الإسلام يحمي الأعراض ويخرس ألسنة السوء

02:22 صباحا
قراءة 6 دقائق
كما نشر القرآن الكريم الأخلاق الفاضلة في المجتمع الإنساني وأشاع قيم الحق والعدل والعفو والرحمة والرفق بالضعيف وغيرها.. واجه كل صور القبح اللفظي والسلوكي، وحمى المجتمع من هؤلاء الذين تربوا على الإسفاف وأدمنوه.
والرذائل السلوكية، التي واجهها القرآن الكريم كثيرة ومتنوعة، ويهدف من وراء تلك المواجهة الحاسمة إلى حماية كل أفراد المجتمع من هؤلاء الذين استباحوا لأنفسهم اتهام الشرفاء بما ليس فيهم، وحماية أعراض الناس وسمعتهم، والحفاظ على كرامتهم، وتحصين المجتمع من الاتهامات الباطلة.
تقول د. مهجة غالب أستاذة التفسير وعلوم القرآن بجامعة الأزهر: التربية الأخلاقية للقرآن تشمل جانبين مهمين:
الأول: نشر القيم الفاضلة بين الناس وحثهم على الالتزام بها، وهذه القيم كثيرة وتشمل كل سلوك طيب من شأنه أن يرفع من شأن صاحبه.
الثاني: محاربة السلوكيات الشاذة والقبائح الأخلاقية، والهدف من ذلك حماية المجتمع كله من تداعيات تلك السلوكيات، وللقرآن إسهام كبير في ذلك، ولو التزمنا بتعاليمه وآدابه لحققنا المجتمع المثالي، الذي عجزت كل الفلسفات في العالم عن تحقيقه.
مواجهة الزنى
ولأن جريمة الزنى تمثل تهديدا خطيرا لأمن المجتمع وسلامته، فقد كانت مواجهة القرآن لها حاسمة ورادعة، حيث تعددت الآيات القرآنية التي تستهدف حماية أعراض الناس والحفاظ على كرامتهم.
تقول د. مهجة: حرص القرآن الكريم على أعراض الناس وسمعتهم واضح من خلال العقوبات الرادعة التي قررها، وأمر بتطبيقها على كل من يرتكب جريمة الزنى.
ولو تأملنا النص القرآني الذي يواجه هذه الرذيلة لوجدنا أن الله سبحانه وتعالى استخدم التوجيه والإرشاد أولاً حيث يقول سبحانه: «ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا»، فإذا ما التزم المسلم والمسلمة بهذا الأمر الإلهي، وعف نفسه، وابتعد عن انتهاك أعراض الناس، عاش كريما عزيزا، وجنب نفسه العقوبات الرادعة التي قررها الخالق في كتابه الكريم. لكن إذا ما انساق وراء شهواته ونزواته استحق العقاب الإلهي المنصوص عليه في قوله سبحانه: «الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين».
ففي هذه الآيات الكريمة عقوبة زاجرة لكل من يتورط في هذه الجريمة، وهي الجلد مئة جلدة وأمام الناس لكي يتحقق الزجر المطلوب، وفي هذه الآيات أيضا أمر إلهي بعدم التعاطف مع هؤلاء الفاسدين الذين لا يعرفون معنى الشرف.
شروط العقوبة
وعن الشروط التي يجب توافرها لتطبيق عقوبة الزنى يقول د. محمد كمال إمام أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الإسكندرية، وعضو مجمع البحوث بالأزهر الشريف: شريعة الإسلام عادلة ومنصفة، ولا تأخذ الناس بالشبهات، ولذا وضعت شروطا لتطبيق عقوبة الزنى، حتى لا يظلم أحد أو توقع على إنسان عقوبة رادعة مثل هذه من دون أن يكون قد تورط في هذه الجريمة، وهذه الشروط هي أن يكون من ارتكب الجريمة بالغا عاقلا، فلا حد على صغير أو مجنون، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل». لكن ارتكاب شاب لم يبلغ لهذه الجريمة، لا يعني إعفاءه من العقوبة نهائيا، حيث تقر شريعة الإسلام توقيع عقوبة تعزيرية زاجرة عليه حتى لا يعود إلى مثل هذا الجرم مرة أخرى.
أيضا من شروط تنفيذ عقوبة ارتكاب فاحشة الزنى، أن تتم هذه الجريمة عن طريق الاختيار والرضا من جانب الرجل والمرأة، فإذا ما تمت عن طريق الإكراه فإن العقوبة تكون على من ثبت بالدليل القاطع أنه أكره غيره على ذلك. كما أن من شروط تنفيذ عقوبة ارتكاب الزنى، أن يتم ذلك عن طريقين:
- الأول: الإقرار الصريح، فالإقرار هو سيد الأدلة، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بإقرار «ماعز والغامدية» اللذين ارتكبا هذه الجريمة وأصرا على الإقرار والاعتراف بها، وأقيم الحد عليهما بسبب هذا الإقرار الذي أصرا عليه إصرارا تاما وقالا: «طهرنا يا رسول الله».
