تغير المناخ . . البقاء للأغنى

04:15 صباحا
قراءة 6 دقائق
محمد مصطفى الخياط
نعم، "البقاء للأغنى" شعار يعبر عن مستقبل الأرض في ظل إرهاصات تغير المناخ والقراءة السريعة للتكاليف المترتبة عليه، نحو نصف تريليون دولار مطلوب إنفاقها سنوياً لصباغة اقتصادنا باللون الأخضر، ليصبح أقل نفثاً للكربون . تبعات تغير المناخ لا تتوزع بالتساوي بين الدول كافة، فالدول الفقيرة هي ذات الدول شديدة الحساسية لتغير المناخ مثل الدول الجُزرية، والساحلية تدفع تكاليف أعلى من غيرها .
أُنهكت صحة كوكب الأرض واعتلت تأثراً بانفلات استهلاكي قادته الدول المتقدمة . أغمضت الدول الصناعية عينيها عن الاعتبارات البيئية وأخذت تبني صروحاً كربونية . ارتفع استهلاك النفط والفحم والغاز إلى 85 مليون برميل مكافئ نفط يومياً . لا توحي غازات الدفيئة، ولا تآكل الأوزون، ولا ذوبان الجليد في المناطق القطبية أن الدول المتقدمة قرأت سطراً واحداً في كتاب الاستدامة . الآن . الآن فقط تطلب الدول المتقدمة التزام كوني بمعايير التنمية المستدامة . تريد مشاركة الضحايا في سداد فاتورة المواءمات البيئية . فقراء هم ضحايا تغير المناخ . مهددون باختفاء أوطانهم . تسع وثلاثون دولة جُزرية مهددة بالغرق حال ارتفاع منسوب المياه في المحيطات . ستغرق تونغا، وكريباتي، وترينداد وتوباغو، وتوفالو، والمالديف، وغيرها إذا تجاوز الاحترار الكوني درجتين مئويتين . فاتورة التكيف والتخفيف من آثار المناخ لا تتحملها ميزانيات هذه الدول . "البقاء للأغنى" يلخص الموقف . من يملك تكاليف المواءمة يمكنه استكمال حياته بهدوء، وإن كان نسبياً .
إشكالية تغير المناخ
لم تعرف الأرض نشاطاً محموماً كذلك الذي شهدته خلال الثورة الصناعية أواخر القرن التاسع عشر وما تلاها . استهلاكات غير مسبوقة للنفط والفحم والغاز . غابت البيئية عن حساب قفزات نمو عالية اقترنت بارتفاع نسب انبعاثات غازات الدفيئة، وعلى رأسها ثاني أكسيد الكربون . تحولت الأرض إلى "صوبة" زجاجية تختزن حرارتها بفعل طبقة أوزون يزيد سُمكها يوما بعد يوم .
وقد أوضح مؤشر الاقتصاد منخفض الكربون الذي يصدره مكتب "برايس ووتر هاوس كووبرس" البريطاني سنوياً أن متوسط التحسن السنوي في بناء اقتصاد منخفض الكربون لم تتخط 1% منذ عام 2000 . من ثم، فإن اتباع المنهج ذاته خلال السنوات القادمة سوف يؤدي إلى فجوة كربونية تصل إلى 12 مليار طن ثاني أكسيد الكربون عام ،2020 ترتفع إلى 30 ملياراً بحلول ،2030 قافزة إلى 70 ملياراً عند منتصف القرن الحالي، لنصبح أمام كارثة كونية تُذيب الجليد وتغرق السهول، وزيادة متوسط حرارة الأرض إلى ست درجات مئوية وليس درجتين .
وأدى انخفاض المساحات الزراعية وزيادة رقعة التصحر إلى صراعات قبلية في كينيا وبورندي وغيرهما . وانخفضت معدلات الأمطار فراحت القبائل تتقاتل على مناطق الرعي . وباتت الهجرات الجماعية إلى مناطق أقل خطراً طقساً يومياً . أكل الجفاف نحو 60% من أراضي سوريا . وخلف إعصار هايان أكثر من أربعة ملايين فلبيني من دون مأوى .
