إنهم يدمرون المحيطات

07:29 صباحا
قراءة 6 دقائق
د . محمد مصطفى الخياط
"لا ماء . . لا حياة" . من الماء خلق كل شيء حي . تشغل المياه نحو 70% من مساحة سطح الكرة الأرضية، لذا تحظى المحيطات بلقب "أكبر النظم البيئية على وجه الأرض" . منها ما تجري مياهه كالأطلسي والهادي، ومنها المتجمد في شمال وجنوب الكرة الأرضية . في منظومة المياه لا يتجاوز العذب منها 3% والباقي ملح أجاج . يقدر العلماء عدد الكائنات الحية التي تعيش في المحيطات بنحو ربع مليون كائن معروف ومسجل، أما غير المستكشف فربما تخطى المليونين . طبقاً لنظرية تزحزح القارات يرى العلماء أن الأرض كانت كتلة واحدة انفصلت أجزاء منها مكونة المحيطات . عبر فاسكو دي غاما الأطلسي إلى الهندي مروراً برأس الرجاء الصالح في طريقه للهند تجنباً للمرور بطريق الحرير الذي سيطر عليه العرب آنذاك . وعلى سطح الأطلسي سارت سفن كريستوفر كولومبوس إلى أرض بكر، أطلق عليها فيما بعد أمريكا نسبة إلى رسام الخرائط الإيطالي "أميريكو فسبوتشي"، أما كولومبوس نفسه فاقتصر إطلاق اسمه على مقاطعة عُرفت باسم "كولومبيا" .
في زمن الفتوحات الجغرافية لم تعرف المحيطات سوى كائناتها . قشريات، طحالب، أسماك، اسفنجيات وغيرها سكنت المحيطات منذ بدء الخليقة إلى أن مد الإنسان أنابيبه إليها متخلصاً من نفايات مصانعة وسماد أرضه لتلوث المواد الكيميائية البيئة البحرية النقية . تتعرض آبار النفط البحرية إلى حوادث تسرب تتكرر أثناء عمليات الاستخراج كتلك التي وقعت في خليج المكسيك بأمريكا، وفيرجانا فالي بروسيا، وأيضاً تسرب النفط أثناء حرب الخليج عام 1991 لتتحول البيئة البحرية إلى مقابر لكائناتها وطيورها بعد أن كانت موئلاً للخير والثروة . تضاف إلى ذلك التأثيرات السلبية للسفن والغواصات الحربية ذات الرؤوس النووية، وملايين الأطنان من نفايات بلاستيكية تلقيها السفن أثناء رحلاتها وكأنها تأشيرات السفر وإشارات المرور .
المحيطات . . صحتنا وثروتنا
تحتوى المحيطات على تنوع فريد من الكائنات والثروات الطبيعية المؤثرة في سلة غذاء الإنسان ومصادر ثروته وقوته، لتصبح ضمان ديمومة متطلباته من غذائه البحري . من المحيط نستخرج لحماً طرياً وحلية تتزين بها النساء كدلالة على المكانة المالية والمستوى الاجتماعي المتميز . كان الخليج العربي أحد الروافد الرئيسية لصيد اللؤلؤ إلا أنه تراجع في ظل استكشافات النفط والغاز . مع التجاوزات السلبية في حق الحياة البحرية أعلن العديد من المبادرات والاتفاقيات لحماية الكائنات البحرية قاطبة والتخفيف مما تتعرض له، فصدرت مبادرات حماية أسماك القرش، والحيتان، وأسماك الدولفين، والسلاحف البحرية، والشعب المرجانية وغيرها .
