القصص القرآني والتاريخ

04:11 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. الطيب بوعزة

يذهب عدد كبير من الباحثين الذين تفاعلوا مع القرآن من مدخل النظر التاريخي إلى أن: «ثمة حقيقة أساسية تبرز واضحة في القرآن الكريم، تلك هي أن مساحة كبيرة في سوره وآياته قد خصصت (للمسألة التاريخية) التي تأخذ أبعاداً واتجاهات مختلفة، وتتدرج بين العرض المباشر والسرد القصصي (الواقعي) لتجارب عدد من الجماعات البشرية...» (د. عماد الدين خليل، التفسير الإسلامي للتاريخ، ص5).
والقول إن القرآن وافر بالعروض التاريخية يلزم عنه - حسب حس الباحث المؤرخ - إخراج القصص القرآني من الإطار الفني للرواية إلى مجال التاريخ: «... فعروض القرآن التاريخية، وإن جاءت تسميتها - أحياناً - بالقصص، أي الحديث عن الماضي، تخرج عن الإطار الفني للقصة. وبهذا تكتسب بعدها التاريخي». (خليل، م س، ص 97)
لكن لابد هنا من إبداء ملاحظتين: أولاهما، هي أن مسألة وفرة العروض التاريخية في القرآن التي تقتضي من قارئها أن يخرجها من الإطار الفني للقصة، قد توحي بعدم جواز دراسة القصص القرآني بالتقنيات الفنية للسرد، بينما مما لا شك فيه أن لهذه القصص جماليتها ورمزيتها الفنية التي تسوغ مقاربتها من مدخل القراءة الأدبية، وقد حصل ذلك في بعض الدراسات الفنية المعاصرة، كما أن التلقي السردي للقصص القرآني كان له حضور كبير في التفاسير التراثية - وخاصة تفسير الخازن - التي انساقت نحو استعمال «الإسرائيليات» لتمديد مساحة وعناصر السرد.
غير أننا نرى أن هذا الانسياق نحو القراءة التاريخية للقصص القرآني، قد يؤدي إلى عدم الانتباه إلى فائدة أخرى أكثر أولوية، تخص مجال التقعيد لكيفية قراءة التاريخ، والتفاعل معه.
لكن كيف نرفض مقاربة القصص القرآني كتاريخ، ثم نقول إن فيها فائدة وهي تقعيد كيفية قراءة التاريخ؟
إن المصدر الذي يجب أن نلْتَمِس منه الغرض من القصص القرآني هو القرآن ذاته؛ حيث إن هذا التحديد للغرض من القصص ليس متخفياً؛ بل صريحاً: «لقد كان في قصصهم عبرةٌ لأولي الألباب» (يوسف/111).
فلا يبدو استحضار الماضي في القرآن انصرافاً إلى استمداد مادة الحدث التاريخي؛ بل ثمة تركيز على أمر آخر هو استمداد العبرة من الحدث.
وفي نظام القصص القرآني، أكثر من إشارة جَلِيَّةٍ إلى أن القرآن لا يعتني في قصصه بتفاصيل الوقائع والأحداث؛ بل بالقيم التي يمكن تحصيلها منها، في انسجام تام مع ذلك المقصد المنهجي الذي حدده، أي «الاعتبار»، الذي هو الناظم المنهجي الحاضر في جميع سياقات إيراد القصص، مما يركز المعنى السابق، أي أن المطلب من التفاعل مع التاريخ هو العبرة لا غير.
وهنا ينبغي تغيير كيفية فهمنا لما يُسمى ب «العروض التاريخية في القرآن». فالآيات القرآنية لا تنشغل بتقديم وافر لعناصر المادة التاريخية، كما يظن بعض الباحثين، بل بالعكس نجد في تلك الآيات إصراراً على التقليل من المادة التاريخية (زمن الحدث، أسماء الأمكنة، أسماء الشخوص، تفاصيل الحدث.. إلخ)، والتركيز على ما هو أهم وأوكد من المنظور القرآني، أي القيم المتحصلة من الحدث. وهو نهج يتكرر إجراؤه في مختلف السور التي يرد فيها استحضار الماضي، مما يفيد أن القصد الدلالي والقيمي ذو أولوية مطلقة على كل ما عداه من قصود.
بل حتى الأنبياء - الذين يشغلون المساحة الكبرى في مجال القصص القرآني - ينبه القرآن إلى أن الأهم هو استمداد القيم من تجاربهم واستخلاص دلالتها وفائدتها، وليس الاستغراق في تعداد أسمائهم وتأريخ حيثيات حيواتهم. ومن ثم فإن استحضار عدد قليل من الأنبياء يوفي بالغرض ويحققه:
«ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك، منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك».
إذاً إن القرآن يؤسس لفكرة كلية التاريخ، على نحو مختلف عن طرائق الفلسفات الموغلة في سذاجة الظن بأنها تقدم معنى كلياً للتاريخ، بينما هي تنتهي إلى تحديد ضيق لمساراته؛ بل حتى إعلان منتهاه وخاتمته.
إن فكرة التاريخ الكلي في القرآن ليست استغراقاً في تفاصيل التاريخ؛ بل تركيزاً على المعنى الذي يمكن أن يثمر صناعته وتجويد مساره.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"