وتعبّر مؤتمرات الأطراف السنوية عن مستوى تعاون الدول وتوافقها حول برامج عمل مناخية، عقد آخرها بمدينة وارسو ديسمبر/كانون الأول الماضي، تلته اجتماعات عالية المستوى في أبوظبي حضرها الأمين العام للأمم المتحدة، ووزراء، ومتخصصون في شؤون البيئة تمهيداً لاجتماعات نيويورك في سبتمبر/أيلول المقبل، لتتوج بقمة باريسية في 2015 . ويأمل المعنيون بالخروج باتفاق جامع مانع يحدد مسؤوليات الدول المتقدمة ويخفف من أعباء الدول النامية .
ينبه تقرير "التنمية وتغير المناخ" الذي أصدره البنك الدولي عام ،2010 إلى تحمل الدول النامية من 75 إلى 80% من فاتورة الأضرار والخسائر الناجمة عن تغير المناخ . ويصل عدد الدول الأكثر فقراً إلى 48 دولة يقطنها 814 مليون نسمة مع دخل أقل من 900 دولار للفرد، تتعلق أقدارهم بما تسفر عنه القمم المناخية . تنتظر المنح والقروض . وتعاني عدم الاستقرار السياسي والأمني، وارتفاع مستويات الفساد عاماً بعد عام . فهل تُراها تستثمر في آليات التخفيف والتواؤم مع التغيرات المناخية؟
تعتمد الحلول والخيارات في المقام الأول على مستوى التعاون بين الدول . من دون التعاون لن تستطيع كافة الدول مواجهة تبعات تغير المناخ . نحن أمام طريقين متوازيين علينا أن نمشي فيهما يداً بيد . الأول طريق التخفيف من انبعاثات الكربون . والثاني اتخاذ إجراءات التواؤم من تغيرات المناخ، التي باتت تعرف بإجراءات التكيف .
يشمل طريق التخفيف بناء اقتصاد أخضر مستدام، يتسم بانبعاثات كربون أقل، وكفاءة طاقة أعلى، وترشيد أنماط الاستهلاك في المجالات كافة . وبحسب العمل على عدم تجاوز درجة الحرارة درجتين مئويتين بحلول منتصف هذا القرن، يجب علينا أن نخفض انبعاثاتنا الكونية بمقدار النصف . إلا أننا يجب أن ندرك أننا أمام مسؤوليات مشتركة لكنها متباينة بين الدول المتقدمة والنامية، مع حاجتنا لآليات قياس محددة وشفافة .
تُكنى الغابات ب"مصاصات الكربون" كونها قادرة على امتصاص عُشر انبعاثاته العالمية والتخفيف من آثاره . أيضاً، تمتد إجراءات التخفيف إلى زيادة الاعتماد على المصادر المتجددة ورفع كفاءة استهلاك الطاقة، سواء في إنتاج الكهرباء أو قطاع النقل . وتشير التقديرات إلى ارتفاع إجمالي السيارات عام 2050 إلى ثلاثة أضعاف الوضع الراهن، تتوزع بين 80% بالدول النامية، والبقية في الدول المتقدمة تترجم إلى زيادة الطلب على وقود النقل . إن عدم التحرك بجدية يضعنا أمام خيار كارثي .
على جانب إجراءات التَكَيُف، يسبب هاجس ارتفاع منسوب مياه البحر قلقاً بالغاً للدول المحتمل تضررها وللعاملين في المناخ، لذا تعد الإجراءات الاحترازية في المناطق المنخفضة كاليونان، والمناطق الساحلية في مصر وهولندا، والدول الجزرية ضرورة قصوى، سواء بحفر بحيرات صناعية تستوعب الزيادة في المناسيب أو تنظيم تدفق المياه واستخدامها في توليد الكهرباء ما أمكن ذلك، كما في منطقة جبال الأنديز بكولومبيا، تمتد إلى المحافظة على التنوع البيولوجي، كما في كريباتي المكونة من 33 جزيرة، واستخدام غازات الدفيئة في التنمية المستدامة للأراضي كما في موزمبيق .
