قلعة مصياف أصداء الحجارة المنسية

موقعها يتميز بطبيعته الجبلية في سوريا
05:46 صباحا
قراءة 6 دقائق

في زمن احتضار الدولة العربية الإسلامية، ويوم أعلن البابا أربان الثاني بداية الحروب الصليبية داعياً شعوب أوروبا للخروج من التلال المقفرة والأراضي الجرداء باتجاه الشرق الغني والخصيب والمزدهر، في ذلك الزمن كانت شعوب المنطقة تشيد دفاعاتها وتبني قلاعها التي أحاطت سفوح جبال الساحل السوري، ومنها قلعة مصياف، تلك القلعة التي تناغم فيها الصخر الطبيعي مع المقطوع والتي تربض على تلك التلة الصخرية الشامخة في منتصف مدينة مصياف، فإن دخلتها دخلت التاريخ من محرابه وطويت القرون إلى الحصار الأخير، وإن أنصتّ جيداً، ستردد الجدران صرخات الرجال المدافعين عن القلعة بعد أن تقوضت الأسوار، وستشعر بالأرواح المعذبة التي تزور مقاتلها، بعد أن مرّ الغزاة جميع الغزاة من هنا.

كذلك كان عندما زارت الخليج القلعة التي أعادتها عمليات الترميم إلى التاريخ، بعد هلاك الغزاة والطغاة وبعد حصارها الأخير.

شيدت القلعة فوق هضبة صخرة متطاولة من الشمال باتجاه الجنوب بطول 130م وبارتفاع أربع سويات من الخارج يبلغ ارتفاعها حوالي 35م وثلاث سويات من الحصن العلوي يبلغ ارتفاعها 10م.

ترتفع قمة القلعة حوالي 50 متراً عن السهل المحيط بها من جهة الشرق، ويرتفع محيط القلعة فوق الكتلة الصخرية حوالي عشرين متراً، بينما نشاهد بروز الصخر الطبيعي في وسط القلعة حتى قمتها. وقد قام البناءون بنحت الكثير من أطراف الهضبة الصخرية لتشييد الجدران الخارجية والأبراج.

تتكون القلعة من حصن داخلي (الحرز أو القلة) بني فوق الجزء الجنوبي المرتفع من قمة الهضبة الصخرية على شكل قريب من المربع، توزعت على زواياه أبراج مستطيلة تقريباً ذات مستويين دفاعيين وتتوسطه باحة سماوية ذات مستوى أرضي (كاسترون). أحيط الحصن العلوي بسور أول يضم سطح الهضبة الصخرية العليا كاملاً ويضم الحصن العلوي خمسة أبراج مستطيلة استنادية، وأحيط الحصن الداخلي بسور خارجي يحيط بأطراف الهضبة الصخرية، وزود أيضاً بعدد من الأبراج المستطيلة وعلى ارتفاع مستويين مزودة بمرامي سهام صغيرة. وشيد المدخل الرئيسي للقلعة في الزاوية الجنوبية الغربية للقلعة الخارجية، وهو ذو نظام معماري عربي إسلامي مكون من قاعتين كبيرتين بينهما ممر طويل (باشورة داخلية) وقد تميز هذا المدخل بالانعطاف بزاوية قائمة من القاعة الأولى الرئيسية إلى القاعة الثانية والتي بدورها تفضي إلى فراغ، يوزع المسارات إلى داخل القلعة عبر طريقين، الطريق الرئيسي يتجه شمالاً ليصل إلى ممر طوله 65م نقرت أجزاء من هذا الممر وبشكل جزئي في الصخر، كما زود من الجهة الغربية بسلسلة من مرامي السهام والأبراج، وفي نهاية الممر الطويل تتموضع قاعة كبيرة ثالثة تغلق الممر ومن خلالها يتم المرور إلى داخل القلعة.

