في قضايا ترجمة الشعر وإشكالياتها

تطرح أسئلة ثقافية وحضارية مهمة
05:28 صباحا
قراءة 6 دقائق

الشعر المترجم من اللغات الأخرى، خصوصاً من الانجليزية الى العربية، مازال موضوعاً متداولاً باعتباره من المهام التي تنطوي على صعوبة بالغة. محموع ما ترجم من هذا الشعر لا يعبر عن طموح القارئ العربي في معرفة مجمل الانتاج الشعري في العالم. وإذا كان القارئ العربي قد اطلع على بعض الترجمات الجيدة التي عرفته الى أدباء عظام مثل ملارميه، كازنتازاكي، ريتسوس، بودلير وآخرين، فإن هناك مساحة شعرية هائلة ماتزال مغلقة أمام القراء العرب، لا سيما في لغاتها الأم كالفرنسية والايطالية والروسية والصينية.

هناك سؤال، يطرح نفسه بشدة حول ترجمة شعرنا العربي الى اللغات الحية العالمية، حيث تشير الدراسات الى أن كثيراً من هذه الترجمات قد خضعت لمعايير مثل الانتقائية، فضلاً عما شابها من ضعف، كما انها لم تقدم الشيء الكثير عن ماهية واغراض واجواء الشعر العربي. الموضوع التالي يلقي ضوءاً على بعض جوانب هذه القضية التي تشكل هماً فعلياً يقف عائقاً يحول دون بلورة تفاعل حقيقي يمهد الطريق أمام حراك ثقافي شعري بين الناطقين باللغتين العربية والانجليزية.

يرى الكثير من الباحثين أن ترجمة الشعر على وجه الخصوص مهمة محفوفة بالمخاطر، وان المتمرسين في ترجمته قليلون، بسبب الصعوبات التي تنطوي عليها مغامرة ترجمة الشعر، من حيث نوع اللغة المترجم منها أو اليها، وما يحتمله فن الشعر من ابعاد تاريخية وثقافية، هذا عدا عن بنية النص وشكله ودلالته.

وتكمن مفارقة اللغة حين تتم مقارنتها مع أي لغة أخرى في كونهما تنتميان أو لا تنتميان الى عائلة واحدة، وهنا مكمن الصعوبة، حين تتم ترجمة نص من الانجليزية الى العربية أو بالعكس.

ويقرن الباحثون ذلك بامثلة عدة، على سبيل المثال، حين تمت ترجمة الشاعر رامبو من الفرنسية الى اللغتين الانجليزية والعربية، حيث رأى هؤلاء، ان الخسائر كانت قليلة مع نقله الى الانجليزية كون الفرنسية والانجليزية تنتميان الى العائلة نفسها، فيما كانت الخسائر ملحوظة مع ترجمته الى العربية.

الأمر نفسه، ينطبق على ترجمة رباعيات الخيام من الفارسية الى العربية، وهنا انتقلت الاجواء نفسها كما انتقلت الايقاعات، على عكس ما جرى مع الترجمة الانجليزية التي قام بها الأمريكي فيتزجيرالد، إذ ضاعت معاني الرباعيات، كما ذهبت روحيتها في دهاليز لغة مغايرة لم تقدمها بنفس الوهج والطاقة الكامنة في النص الأصلي الذي فقد كثيراً من عذريته وصوفيته.

اللغة والحضارة

هناك مسألة أخرى تتعلق بنوع الشعر، ما بين كونه شعراً بسيطاً يتحدث عن مشكلة عاطفية عابرة، وكونه يحمل مضامين رصينة، وهنا تتطلب ترجمته معرفة ببيئة هذه اللغة وتراكيبها وايقاعاتها.

وهناك المشكلة التاريخية التي تتطلب من المترجم دراية وافية بكيفية تشكل مفردات هذه اللغة، وكأن الأمر يتطلب معرفة انثروبولوجية تطال اصحاب هذه اللغة الاصليين، وما يتبع ذلك من معرفة سلوكياتهم وعاداتهم، بنفس القدر من معرفة مدنهم وبلداتهم وقادتهم وحكامهم.. الخ.

من جهة أخرى، هناك المشكلة الثقافية، فالثقافة عدة المترجم التي بدونها يفقد المترجم عدته اللغوية، والترجمة هنا تتطلب مهارة الغوص في الأرضية التاريخية والثقافية للشعر المترجم بلغته، من محاكاة لادق التفاصيل المتعلقة باللغة قالباً ومضموناً.

