إن إذا

من بدائع لغة القرآن
04:16 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. رشاد سالم *

من اللطائف العجيبة في القرآن الكريم استخدام «إن»، و«إذا»، وهما أداتان من أدوات الشرط.
ويعرّف النحاة «إن» الشرطية بقولهم: إنها حرف جازم يجزم فعلين: الأول فعل الشرط، والثاني جواب الشرط وجزاؤه، وهي في نظرهم أم الباب، أي الأداة الرئيسية في أدوات الشرط.
ويقولون عن «إذا»: إنها ظرف لما يُستقبل من الزمان - وأحيانًا للماضي بوجود قرينة- يتضمن معنى الشرط ولا يجزم، خافض لشرطه منصوب بجوابه.
ولم يفرق الناس في أحاديثهم وكتاباتهم شعرًا ونثرًا، قديمًا وحديثًا بين دلالة «إن» و«إذا، فهم يستعملون كلًّا منهما، إحداهما مكان الأخرى، وفق ما يسبق إلى ألسنتهم، أو تقتضيه أحكام الضرورة الشعرية أو الصنعة الأدبية. انظر إلى بيت المتنبي:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
فهو لم يضع «إذا» في بداية الشطر الأول، و«إن» في الشطر الثاني إلا لضرورة الوزن، ولو كان الأمر عكس ذلك لانكسر البيت واختل الوزن.
وليس الأمر كذلك في القرآن الكريم؛ لأن الله تعالى يستخدم كل كلمة وكل جملة في القرآن الكريم في مكانها، وفي السياق الذي ترد فيه، وفي التركيب المحدد لها.
في القرآن الكريم يتحد لفظ الكلمة ومعناها، وتركيب الجملة ودلالتها في نظم قرآني معجز، تكون كل كلمة فيه مقصودة للفظها ومعناها، لتؤدي دلالتها وإيحاءاتها التي اقتضتها حكمة الله.
واستعمال «إن» و«إذا» في القرآن الكريم يؤكد هذه الحقيقة؛ ذلك أن «إن» ترد في القرآن الكريم عندما يكون الأمر محتملًا للشك بعيدًا عن اليقين. وترد «إذا» عندما يكون الأمر مؤكدًا لا تشك في حصوله.
اقرأ الآيات الكريمة الآتية: قال تعالى: (فَإذَا أَفَضْتُمْ منْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عنْدَ الْمَشْعَر الْحَرَام) [البقرة: 198].
وقال تعالى: (حَتَّى إذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْموْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرّطُونَ) [الأنعام: 61].
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آَمَنُوا إذَا نُوديَ للصَّلَاة منْ يَوْم الْجُمُعَة فَاسْعَوْا إلَى ذكْر اللَّه) [الجمعة: 9]، وأترك القارئ الكريم يتبين مدى
اليقين في هذه الآيات.
أما «إن» فإنها لمواضع الشك، تأمل قوله تعالى: (فَإنْ خفْتُمْ أَلَّا تَعْدلُوا فَوَاحدَةً) [النساء: 3].
وقوله سبحانه: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادقينَ) [البقرة: 111].
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آَمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسقٌ بنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصيبُوا قَوْمًا بجَهَالَةٍ فَتُصْبحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادمينَ) [الحجرات: 6].
وقوله سبحانه في سورة الشورى: (وَإنَّا إذَا أَذَقْنَا الْإنْسَانَ منَّا رَحْمَةً فَرحَ بهَا وَإنْ تُصبْهُمْ سَيّئَةٌ بمَا قَدَّمَتْ أَيْديهمْ فَإنَّ الْإنْسَانَ كَفُورٌ) [الشورى: 48].
تذوق... كيف أتى في تعليق الرحمة المحققة إصابتها من الله تعالى ب«إذا»، لأن «إذا» تدخل على المتيقن من الأمور: (إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّه وَالْفَتْحُ)[النصر: 1]، وأتى في إصابة السيئة ب«إن» التي لا تدخل في التركيب إلا على أمر مشكوك فيه؛ فإن ما يعفو الله عنه أكثر.
وقوله تعالى في سورة الإسراء: (وَإذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإنْسَان أَعْرَضَ وَنَأَى بجَانبه وَإذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤوسًا) [الإسراء: 83].
كيف أتى - هنا - ب «إذا» المشعرة بتحقيق الوقوع المستلزم لليأس؛ فإن اليأس إنما حصل عند تحقيق مس الشر له، فكان الإتيان ب«إذا» ها هنا أدل على المعنى المقصود من «إن».
ومثل هذه الأسرار في القرآن الكريم لا يرقى إليها إلا بموهبة من الله، وفهم يؤتيه عبدًا في
كتابه.


* مدير الجامعة القاسمية بالشارقة

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"