علي الجندي والموت من شدة الحياة

مرايا الزمن
05:24 صباحا
قراءة 4 دقائق

مرة أخرى يضرب الموت ضربته ويخسر الشعراء العرب في موسم هجرتهم الجماعية إلى القلب الآخر من العالم أحد أكثر شعراء الستينات جمالاً وشفافية وذكاء واحتفاء بالحياة هو علي الجندي، وفي الوقت الذي رحنا نتهيأ فيه لتذكر محمود درويش، الذي لم ننسه في الأصل، بعد مرور عام كامل على رحيله يقرر علي الجندي أن يضع هو الآخر حداً للمزحة السمجة التي كان يسميها الحياة وأن يقلب الطاولة في وجه الموت الذي ما زال يتربص به الدوائر منذ عقدين من الزمن. لم يقبل صاحب النزف تحت الجلد أن يتراجع قيد بوصة واحدة تحت ضربات المرض الذي أنهك قلبه وأصاب جسده في الصميم. لم يقبل حتى مجرد هدنة متكافئة الشروط بين طرفين غير متساويين في الأصل.

وعلى المبدأ القائل إذا خفت من شيء فقع فيه راح يشن على الحياة هجوماً متواصل الجولات ويعب من جمالاتها ما وسعه من كؤوس ويحاول بالنكات اللماحة والضحك الساخر أن يخفي معالم الألم الذي راح يطحن روحه إثر كل هزيمة أصابت الأمة أو كل جلوس لطاغية على عرش من الجماجم والأوهام.

يصعب أن نتذكر علي الجندي من دون شطره الآخر الذي رحل قبله وتركه وحيداً إلى قدره القاسي ممدوح عدوان. فلفترة طويلة بدا هذان الشاعران ثنائياً محبباً وطريفاً ولاذعاً في قدرته على السخرية من نفسه كما من السياسة والصداقة والشعر والحياة، لذلك نادراً ما كان يرى أحدهما إلا برفقة الآخر وصحبته في الندوات والأسفار ومهرجانات الشعر. ولم تكد تمر مناسبة ثقافية عربية من دون أن تصدر عن أحدهما أو عن كليهما معاً طرفة يتندر بها الجميع على مدى سنوات عدة. ففي بلد عربي، لن أسميه، عقد مهرجان فاشل للشعر واكبه فشل مماثل في الضيافة والتنظيم، سأل أحد الصحافيين في طريق عودتنا إلى المطار الشاعر ممدوح عدوان عن مشاريعه للمرحلة المقبلة، فأجابه عدوان: كل ما أتمناه في هذه المحنة أن أرى زوجتي. فما كان من علي الجندي إلا أن سارع إلى القول تصوروا كم هو رديء وموحش هذا البلد الذي تصبح فيه رؤية المرء لزوجته واحدة من أعز الأمنيات!.

وفي مناسبة أخرى نصح ممدوح عدوان علي الجندي بأن يرفع مستوى كتابته الشعرية عن طريق قراءة الشعر المترجم، إذا لم يكن في متناوله القراءة باللغة الأجنبية الأصلية.

فغاب علي الجندي لأيام معدودة وعاد ليخبر ممدوح بأنه قرأ كتاباً رائعاً بالألمانية لشاعر يسمى يالفونغ فانغر لينفجر عدوان بالضحك قائلاً لصديقه: إن ما حسبته اسماً لشاعر ألماني ليس في الحقيقة إلا عنوان مجموعتي الشعرية يألفونك فانفر!.

بدا حس علي الجندي بالفكاهة والمرح ونزوعه الدائم إلى السخرية من النفس والعالم ذا مصدر جيني حملته العائلة بالوراثة وتوزعته بين أبنائها الكثر الذين أدركتهم جميعاً حرفتا السياسة والأدب كما كان حال أخيه سامي الجندي السياسي والمثقف والمترجم اللامع، أو حال عمه خالد وأشقائه الآخرين عبدالكريم وعاصم وإنعام.

ولعل هذا ما دفع أحد الشعراء العرب إلى تشبيههم بالاخوة كارامازوف في رواية دوستويفسكي الشهيرة. كما لا يمكن في هذا السياق إغفال الدور الذي لعبته مدينة السلمية الواقعة على أطراف البادية السورية في تأجيج جذوة الشعر ليس لدى علي الجندي وعائلته فحسب، بل لدى عشرات الشعراء والمبدعين منذ ديك الجن الحمصي الذي عاش فيها ردحاً من الزمن وحتى محمد الماغوط وفايز خضور وعشرات غيرهم. وقد تكون هناك قواسم مشتركة بين ديك الجن وعلي الجندي لا يشكل الشعر عمودها الفقري بل ذلك الشغف بالحياة والافتتان بالمرأة وافتراع الشهوات من مصادرها الأم.. وهذا الافتتان إياه هو الذي دفع الجندي إلى الاقتران بامرأة يافعة تصغره بخمسة وثلاثين عاماً. صحيح أنه لم يرتكب بحقها ما ارتكبه سلفه القديم ولكن الصحيح أيضاً أن كلاً منهما حوّل الحياة نفسها إلى قصيدة، وسفح خارج الورق أجمل صوره واقترافاته وأشكال جنونه.

لا يعني ذلك بأي حال أن علي الجندي لم يكن واحداً من الأصوات المميزة في حقبة الستينات، بل يعني أن ما هدره من حياته على موائد العبث والطرافة والتعبير الشفوية اللماحة كان يمكن أن يدفع به بعيداً في المجازفة اللغوية والتجريب الحداثي. ومع ذلك فإن المتأمل في تجربة الشاعر الراحل لا بد أن يتلمس في شعره ذلك البعد الوجودي الذي يشرع القصيدة على التأمل والمساءلة والاستبصار. وهو رغم انهماكه بقضايا الأمة والسياسة لم يكن ليحول الكتابة إلى شعارات سياسية وخطب عصماء كما فعل الكثيرون من مجايليه، بل آثر بدلاً من ذلك الحفر في تراب نفسه بحثاً عن لب المأساة، حيث يقول في إحدى قصائده: أنت لا تهرب من ماض ولا من مقبل أسود/ بل تهرب من أعماقك المشتعله/ حاملاً أنى حللت الخوف والموت معك.

والغريب في الأمر أننا لا نلمح في شعر علي الجندي ما يشي بسلوكه العابث أو مرحه الظاهري أو سخريته الجارحة، بل إن كل ذلك يتوارى خلف قصيدة رصينة ومثخنة بالآلام، كما لو أن القاع الحقيقي لضحكات الشاعر لم يكن مسكوناً إلا بأشباح الألم وبذور المأساة.

أما الموت فهو حاضر بقوة في قصائد الشاعر رغم سعيه منذ زمن إلى مخاتلة الموت أو تجاهله وتناسيه كما تفعل النعامة في المواقف الصعبة. وإذا كان موعد علي الجندي مع الموت قد تأخر أكثر مما يجب فلم يفت الشاعر أن يعلن قبل سنوات بما يشبه النبوءة:

.. وإني متعب من شدة الوجل

وهذي الأرض صارت جنة مسكونة بالموت..

يا حفارة القبر الجديد تمهلوا شيئاً،

فها هو مقبل يمشي على مهل

وإني شاعر أن البلاد تضيق،

تغدو في قياس القبر..

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"