وإذا اضفنا الى ذلك، ان أي لغة انما تنطق عن حضارة شعبها، نكون أمام حضارة كالاوروبية مثلاً، أمام غنى من نوع آخر، لا سيما حين يقف المترجم أمام كلمات والفاظ ذات دلالة واحدة، أو دلالات واشارات عدة قد لا تكون معبرة بالضرورة عن مقابل واضح في اللغة المترجم اليها.

إن ثمة فروقاً جوهرية بين اللغتين العربية والانجليزية، وما لم تكن ثقافة المترجم قادرة على التقاط حساسية النص الذي بين يديه، فلن يكون بمقدوره ان يقدم نصاً ناجزاً عن لغة أخرى بعيدة كل البعد عن النص الأصلي.

يقول الباحث ممدوح السكاف في مقالة له بعنوان عن الشعر: قراءته - ترجمته - القاؤه: لقد قيل: الترجمة هي الخيانة للأصل، وفي رأي جمهرة كبيرة من الأدباء والنقاد ان هذا القول بعيد عن الصحة، يجانب الصواب في كثير من جوانبه، لأنه لولا الترجمة لما استطاعت الثقافة العربية ان تتفاعل مع سواها من الثقافات التي عرفت وانتشرت وسادت، فالترجمة ضرورية لكونها عملية تفاعل بين ثقافات وفنون أمم متعددة، ولكي تكون الترجمة وافية باغراضها، مستوفية عناصر نجاحها فإن على المترجم أن يكون محيطاً باللغتين المترجم عنها والمترجم اليها، وان يكون الشاعر المترجم للشعر قادراً على مؤالفة مناخ الشاعر المترجم له لكي يدرك اجواء مفرداته وصوره وتعبيراته، وما تندرج فيه من بنى لغوية جماية.

ويتحدث السكاف عن تأثير الترجمة في الشعر الحديث، الذي يصفه بأنه أمر بالغ الخطورة، فهناك عدد معروف من الشعراء المولعين بمد اليد على نتاج غيرهم يستمرئونه بمعنى رفع الكلفة وتنتفي عندئذ الحدود بين شعرهم وما يترجمون، لكن، من ناحية أخرى، فثمة تأثير ايجابي آخر يتوافر من ترجمة الشعر الكوني الى العربية، كأن يتطعم شعرنا الحديث بتقنيات جديدة، متسربة من الشعر الاجنبي الى لغتنا ما يتيح المجال أمام الشاعر العربي للوقوف على اجواء ومناخات لا عهد له بها، يجدد بوساطة تأثره بدخائلها مسيرته الشعرية ويغنيها ويفتح آفاقها وعوالمها على أمداء كانت مغلقة.

يرى توري في كتابه تاريخ الترجمة الأدبية الى العبرية أنه لا ينبغي ان يكون علم اللغة والمداخل اللغوية للترجمة عائقاً ضد حرية المترجم في أن يختار النص.

أسماء مؤثرة

الشاعر محمد علي شمس الدين يتحدث عن تأثر الشعراء العرب في العصر الحديث بأقرانهم الاجانب من خلال الترجمة فيقول تحت عنوان ترجمة الشعر في شعرنا الحديث.. ريلكه مثالاً، ثمة شعراء وسطاء بين الشعر العالمي والشعر العربي، كان دورهم مميزاً في تعريف القارئ العربي، من خلال الترجمة بأبرز رموز الشعر العالمي في مختلف اللغات الحية، وكان لهم دور في صنع الحداثة الشعرية العربية. لقد أصبح من المألوف في الأدبيات النقدية والمرجعية للشعر العربي الحديث والمعاصر ذكر شعراء عالميين امثال اليوت، ويتمان، بودلير، رامبو، لوركا، نيرودا، ماتشادو، نوفاليس ريلكه وسواهم عشرات بل مئات الشعراء البارزين في الانجليزية والفرنسية والاسبانية والروسية، وصولاً الى الشعر الصيني وشعر الهايكو الياباني.

ويتساءل شمس الدين عن إمكانية دراسة ورصد معالم الحداثة الشعرية العربية بخاصة، بمعزل عن دور الترجمات الشعرية المتنوعة التي نقلت للعربية الحديثة والمعاصرة أبرز تجارب الحداثة الشعرية في العالم.