كل صباح تمنحنا المحيطات أكثر من نصف الأكسجين اللازم لتنفس بني البشر، وأكثر من سدس احتياجاتنا من البروتين الحيواني المتنوع القيم الغذائية بدءاً من الأسماك زهيدة الثمن إلى الكافيار الرابض في عزة على موائد الأثرياء، بمعنى آخر تدبر المحيطات الغذاء لنحو مليار شخص يومياً . وعلى مستوى قطاع الدواء العالمي توفر الشعب المرجانية أكثر من 50% من أدوية السرطان، والقلب، والزهايمر . ويقدر العلماء إمكانية استنباط أدوية أخرى من المحيطات تفوق ما تجود به الأرض .
علاوة على ذلك تمتص المحيطات ثلث ثاني أكسيد الكربون الناتج عن النشاط البشري المندفع كربونياً دونما اعتبار للبيئة، وبما يوحي بأن الدول الصناعية لم تقرأ سطراً واحداً في كتاب الاستدامة ليصبح الاهتمام بصحة المحيطات إجراء يساعد مباشرة على التخفيف من تأثيرات تغير المناخ وانبعاث الغازات الدفيئة نتيجة كونها أداة طبيعية لتنظيم درجة حرارة كوكب الأرض فضلاً عن أنها المصدر الرئيسي لتكون السحب المحملة بالمطر الكفيلة قطراته بِرَيْ عطش الإنسان والنبات والحيوان .
تساهم المحيطات بقرابة 21 مليار دولار من حجم التجارة العالمية سنوياً في شكل منتجات وخدمات . في أمريكا يعمل نحو مليوني شخص في وظائف ذات صلة بالمحيطات (الصيد، تصنيع السفن والقوارب، السياحة، تصنيع المنتجات البحرية، السياحة، وغيرها)، تترجم إلى 128 مليار دولار من إجمالي الناتج القومي سنوياً، لتتخطى فرص العمل في مجالات اقتصاد المحيطات الأمريكي نظيرها الزراعي . وعلى المستوى العالمي، يصل حجم تجارة قطاع الصيد بالمحيطات إلى 500 مليار دولار سنوياً . لذا خرجت العديد من الدعوات العالمية والإقليمية بأهمية إعادة النظر في إجراءات مكافحة تغير المناخ ليس فقط للاعتبارات البيئية بل لارتباطها بالتجارة العالمية والنمو الاقتصادي للدول، وبالتالي إجراءات مكافحة الفقر .
وتمتد أهمية المحيطات إلى الطحالب والأعشاب البحرية المستخرجة منها والتي تدخل بشكل مباشر في صناعة العديد من المنتجات الغذائية وأدوات التجميل . فعلى الرغم من عدم تجاوز نسبة الشعب المرجانية 1% من إجمالي مساحة المحيطات، إلا أنها تعد الموئل الأنسب لربع الكائنات الحية المستوطنة بالمحيطات .
لا تتوقف أهمية المحيطات على كونها أكبر مؤثر في توازن البيئة فحسب، بل وفي أمننا البيئي واقتصادنا العالمي امتداداً إلى جوانب الترفيه كالغوص والسباحة ومسابقات الصيد . من هنا جاء إعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2008 بجعل يوم 8 يونيو من كل عام يوماً لحماية المحيطات، يسلط فيه الضوء على المخاطر التي تتعرض لها البيئات البحرية عامة والمحيطات خاصة وما تحتويها من كائنات بحرية .
المحيطات وتغير المناخ
يعد النشاط الإنساني على سطح الأرض المصدر الرئيسي لتلوث البيئة البحرية . تتسبب مخلفات الصرف الصحي، والصناعي، ووقود السيارات والقوارب والسفن، وأيضا الكيماويات الزراعية وغيرها بنسبة تصل إلى 80% من إجمالي ملوثات المحيطات . إن أي إجراء بشري غير متوافق بيئياً كفيل بإحداث أضرار بالغة في بيئة المحيطات لينعكس ذلك مباشرة على صحتنا كأفراد وعلى دخلنا كدول .