- والثاني: شهادة أربعة من الرجال المسلمين البالغين العقلاء العدول، الذين شاهدوا الزاني والزانية يرتكبان هذه الفاحشة مشاهدة تامة لا لبس فيها ولا خفاء، وهذه الشهادة من الشهود الأربعة للزانيين بهذه الطريقة هي من الأمور الصعبة، وذلك حرصاً من الشريعة على أعراض الناس وعدم التسرع في اتهام الناس استناداً لأوهام أو تخيلات أو توقعات.
وعندما تشترط الشريعة الإسلامية هذه الشروط المشددة في إثبات فاحشة الزنى، فإنها - كما يؤكد د. إمام - توفر الحماية للناس وتسد الباب في وجه كل من يحاول اتهام الأبرياء بهذه التهمة المنكرة.
جريمة القذف
وحماية القرآن الكريم للأعراض لا تقف عند مواجهة جريمة الزنى، فهناك السفهاء الذين يدنسون الأعراض باتهامات ظالمة وادعاءات كاذبة تنال من شرف الأطهار، وهنا كانت عقوبة القذف، فالقرآن وهو دستور عدل وحماية لكل الناس يرفض التهم الباطلة التي يحاول بعض المغرضين إلصاقها بالشرفاء، ولذلك لا بد من تقرير عقوبة شرعية لمن يقذف المحصنات، وقد ورد النص عليها في قول الحق سبحانه: «والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً وأولئك هم الفاسقون. إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم». ومعنى الآية الكريمة أن من يرمي النساء الطاهرات المؤمنات بفاحشة الزنى، ثم لم يأتِ بأربعة شهداء على صحة ما قذفهن به، فهذا القاذف يجب أن ينال عقابه الشرعي وهو ثمانون جلدة عقاباً له على ما تفوه به من سوء في حق المحصنات، ولا تقبل لهؤلاء القاذفين شهادة أبدا.
وحرصاً على توقيع عقوبة القذف على المستحقين لها فعلا، فقد وضعت الشريعة الإسلامية أيضا شروطا يجب أن تتوافر في القاذف، من أهمها أن يكون عاقلا مختارا وليس مكرها، فإذا كان المتهم بالقذف في حق غيره صبيا أو معتوها أو مكرها فلا يقام عليه الحد الشرعي، ولكن هذا لا يمنع من تأديبه وزجره ومعاقبته بعقوبات أخرى يراها القضاة وأولو الأمر مناسبة.
وهدف القرآن الكريم من توقيع هذه العقوبة هو حماية أعراض الناس وكرامتهم، والمحافظة على سمعتهم، وقطع ألسنة السوء.
لا غيبة ولا تجسس
ولا تقف حماية القرآن للمجتمع من قول السوء عند هذا الحد، بل كان النهي والتحذير الإلهي من سوء الظن والتجسس والغيبة والنميمة لما لهذه الخصال السيئة من أضرار فادحة للفرد والمجتمع الذي يعيش فيه.
يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة الحجرات: «يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم».
وفي هذه الآية الكريمة - كما توضح د. مهجة - ينهى الحق سبحانه عباده المؤمنين عن سوء الظن بالآخرين من دون مبرر، كما ينهاهم عن التجسس وعن الغيبة، حتى تبقى للمسلم حرمته وكرامته.. والمراد بالظن المنهي عنه هنا: الظن السيئ بأهل الخير والصلاح بدون دليل أو برهان، وهو الذي حذر منه الحديث الشريف: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث»، والمحرم هو سوء الظن بالمسلم المستور الحال، لأن من يجاهر بارتكاب الخبائث لا يحرم سوء الظن به لأن من عرض نفسه للتهم كان أهلاً لسوء الظن به.
وقوله سبحانه: «ولا تجسسوا»، أي خذوا ما ظهر من أحوال الناس ولا تبحثوا عن بواطنهم أو أسرارهم أو عوراتهم ومعايبهم، فإن من تتبع عورات الناس فضحه الله تعالى. روي عن أبي برزة الأسلمي قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تتبعوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عورات المسلمين فضحه الله تعالى في قعر بيته».
ثم نهى الحق سبحانه بعد ذلك عن الغيبة فقال: «ولا يغتب بعضكم بعضا»، والغيبة أن يذكر الإنسان غيره بما يسوؤه، سواء أكان هذا الذكر بصريح اللفظ أم بالكناية، أم بالإشارة أم بغير ذلك.. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم موضحا هذا الخلق السيئ: «أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته».
ثم ساق سبحانه تشبيهاً ينفر من الغيبة أكمل تنفير فقال: «أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه»، أي اجتنبوا أن تذكروا غيركم بسوء في غيبته، فإن مثل من يغتاب أخاه المسلم كمثل من يأكل لحمه وهو ميت، ولا شك أن كل عاقل يكره ذلك وينفر منه أشد النفور.
ثم ختم سبحانه الآية الكريمة بدعوة المؤمنين إلى التوبة والإنابة فقال: «واتقوا الله إن الله تواب رحيم»، أي: واتقوا الله أيها المؤمنون بأن تصونوا أنفسكم عن كل ما أمركم سبحانه باجتنابه، والله تعالى كثير القبول لتوبة عباده، الذين يتوبون من قريب، ويرجعون إلى طاعته رجوعاً مصحوباً بالندم على ما فرط منهم من ذنوب، ومقروناً بالعزم على عدم العودة إلى تلك الذنوب.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"