ويستطرد بالقول يندر ان يذكر اسم شاعر عربي حديث من جيل المؤسسين بخاصة، من دون ان يذكر خلفه أو معه، اسم شاعر من شعراء الفرنسية أو الانجليزية أو الاسبانية، يجلس في خلفية المعنى المؤسس للشعر، أو النظرة للعالم، أو التقنية الأسلوبية. فمن المألوف نقدياً ومعرفياً، على سيبل المثال، ان تذكر اديث ستويل عند ذكر السياب، وسان جون بيرس عند ذكر ادونيس، وعزرا باوند مقترناً بيوسف الخال، وانتونان آرتو مقترناً بأنسي الحاج ويانيس ريتسوس مع سعدي يوسف، كما يفرد ت.س. اليوت جناحه على جملة شعراء عرب محدثين، ولغارسيا لوركا بصماته ايضاً، وهو أمر جدير بالبحث والانتباه، يؤكد تدخل ابرز الاتجاهات الشعرية العالمية الحديثة في صنع الحداثة الشعرية العربية، ما يستدعي دراسات نصية مقارنة في هذا الجانب، لم تأخذ ما تستحقه من اهتمام، سواء في الدراسات الاكاديمية المنهجية، أو في الدراسات النقدية والأسلوبية خارج إطار الابحاث الجامعية.

ويذكر شمس الدين ملاحظتين الأولى تتعلق بنظرة النقد العربي القديم والكلاسيكي لترجمة الشعر، والتي لخصها الجاحظ برأيه في صعوبة ترجمة الشعر من لغة لأخرى، إلا بما يوازيه أو يعادله، من أجل ذلك بقي الشعر العربي القديم والوسيط حتى مطالع القرون الحديثة ضد تأثير الاتجاهات الشعرية الأخرى، بأي لغة كتبت، ففي الوقت الذي ترجمت فيه الى العربية فلسفة اليونان، وحكايات الفرس، بقي الشعر اليوناني والمسرح اليوناني والشعر الفارسي على العموم في مكان بعيد عن التأثير في صيرورة الشعر العربي إلا من خلال بعض المعاني.

لكن هذه الحال مع الشعر العربي، لم تصمد، حتى جاءت مطالع الحداثة العربية حيث تم اجتياحها بقوة مع بداية القرن العشرين، ولا يزال هذا الاجتياح مستمراً حتى اليوم، وفي ذلك تفاعل ضروري للحياة وللشعر ايضاً أما الملاحظة الثانية، فتتعلق بالأثر المتبادل بين الشعر العربي والشعر الاجنبي بلغاته المتباينة، حيث يرى شمس الدين ان ثمة اختلافاً بيناً بين الاثنين، فصحيح ان الشعر العربي العذري للمجنون قيس بن الملوح ترك بصماته على اراغون الفرنسي في مجنون إلسا وان ثمة بصمات مؤكدة للشعر العربي في الأندلس وللحضارة العربية على الشعر الاسباني الحديث، وعلى شعر غارسيا لوركا بشكل خاص، إلا أن العولمة الشعرية لم تكن متوازنة بين الشعر العربي الحديث وكل من الشعر الفرنسي أو الانجليزي أو الروسي، فلقد اخذنا أكثر مما اعطينا بكثير، وقد تأثرنا أكثر مما أثرنا. وهذه مسألة، بدورها تحتاج لدراسات مقارنة متأنية لم يوفها الدارسون حقها حتى اليوم.

ذاكرة المجلات

الملاحظ أن خمسينات القرن الماضي شهدت حراكاً مكثفاً في ما يخص نقل عيون الشعر العالمي الى العربية. وقد كان لبروز دوريات أدبية متخصصة مثل مجلة شعر واعلامها البارزين مثل ادونيس، يوسف الخال وغيرهما، وكذلك مجلة مواقف الأدبية، والملحق الثقافي لجريدة النهار دور بارز في الترجمة.

تضمنت هذه المجلات ترجمات جميلة قام بها شعراء عرب، تعد أفضل مما كتبوه هم انفسهم، فمثلاً كانت ترجمة الشاعر ميشال سليمان لقصائد سيف اللهب ل بابلو نيرودا أكثر رونقاً وحرية من الكثير من شعره الأصيل، كما كانت ترجمات الشاعر العراقي سعدي يوسف لايماءات يانيس ريتسوس مائية ورائعة، أما الشاعر اللبناني فؤاد رفقة فقدم أفضل ترجمة لريلكه الالماني، بعد أن نقل الى العربية قصائد مراثي دونيو.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"