أما على مستوى المحيطات المتجمدة في شمال وجنوب الكرة الأرضية فتأتي المخاوف من ذوبان الجليد مهدداً بحدوث فيضانات ودمار للبشرية . في هذا الإطار، أسفرت الجهود الإيجابية المعنية بصحة المناخ عن توقيع الاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة المعنية بتغير المناخ أثناء انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية "قمة الأرض" في ريو دي جانيرو بالبرازيل في يونيو ،1992 لتدخل حيز النفاذ في مارس/ آذار ،1994 تضمنت العمل على تثبيت تركيزات غازات الدفيئة عند مستويات آمنة لا تترتب عليها زيادة درجة حرارة كوكب الأرض لأكثر من درجتين مئويتين بحلول عام ،2050 وعدم تجاوز تركيز ثاني أكسيد الكربون 350 جزءاً في المليون . اعترضت الدول الجزرية (مثل ترينداد وتوباجو، وساموا، وغيرها) على ذلك مطالبة ألا يتجاوز الارتفاع في درجات الحرارة درجة ونصف الدرجة مخافة ذوبان الجليد والتهديد بطمس دول وحدوث فيضانات مدمرة . ولعلنا جميعاً نتذكر الفيلم الوثائقى "حقيقة غير مريحة" An Inconvenient Truth الحائز أوسكار 2006 والذي قدم له نائب الرئيس الأمريكي السابق "آل جور" لتظهر فيه آثار تغير المناخ مصحوبة ببدء ذوبان كتل جليدية ضخمة، ليحبس العالم أنفاسه ناظراً باتهام إلى الدول المتقدمة التي تسبب استخدامها المسرف وغير المقنن لموارد الطاقة في احترار كوكب الأرض .
المحيطات . . مبادرات وجهود
في صبيحة اليوم العالمي لحماية المحيطات، وتحديداً في التاسع من يونيو الجاري نشر موقع "هافينغتون بوست" مقالاً كتبه جون كيري - وزير خارجية أمريكا- تحت عنوان "دعوة للعمل من أجل حماية محيطاتنا" A Call to Action to Protect Our Oceansس تضمن الدعوة لعقد أول مؤتمر لحماية المحيطات منتصف يونيو الجاري . حدد المقال الآثار السلبية لتدهور المحيطات وارتباطها باقتصاد أمريكا والعالم وأن أسباب التدهور باتت معلومة من نشاط بشري مسرف غير رشيد، وبالتالي صارت الحلول ممكنة ما ارتبطت بالنوايا المخلصة .
يأتي مقال كيري كأحدث الدعوات للنظر في مستقبل المحيطات، حيث سبق ذلك جهود لمنظمة الأمم المتحدة باعتماد قانون البحار أوائل الثمانينات، واتفاقية الأرصدة السمكية منتصف التسعينات . يضاف إلى ذلك الاتفاقية الدولية لمنع تلوث البحار بالنفط، والاتفاقية الدولية لمنع التلوث الناجم عن السفن اللتين وضعتهما المنظمة البحرية الدولية منتصف الخمسينات وأوائل السبعينات، على التوالي . كما تعمل المكاتب والبرامج البيئية على المستويين الوطني والعالمي مثل برنامج الأمم المتحدة للبيئة، ويونسكو، وغيرهما على لفت الانتباه إلى ضرورة الاهتمام بالمحيطات والتقليل من الآثار السلبية التي تتعرض لها جراء النشاط الإنساني غير الرشيد .
إن الرسالة التي وجهها السيد بان كي مون هذا العام بمناسبة اليوم العالمي للمحيطات والتي جاءت تحت عنوان "محيطاتنا مسؤوليتنا" تدعو إلى تضافر الجهود، فردية وجماعية . فضمان سلامة البحار والمحيطات وما فيهما من كائنات بحرية إنما هي مسؤوليتنا جميعاً . رضينا أم أبينا . فرفاهية بني البشر والعمل على استدامة الموارد أمر لا بديل له، فهل نفعل؟

mohamed.elkhayat@yahoo com
www.energyandeconomy.com

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"