أما الممر الثاني فيتجه جنوباً ليمر من خلال باب نقر في الصخر يسمح بالوصول إلى القسم العلوي من القلعة عبر درج أعد ضمن الكتلة الصخرية. وتمت تقوية السور الخارجي للقلعة ببناء عدد من الأبراج المستطيلة والمضلعة بنيت خلال عدة مراحل زمنية وتنوعت حجارتها بين أحجار ضخمة وصغيرة، كما تمت تقوية وتغطية أجزاء من أسوار الحصن القديم بجدران مضاعفة في كل من القلعة الداخلية والخارجية لتواكب تطور العمارة العسكرية خلال العصور التي مرت بها. وفي نهاية القرن الثاني عشر الميلادي (فترة سنان راشد الدين) شهدت القلعة إعادة بناء جديدة شملت عددا من الأبراج المضلعة المزودة بخمسة مرامي سهام كبيرة موزعة على مستويين دفاعيين، وخاصة في الجهة الغربية والشمالية من القلعة تعكس الأهمية العسكرية والدفاعية للقلعة، وتم إشغال وتغطية الفصيل بين سور القلعة الداخلية والقلعة الخارجية بعدد من القاعات المهمة، وفي مطلع القرن الثالث عشر تم بناء قصر في القسم العلوي من القلعة الداخلية يتميز ببوابته الجميلة والمزينة بنقش كتابي يعود إلى كمال الدنيا والدين الحسن بن مسعود سنة 1226م. كما تمت زيادة تحصين المدخل الرئيسي للقلعة عبر إضافة باب متقدم أصغر حجماً من الباب الأول، وأنشأت منطقة محصنة أمامه أشيد فيها حمام يعود تاريخه إلى منتصف القرن الثالث عشر الميلادي واستمر استخدامه حتى الغزو التتري سنة 1401م وبعد تحرير القلعة من سيطرة المغول التي دامت سنوات عدة قام المماليك في عهد الظاهر بيبرس بإعادة ترميم كبيرة في مدخل القلعة شملت بناء الشرفات الدفاعية المتسلسلة من الجهة الجنوبية والشرقية للقلعة. ومع نهاية القرن الثامن عشر الميلادي أصبحت القلعة مقراً لأسرة حاكمة من الإسماعيلية النزارية، حيث بني في الجهة الشرقية من القلعة الخارجية بيت الأمير مصطفى الملحم سنة 1793م وكثرت في القلعة المساكن العامة، وبقيت القلعة مشغولة بالسكن العام حتى وصول الانتداب الفرنسي، حيث شغلت القلعة حامية فرنسية لبعض الوقت وقد تم خلالها تجهيز الطريق الدائري الذي يحيط بالقلعة في الوقت الحالي، ثم خضعت القلعة إلى إعادة تأهيل وترميم شاملة قامت بها المديرية العامة للآثار والمتاحف بالتعاون مع مؤسسة الآغا خان للثقافة والتراث خلال الفترة من 2000 2005م.

الدكتور هيثم حسن معاون مدير الحفريات في المديرية العامة للآثار والمتاحف والذي زودنا بمعظم المعلومات عن القلعة قدم لنا المزيد من المعلومات عبر الحوار التالي:

ما هي أهم اللقى الأثرية التي وجدتموها أثناء التنقيب في القلعة؟

المشروع أثري ووطني تشرف عليه المديرية العامة للآثار والمتاحف فقد تم تكوين فريق وبدأ العمل في العام 2000م وترافق مع عمل مؤسسة الآغاخان للثقافة والتراث التي تعمل في مشروع الترميم وهذا العمل تكامل مع بعضه بعضاً حيث ترافق الترميم مع الحفريات الأثرية التي قمنا بها، وهناك مجموعتان من النتائج الأثرية المهمة التي خرجنا بها: المجموعة الأولى هي نتيجة أعمال الترميم وهي الآثار التي تم اكتشافها ودراستها وفرزها أثناء عمليات الترميم، والمجموعة الثانية هي التي اكتشفناها نحن من خلال الحفريات الأثرية.

