الوجود العسكري الأمريكي.. أزمة عراقية

04:17 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. أحمد سيد أحمد*

طفت على سطح المشهد السياسي العراقي قضية مستقبل الوجود العسكري الأمريكي، وخاصة منذ زيارة الرئيس ترامب المفاجئة لقاعدة «عين الأسد» في محافظة الأنبار غربي العراق في 25 ديسمبر الماضي، وتصريحاته ببقاء قواته في العراق للقيام بعمليات في دول الجوار، إضافة إلى الحديث حول عدم وجود تنسيق قبل الزيارة وهو ما اعتبره البعض انتهاكاً للسيادة العراقية.
أخذت تلك القضية في التصاعد، وأضحت محل تجاذبات داخلية ما بين مؤيد ومعارض لاستمرار القوات الأمريكية في العراق، وتجسد هذا الجدل في تقديم عدد من نواب البرلمان العراقي المحسوبين على بعض الكتل الشيعية، لمشروع قانون لإخراج القوات الأجنبية من العراق، أي إخراج القوات الأمريكية تحديداً، لكن رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، اعتبر أنه تم سحب تلك المسودة، وأكد أنه لا يوجد مشروع قانون، وأكد خلال زيارته الأخيرة لواشنطن، أن القوات الأمريكية موجودة في العراق بشكل مشروع وبطلب من الحكومة العراقية لمساعدتها على محاربة الإرهاب، وهو ذات التوجه الذي أكده الرئيس العراقي برهم صالح، وكذلك رئيس الوزراء الدكتور عادل عبد المهدي.
لكن الجدل حول مستقبل تلك القوات الأمريكية تصاعد مرة أخرى بعد تصريحات الرئيس الأمريكي ترامب، بأن قوات بلاده موجودة في العراق لمراقبة الأنشطة الإيرانية، وهو ما اعتبره البعض استخدام العراق كساحة للتجاذبات السياسية بين أمريكا وإيران وإدخاله في سياسة المحاور والتحالفات.
ولذلك فإننا إزاء اتجاهين في العراق، إزاء مصير القوات الأمريكية في العراق، الأول تمثله بعض الكتل والأحزاب السياسية ونوابها في البرلمان والتي ترى أن الوجود العسكري الأمريكي يمثل انتهاكاً للسيادة العراقية وللدستور ولابد من إنهائه، خاصة مع توسع أنشطة هذه القوات عن أهدافها الأساسية في تدريب قوات الأمن العراقية إلى مراقبة الأنشطة الإيرانية، وقد تصاعد هذا التوجه بعد تصنيف الولايات المتحدة في مارس/آذار الماضي، حركة النجباء كمنظمة إرهابية في رسالة تعكس اتجاه واشنطن نحو ممارسة الضغوط على التنظيمات الموالية لإيران، ثم تصاعد الموقف أكثر بعد قرار واشنطن الأخير باعتبار «الحرس الثوري الإيراني» منظمة إرهابية، ويرى هذا الاتجاه أن هناك عدداً من القواعد العسكرية الأمريكية المتعددة المنتشرة في أنحاء العراق من دون أساس قانوني، وأنها تخالف الاتفاقية الأمنية بين العراق والولايات المتحدة التي أبرمت في 2008 وتنص على انسحاب كل القوات الأمريكية من العراق.
في المقابل فإن التيار الآخر المؤيد لبقاء القوات الأمريكية في العراق ويؤيده الرئاسات الثلاث، أي رئاسة الدولة ورئاسة الوزراء ورئاسة البرلمان، فيعتبر أن الوجود العسكري الأمريكي في العراق يمثل ضمانة مهمة لمنع عودة تنظيم «داعش» الإرهابي بعد هزيمته وتحرير كل الأراضي والمدن والمناطق التي كان يسيطر عليها، ويبرز هؤلاء الدور الذي قامت به القوات الأمريكية في المعارك ضد التنظيم، خاصة في معركة تحرير مدينة الموصل، والذي أسهم في مساعدة القوات العراقية على خوض حرب الشوارع وتحرير المدينة، ويستند هذا التيار أيضاً إلى أن الظروف الأمنية التي يمر بها العراق بعد هزيمة تنظيم «داعش»، تتطلب استمرار تلك القوات في إطار العلاقات التي تربط بين العراق والولايات المتحدة، وفي ذات الوقت يرفض أصحاب هذا الاتجاه دخول العراق في سياسة المحاور والاستقطابات الإقليمية.
والواقع أن الوجود العسكري الأمريكي في العراق يثير العديد من الإشكاليات والنقاط المهمة:
*أولها: تقنين وضع تلك القوات، سواء فيما يتعلق بأعدادها ومناطق وجودها، فبعد قرار الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما بسحب القوات الأمريكية من العراق والتي كانت تتجاوز الأربعين ألف جندي، لم يتبق في العراق سوى بعض القوات المحدودة، ما يقارب 1200 جندي، التي تركزت مهمتها الأساسية على التدريب والدعم اللوجيستي للقوات الأمنية العراقية والمساعدة في إعادة بنائها مرة أخرى، وبعد سيطرة تنظيم «داعش» على مساحات كبيرة من العراق في عام 2014 وإعلان «دولة الخلافة الإسلامية»، قامت إدارة الرئيس ترامب بزيادة عدد القوات الأمريكية لما يقارب الخمسة آلاف، بناء على طلب من رئيس الوزراء العراقي السابق حيدر العبادي، لمساعدة القوات العراقية في محاربة تنظيم «داعش» وتقديم الدعم اللوجيستي والاستخباراتي لتلك القوات، خلال تحريرها للمدن العراقية التي كانت بقبضة التنظيم، ثم تنامى الوجود العسكري الأمريكي خلال رئاسة العبادي، سواء في عدد القوات أو في أماكن تمركزها وقواعدها؛ حيث وقّعت أمريكا اتفاقيات عسكرية مع حكومة إقليم كردستان على بناء خمس قواعد لها في الإقليم، وشملت قاعدة قرب سنجار وأخرى في منطقتي آتروش والحرير، وقاعدتين في حلبجة في محافظة السليمانية، وأخرى في منطقة آلتون كوبري في محافظة كركوك. وأنشأت الولايات المتحدة قاعدتين عسكريتين وفي محافظات الغرب العراقي، هما قاعدتا عين الأسد والحبانية لمواجهة تنظيم «داعش» في الغرب العراقي. إضافة إلى إنشاء أمريكا قواعد لقواتها في مطار القيارة العسكري جنوبي الموصل، وقاعدة أخرى عند سد الفرات، وقاعدة بلد الجوية في محافظة صلاح الدين. أي أن هناك ما يجاوز الثماني قواعد عسكرية توجد فيها القوات الأمريكية في العراق، وهنا يثار الجدل أيضاً حول طبيعة تلك القواعد، فالرافضون لاستمرار القوات الأمريكية يرون أنها قواعد عسكرية أمريكية صرفة وهو ما يخالف الدستور العراقي الذي ينظم إنشاء القواعد العسكرية الأجنبية في البلاد وتتطلب موافقة ثلثي البرلمان، وفي المقابل ترى الحكومة العراقية أن الوجود العسكري الأمريكي ليس في قواعد أمريكية بحتة، وإنما هذه القوات توجد في القواعد العسكرية العراقية، لمساعدتها وتدريبها، وأن استمرار تلك القوات مرهون بانتهاء خطر الإرهاب، وهذا بدوره أمر نسبي، لأنه بالرغم من هزيمة «داعش» كتنظيم ومؤسسة على الأرض، إلا أن خطره لم ينته تماماً في ظل العمليات الإرهابية والتفجيرات التي يقوم بها في العديد من المدن العراقية عبر خلاياه النائمة أو ما يسمى بالذئاب المنفردة ويتحين الفرصة للعودة مرة أخرى.
*ثانيتها: أهداف الوجود العسكري الأمريكي، فهناك جدل وإشكاليات أيضاً حول أهدافه، فهناك من يرى أن يقتصر فقط على التدريب العسكري واللوجيستي للقوات العراقية والمساعدة في محاربة الإرهاب، ويرفض التوسع في أنشطة وأهداف تلك القوات حتى لا تؤثر سلباً في العراق، ولذلك ينبغي تقنين وضع تلك القوات سواء فيما يتعلق بمدة بقائها أو فيما يتعلق بأهدافها وأنشطتها، وأن يكون في إطار الحفاظ على السيادة العراقية وألا يتحول العراق إلى ساحة للتنافس الإقليمي على حساب مصلحة الشعب العراقي، كما ينبغي أن يكون خروج القوات الأمريكية في إطار رؤية شاملة تشمل خروج كل القوات الأجنبية من العراق، وأن يتم توحيد السلاح فقط في أيدى الجيش العراقي والشرطة العراقية، وذلك لتحقيق الأمن والاستقرار الذي يساعد العراق على مواجهة التحديات المختلفة المتعلقة بعملية إعادة الإعمار والبناء وإعادة اللاجئين، في إطار الحفاظ على وحدة العراق وسيادته.

*خبير العلاقات الدولية في الأهرام

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"