والمتابعة، لكن ظهور مواقع التواصل الاجتماعي وهيمنتها، وما نتج عنها مما عرف ب «الإعلام الجديد» أعطى زمام المبادرة للفرد، فأصبح من يملك كمبيوتراً أو هاتفاً ذكياً متصلاً بالإنترنت قادرا على صناعة خطابه الإعلامي الخاص به، والذي بالطبع تعتبر الصورة العنصر الأهم فيه، وأصبح له متابعون يتلقون هذا الخطاب، فهو مشترك في مواقع التواصل الاجتماعي، وداخل في صداقة مع آلاف الأشخاص الآخرين، مما يعني أن الفرد - وليس المؤسسة الإعلامية أو الجهة التي تسيطر على الخطاب الإعلامي- أصبح له خطاب مؤثر قادر على إحداث التغيير وتوجيه الجماهير إلى ما يريده، فصورة لصبي يضربه أبوه مع تعليق بسيط قد تثير ملايين التعليقات، وتنتشر عبر الإنترنت كالنار في الهشيم، وقد تؤدي إلى مظاهرات وإلى تغيير في قوانين الحالة الاجتماعية، وقس على ذلك كل الصور والفيديوهات والتدوينات التي ينشرها أعضاء تلك المواقع.
ولئن كانت المرحلة السابقة للصورة هي مرحلة صناعة ثقافة معينة وسعي إلى السيطرة على ثقافات أخرى عن طريق فرض «صورتها الثقافية» المتلفزة، فإننا في المرحلة الجديدة، لم نعد نعيش عصر «ثقافة الصورة»، بل عصر «صورة اللاشعور» لأن هيمنة خطاب الفرد تعني هيمنة خطاب المشاعر الفردانية التي يحركها «اللاشعور»، وهي مشاعر بعيدة عن الموضوعية والاجتماعية، والمشترك الإنساني، إنها مرحلة الذاتية المطلقة، وليس ما نراه اليوم من مظاهر العنف والعنصرية وصعود التيارات الشعبوية والشوفينية إلا مظهراً لتلك الذاتية المغرقة في النرجسية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"