أدب صناعة الأحلام

03:45 صباحا
قراءة 7 دقائق
** القاهرة: الخليج

مر أكثر من نصف قرن على هبوط أول إنسان على سطح القمر، وبذلك يكون الحلم الذي راود كتاباً عديدين قد تحقق، فالكثيرون حلموا بالوصول إلى سطح القمر، إلى أن تطورت هذه الكتابة النوعية بظهور الكاتب الإنجليزي «هربرت جورج ويلز» وروايته «أوائل الرجال على القمر»، ثم كتب الكاتب الفرنسي «جول فيرن» خلال القرن التاسع عشر روايته «من الأرض إلى القمر» مستفيداً من النهضة الصناعية في أوروبا فيها، وكانت هذه الرواية قد حازت رواجاً كبيراً منذ نشرها عام 1865، وفي العام نفسه ظهرت روايتان أخريان في فرنسا هما «أحد سكان المريخ» لهنري دوبارفيل و«رحلة إلى الزهرة» لأشيل إيرو.
بتطور العلوم في القرن العشرين ازدهر نوع أدبي أطلق عليه «أدب الخيال العلمي» ينطلق مما توصل إليه العلم من اكتشافات واختراعات، وكان طبيعياً أن تتجه الأنظار إلى هؤلاء الكتاب لمعرفة ما سوف يكون عليه العالم في المستقبل، وأصبح أدب الخيال العلمي يطلق عليه أدب صناعة الأحلام، حيث تحقق كثير من الأحلام التي تنبأ بها هذا الأدب في بداياته الأولى وأصبحت حقيقة واقعة.

الوطن المريخ

كيف يتصور كتّاب الخيال العلمي مستقبل البشرية في الفضاء بعد نصف قرن، أي عام 2069؟ هذا السؤال طرحته إحدى الصحف على 15 كاتباً من كتّاب الخيال العلمي، ضمن ملف بعنوان «الفضاء بعد خمسين عاماً» وجاءت الأجوبة وفق أربعة محاور: غزو القمر والمريخ، الاستغلال الصناعي للموارد الفضائية، الاستكشاف العلمي، الفضاء من دون البشر.
فيما يخص غزو القمر والمريخ، تحدثت إحدى الكاتبات عن أول محطة فضائية، يعيش فيها بضعة آلاف من البشر، دفعوا أموالاً طائلة للإقامة على سطح القمر، خلافاً ل99% من سكان الأرض، وظلوا ينظرون بغير اكتراث إلى كوكبهم السابق، بعدما صار رمادياً بسبب التلوث والاحتباس الحراري والتصحر، لأنهم لن يعودوا إليه، وأطفالهم الذين تكيفوا مع انعدام الجاذبية كانوا مختلفين عن بقية البشر.
تخيل كاتب آخر أن بلوغ الكواكب ممكن باستعمال روبوتات مزودة بذكاء اصطناعي، وفي رأيه أن السياحة الفضائية سوف تتطور، وربما نشهد سباق مركبات فضائية حول الأرض، في حين أشار آخر إلى أن القمر سوف يصبح قاعدة لإطلاق رحلات نحو المريخ، تلك الرحلات التي طالما راودت الكتّاب والعلماء، ثم توقف التفكير فيها بعد خطوة أرمسترونج على سطح القمر.
وأضاف هذا الكاتب: «أمنيتي أن يكون المريخ موطن لقاء بين البشر والكائنات الأخرى، لأنني على يقين من وجود ذكاء خارج الأرض، وإذا كنا عاجزين عن الاتصال بتلك الكائنات، فربما هي التي سوف تتولى ذلك، ولعلها تنصحنا بالتوقف عن التصرف كأغبياء، وتنبيهنا بالمآل الذي ينتظر كوكبنا، إذا لم نتوقف عن تدميره».