وتظل التكلفة المادية هي الشق الأصعب دائماً . فالكثير من دول العالم النامي - خاصة الأكثر فقراً - لا تملك قوت يومها . وينام أولادها من دون طعام . وتؤجل مشروعات التنمية والحلول الخضراء أمام الضرورات اليومية وانخفاض مستوى الدخل، يحدث هذا في الوقت الذي يتخطى فيه دخل بعض الشركات العالمية مستوى الناتج المحلي لدول عدة .
فقد بلغت مبيعات شركة "إكسون موبيل" الأمريكية 392 مليار دولار في مايو/أيار الماضي، متفوقةً على
إجمالي الناتج القومي للاثنين وأربعين دولة الأقل دخلاً في العالم .
وتقدر الأمم المتحدة التكاليف السنوية لمجابهة تكاليف التخفيف من إجراءات تغير المناخ بنحو 200 مليار دولار سنوياً، يضاف إليها 250 مليار دولار أخرى نظير إجراءات التكيف . ويمكن للدول الغنية تدبير نصيبها ببعض إجراءات التقشف وتجنيب فوائض الدخل، أما الفقيرة فتقف عاجزة . صفر اليدين . حتى الاستثمارات الخاصة والمباشرة التي يمكنها مجابهة جزء من الطلب لا يمكنها تدبير الاستثمارات المطلوبة كافة .
تتيح آلية التنمية النظيفة للبلدان المتقدمة
الاستثمار في مشروعات منخفضة الكربون بالدول النامية، على أن تحتسب هذه الخفوضات من حصة الدول المتقدمة في موعد أقصاه نهاية عام 2018 . تتوزع فرص الاستثمار في مشروعات خفض انبعاثات الكربون على أربعة
أقسام يتصدرها قطاع الزراعة بنحو 61%، فالطاقة بنسبة 33%، ثم القطاع الصناعي والمخلفات بنسبة 3% لكل منهما .
لقد مرت البشرية بمراحل عديدة من التغيرات وأثبت الإنسان قدرته على التواؤم والتكيف مع متغيراتها ومعطياتها . فامتدت آثاره إلى نواح متفرقة ومتباينة، من حيث الطبيعة والمناخ وسبل العيش . عَمرَ الإنسان السهل والتل، تكيف مع البرودة والحرارة، وما زال لديه فائض من إمكانات تعزز بقاءه على ظهر هذا الكوكب . مرت حياته بمراحل عدة من التطور، إلا أنه لم يتمكن من استئناس الطبيعة والمناخ . كان أقصى ما يمكنه إزاء إعصار، أو جفاف، أو فيضان أن يترك الأرض الموبوءة ويرحل إلى أماكن أكثر أمناً . الآن الأرض كلها محل خطر . مهددة في نواحيها . الخطر لا يقتصر على مدينة دون أخرى . هناك دول يُنتَظر اختفاؤها، وأخرى ترتفع حرارتها، وثالثة تتصحر أراضيها . ولن يستطيع الإنسان ترك مواقع الخطر لأخرى أكثر أمناً، لأننا سنصبح بإزاء كوكب من الرُحَل والمهجرين . هل سيأتي علينا يوم تكتب فيه في بطاقات سفرنا "لاجئ مناخ"؟ الأمر ما زال بأيدينا، الرسالة العمل يد بيد . المسؤولية المشتركة وتباين الأعباء . بقدر المبادرة في العمل نؤمن مستقبلنا . فهل نفعل؟

[email protected]
www.energyandeconomy.com

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"