أهم اللقى الأثرية هي مجموعة كبيرة من الفخاريات، أوان وصحون وجرار متعددة الأنواع منها قسم منتج محلياً وهذا شيء مهم جداً بالنسبة لنا حيث استطعنا لأول مرة أن نميز إنتاج هذه المنطقة الجبلية. والقسم الآخر من خارج المنطقة وخاصة من الرقة وحماة ودمشق يوضح العلاقات التي كانت قائمة بين المنطقة وبقية المناطق التي أتت منها اللقى الأثرية. وهناك مجموعة من الأواني المزججة وهي تدل على التقنية التي كانت متوفرة في هذه المنطقة، وقد تم العثور على الكثير من العينات من الزجاج تشير إلى عمليات التبادل التجاري مع المناطق الأخرى وأهمها كسرة صغيرة جداً بحجم سنتيمتر واحد تقريباً وعليها طبعة حرف باللغة الصينية وهذا يشير إلى مرور طريق الحرير من هنا ويشير إلى المنتجات التي كانت تأتي من الشرق ومن إيران في القرون الوسطى وخاصة في الفترة الأيوبية.

وهناك أهم مجموعة نقود من مرحلة ما قبل الإسلام ومن المرحلة الإسلامية والعصور اللاحقة وهي حوالي 360 قطعة نقد تمثل فترات مهمة جداً من تاريخ المنطقة، وأهم النقود المرتبطة بتاريخ القلعة بشكل رئيسي هي من القرون الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر، وتمثل مجموعة من الملوك والسلاطين الذين حكموا سوريا فهناك نقود تعود إلى أباطرة بيزنطيين من القرن الحادي عشر وقد استمر استخدام هذه النقود في فترة حكم الدولة الإسلامية من قبل الناس الموجودين في هذه المنطقة أيام السلطان نور الدين زنكي وأيام السلطان صلاح الدين بن يوسف أيوب والملك الظاهر غازي وقد تم العثور على مجموعة من النقود تمثل سلاطين المماليك وهناك فلس مغولي يعود إلى فترة هولاكو ونحن نعرف أن المغول احتلوا قلعة مصياف لسنوات عدة ، وهناك مجموعة نقود تابعة لعصر المماليك في القرون: الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر ثم هناك نقود تعود إلى المرحلة العثمانية وأيضاً هناك نقدان مهمان جداً يعودان للحملة الصليبية الأولى في نهاية القرن الحادي عشر ومطلع القرن الثاني عشر وأحدهما مضروب في جنوب فرنسا، كما أن هناك نقداً مهماً جداً يعود إلى القرن السادس عشر تم صكه في ألمانيا وهو يعود إلى إحدى الأسر الإقطاعية المهمة هناك، ويشير إلى ارتباط المنطقة من خلال الدولة العثمانية بأوروبا عن طريق التجارة.

ما أهم الأجزاء التي كشفت عنها أعمال الترميم؟

كشفت أعمال الترميم وأعمال البعثة الأثرية أهم الأجزاء الرئيسية التي كانت مطمورة في القلعة، قاعات سفلية في معظمها لها علاقة بالتخزين وبمشاغل الحياة اليومية، من فرن، وصناعة نسيج وغرف إقامة أو سكن ويعود عدم وضوح طابع عمراني ثابت في القلعة إلى استمرار السكن فيها حتى الانتداب الفرنسي، حيت جرى عليها الكثير من التغيير وقد سجلت القلعة في عام 1964م كأحد المواقع الأثرية في سوريا.

ما الذي تراه مميزاً في قلعة مصياف؟

برأيي هي إحدى القلاع الكثيرة المنتشرة في المنطقة ولكن أصابها الحظ في الدراسة أكثر من بقية القلاع وهذا شيء مهم لأنه يجعل من هذه القلعة مفتاحاً لدراسة بقية القلاع.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"