فرنسا تعيد الاعتبار لجول فيرن

تحكي السيرة الذاتية لجول فيرن واقعة محاولته وهو طفل لم يتجاوز العاشرة من عمره التسلل إلى سفينة متجهة إلى جزيرة بالهند، ليحضر عقداً من المرجان لإحدى قريباته، كان مغرماً بها، إلا أن والده لحق به في آخر لحظة قبل مغادرة السفينة الميناء، وأعاده إلى المنزل مرة أخرى.
هذه الواقعة - كما يروي شوقي بدر يوسف في كتابه «وجوه عظيمة» - تدل على الخيال الخصب الذي كان يتمتع به هذا الطفل الذي أصبح بعد ذلك من أبرع الكتاب في مجال يعتمد على التخيل والعلم والواقع في آن، حتى إنه بدأ الكتابة الإبداعية أثناء المرحلة الجامعية، وجاءت رواياته تحمل في طياتها خصوصية التنبؤ بما سيلحق بمنجزات العصر من تقدم، فقد سبق جول فيرن عصره بكتاباته في أدب الخيال العلمي، واستطاع أن يصنع الأسس التي بنت عليها أجيال جاءت بعده، ومنهم «ه. ج. ويلز»، ثم ظهر جيل آخر من كتاب أدب الخيال العلمي، الذي غزا العالم وأقبل عليه القراء، وكان الفضل الأول في ذلك لروايات جول فيرن، كانت أحلامه تمثل واقعاً نلمسه الآن قبل أن يفكر الإنسان في غزو الفضاء والصعود إلى القمر من خلال أعماله «من الأرض إلى القمر» و«خمسة أسابيع في منطاد» و«حول القمر».
انتقلت أحلام فيرن إلى حيز التنفيذ على يد كثير من المخترعين، فسافر الإنسان إلى الفضاء الخارجي، ونزل على سطح القمر، كما اكتشف العلماء أيضاً بعض الكواكب والمجرات، فقد استهوى السفر إلى القمر العديد من الكتاب، وعلى رأسهم جول فيرن الذي استوحى روايته «من الأرض إلى القمر» من قصة لإدجار آلان بو، كما ظهرت رواية «رحلة إلى القمر» لإسكندر ديماس الأب، وظهرت رواية أخرى تحت عنوان «ساكن كوكب المريخ»، إضافة إلى أعمال أخرى تدور حول السفر إلى القمر والكواكب.
العمل الوحيد الذي عاش من هذه الأعمال - كما يرى شوقي بدر يوسف - والذي ظل يقرأ حتى الآن هو رواية جول فيرن «من الأرض إلى القمر»، فصناعة الحلم في هذه الرواية كانت مبنية على فروض علمية استمدها فيرن من الحرب الأهلية الأمريكية، حيث تبدأ الرواية بأحاديث تدور بين أعضاء نادٍ في الولايات المتحدة بعد الحرب الأهلية، يضم مجموعة من متقاعدي ضباط الجيش، ومعظمهم من مشعلي الحرب، الذين ضاقوا بالسلام ذرعاً، واشتاقوا إلى الحرب والقتال، واقترح رئيسهم أن يحاولوا عمل شيء جديد كأن يصوبوا صاروخاً نحو القمر، وتحمسوا للفكرة، وبدأوا في تنفيذها، وكان هذا الحلم هو المتكأ الذي اعتمد عليه فيرن في روايته حول السفر إلى القمر.
استعان فيرن بأحد أقاربه، وهو عالم رياضيات، لضبط الحسابات اللازمة لإطلاق الصاروخ، حتى يصل إلى خارج منطقة جاذبية الأرض، وسافر ثلاثة أشخاص داخل القذيفة، لتنتهي الرواية بانطلاق رواد الفضاء الثلاثة إلى القمر، ومراقبتهم بتلسكوب عملاق حتى اختفوا عن الأنظار.
في مدينة بشمال فرنسا ولد «جول فيرن» عام 1828، وكان أبوه ضمن سكان النخبة في هذه المدينة، ولأنه كان دائم السفر، طلب منه أبوه أن يتوقف عن السفر نهائياً، وأن ينهي دراسته أولاً، وهذا ما كان، حيث تخرج في كلية الحقوق، لكنه رفض العمل في مهنة المحاماة، وأخذ يقرأ عن الاختراعات الحديثة، وانخرط في الجمعية الجغرافية بباريس، وسرعان ما انصرف إلى الكتابة، وكانت أغلب موضوعاته حول المخترعات العلمية التي ظهرت خلال القرن التاسع عشر، إضافة إلى المخترعات الخيالية التي تنبأ بها.
بعد رحلة له على متن باخرة بريطانية، من ليفربول إلى نيويورك، انتهى إلى كتابة روايات الخيال العلمي فكتب «خمسة أسابيع في منطاد» سنة 1863، وتصف رحلة في بالون تقطع القارة الإفريقية من الشرق إلى الغرب من زنجبار حتى تنتهي إلى سواحل المحيط الأطلسي، وتنبأ كذلك بظهور الغواصات والنفاثات والصواريخ وكبسولة الفضاء والصعود إلى القمر، وبما سيحدث في المستقبل.
في آخر لقاء معه قال فيرن: «أكبر حسرة في حياتي أنني لم أحتل مكانتي التي أستحقها في الأدب الفرنسي»، فقد كان مشهوراً في فرنسا، لكنه لم يكن يصنف ضمن أدبائها اللامعين، ورفضت الأكاديمية الفرنسية ترشيحه لها، وقالوا: إن هذا انتقاص للأكاديمية أن تنزل إلى مستوى أدب الأطفال، لكن في سنة 2005 احتفلت فرنسا والعالم بمئوية جول فيرن، وأقيم في مسقط رأسه مهرجان أنفقت عليه فرنسا ببذخ، وصنعت كبسولة الفضاء العملاقة التي تخيل انطلاقها إلى القمر، وفي أواخر حياته أصيب بالمياه الزرقاء في عينيه، فجعلت بصره بالكاد يرى أشعة الشمس، وتوفي عن عمر يناهز سبعة وسبعين عاماً بمرض السكري سنة 1905.
استطاع جول فيرن أن ينهي أكثر من 75 كتاباً في الخيال العلمي، وجدت صدى كبيراً لدى القراء، كما ترجمت هذه الكتب إلى مختلف لغات العالم، وفاقت في توزيعها توقعات جول فيرن نفسه، بل وناشره أيضاً، كما نقل العديد منها إلى شاشات السينما، وقد اهتم فيرن بوصف المخترعات، وذكر الأرقام الحسابية والتفاصيل الدقيقة المرتبطة بها، وبذلك امتزج العلم بالخيال، وظهرت أحلام وإرهاصات أولية تنذر بتقدم البشرية، ووصولها إلى أعلى المراتب في التكنولوجيا.

نبوءات جورج ويلز

يعتبر الكاتب الإنجليزي «هربرت جورج ويلز» الأب الروحي لأدب الخيال العلمي، فقد كان غزير الإنتاج في العديد من أجناس الأدب: الرواية، والقصة القصيرة، والأعمال التاريخية، والسياسية، والاجتماعية؛ لكن صيته ذاع أكثر من خلال روايات الخيال العلمي التي كتبها، وأهمها «آلة الزمن» التي نشرها عام 1895، وأحدثت ضجة كبرى وقتها في الأوساط الثقافية، ولاقت نجاحاً جماهيرياً كبيراً، ثم نشر روايته الثانية «جزيرة الدكتور مورو» عن عالم مجنون يحول الحيوانات إلى كائنات بشرية، ثم نشر «الرجل الخفي» عن عالم ينجح في إخفاء نفسه، وكانت روايته «أول رجال على سطح القمر» أسلوباً من أساليب ريادة الفضاء.
تتابعت أعماله، ومنها «حرب العوالم» التي حملت بعضاً من فلسفته وأفكاره، وأظهرت توقعاته للعالم في المستقبل، وقد توفي عام 1946عن عمرٍ يناهز السادسة والسبعين، وقد كتب ويلز «حرب العوالم» كرد فعل على أحداث تاريخية، أهمها صعود ألمانيا قوة أوروبية ذات نفوذ واسع، وهو ما أدى إلى ظهور روايات كثيرة توقعت اندلاع حرب عالمية في أوروبا. أما الحدث الأهم الذي دعا ويلز إلى كتابة هذه الرواية، فهو تأكيد العلماء عام 1894 أن كوكب المريخ قريب جداً من الأرض، وهو الأمر الذي أثار موجة من الدراسات أكدت احتمال وجود حياة على المريخ.
تروي «حرب العوالم» على لسان راوٍ مجهول الاسم، يحكي عن مغامراته في لندن إبان غزو المريخيين كوكب الأرض، وهي من أُولى روايات الخيال العلمي، التي تحكي عن النزاع بين الجنس البشري وأحد الأجناس التي تحيا في الفضاء الخارجي، تتألف الرواية من جزأين، حيث يخوض الراوي - وهو كاتب متخصص في الكتابات الفلسفية - تجربة مريرة أثناء محاولة العودة إلى زوجته، في الوقت الذي يشاهد فيه المريخيين، وهم يلحقون الدمار بلندن، ويبيدون كل من يعترض طريقهم، وحققت الرواية شعبية كبيرة، حيث نفدت فور صدورها، وأخذت عنها بضعة أفلام ومسرحيات إذاعية.


قدرة على التنبؤ

ولد جورج ويلز في مقاطعة كنت بإنجلترا عام 1866 لأب تاجر أفلس، فاضطر ابنه لترك المدرسة، والعمل لدى بائع قماش، لكنه حصل على منحة تعليمية في مدرسة العلوم بلندن، فدرس علم الأحياء، وشارك في حلقات بحثية، وأصدر مجلة طلابية علمية، كان يحررها بنفسه.
انضم ويلز إلى جماعة الفابيين التي تشكلت من مجموعة من المفكرين الرافضين للماركسية، لكنهم مؤمنون بالاشتراكية، فاختلف مع الكاتب المسرحي «برنارد شو» الذي كان يرأسها، وكان ويلز يريد توسيع الجماعة لتشمل العامة، فرفض طلبه، فكتب ينتقد الجماعة في كتابه «ميكيافيللي الجديد»، وكان متحفظاً على ما فعلته الثورة البلشفية ضد القيصرية والمعارضين للثورة، فانقلب على الشيوعية وكتب «الإرهاب المقدس».
يقول النقاد: إن جزءاً من شهرة ويلز يعود إلى قدرته على التنبؤ بما آل إليه عصرنا الحالي، من حروب ودمار وأسلحة، فهو أول من جسد في أعماله الأدبية حروب الدبابات والمدرعات والبشر الآليين وأسلحة ضوئية شبيهة بأسلحة الليزر والقنابل النووية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"