السودان.. انفرجت!

02:53 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. أيمن شبانة *

في الخامس من يوليو 2019، نجحت الوساطة الإفريقية- الإثيوبية في إقناع المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير في السودان بالتفاوض المباشر، والتوقيع على اتفاق بشأن تشكيل ورئاسة المجلس السيادي، الذي سيقود المرحلة الانتقالية بالبلاد.وقد تم التوصل بالفعل إلى الصيغة النهائية للإتفاق الذي تم إعلانه إمس (الإربعاء)
لكن القلق ما زال يساور المراقبين بشأن إمكانية إدارة المرحلة الانتقالية بشكل هادئ ومستقر، في ظل أزمة الثقة بين طرفي الاتفاق، وظهور الانشقاقات داخل قوى الحرية والتغيير، وعدم حسم ملفات أساسية عديدة.
نص الاتفاق على إنشاء مجلس سيادي يضم 11 عضواً، بينهم خمسة من المدنيين، ومثلهم من العسكريين، مع اختيار شخصية مدنية لعضوية المجلس، بالتشاور بين المجلس الانتقالي وقوى الحرية والتغيير، وأن تكون رئاسة المجلس دورية، فيتولاها العسكريون خلال النصف الأول للمرحلة الانتقالية، فيما تؤول للمدنيين في نصفها الثاني. كما تضمن الاتفاق تشكيل قوى الحرية والتغيير لحكومة «كفاءات وطنية»، تعتمد من المجلس العسكري، وإرجاء تشكيل المجلس التشريعي إلى ما بعد الانتهاء من تكوين الحكومة، وأن تمنح الأولوية خلال المرحلة القادمة لإحلال السلام بالبلاد، ومحاكمة المسؤولين عن اغتيال المتظاهرين.
كان الطرفان قد استبقا المفاوضات بسقف مرتفع للغاية، فأكدت قوى الحرية والتغيير رفضها التفاوض المباشر مع المجلس الانتقالي، إلا في حال قبوله بتسليم السلطة لحكومة مدنية، واعترافه بالمسؤولية عن فض اعتصام القيادة العامة، وتشكيل محكمة دولية للتحقيق في الواقعة، وإطلاق سراح المعتقلين من المعارضة وأسرى الحرب، والسماح بحرية الإعلام وعودة خدمة الإنترنت. كما نظمت إضراباً عاماً ثم عصياناً مدنياً بالبلاد. في المقابل هدد المجلس الانتقالي بتكوين حكومة تكنوقراط، تتجاوز قوى الحرية والتغيير، والدعوة إلى انتخابات مبكرة في غضون تسعة أشهر.
توالت الضغوط على الطرفين للعودة إلى مائدة التفاوض، وذلك بمشاركة الاتحاد الإفريقي، الذي علق عضوية السودان بعد فض الاعتصام. كما تواصلت الجامعة العربية والترويكا الدولية المعنية بالسودان مع أطراف الأزمة، حيث زار المبعوث الأمريكي دونالد بوث الخرطوم. فيما هددت ماكيلا جيمس نائبه مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون السودان وشرق إفريقيا بفرض عقوبات على السودان، مؤكدة أن كل الخيارات أضحت مفتوحة في حال استمرار العنف، مع التشديد على رفض الإدارة الأمريكية تشكيل حكومة من طرف واحد.
أدرك المجلس الانتقالي أنه لن يكون بمقدوره الانفراد بالسلطة، خاصة بعد خروج حشود غفيرة من الجماهير بالخرطوم والأقاليم في 30 يونيو، مطالبة بإنهاء الأزمة السياسية وتسليم السلطة لحكومة مدنية. فيما أيقنت قوى الحرية والتغيير أنها فقدت الكثير من أوراق الضغط التي كانت بحوزتها، خاصة أن الإضراب العام والعصيان المدني لم يحققا أهدافهما المرجوة في الضغط على المجلس الانتقالي، وأن بوادر الانشقاق داخلها بدأت تلوح في الأفق، لتبلغ حد تبادل الانتقادات العلنية بين تجمع المهنيين السودانيين، والحركات المسلحة المشاركة في قوى الحرية والتغيير.
وعلى ذلك، بدأت المفاوضات المباشرة، واستمرت لمدة يومين، لتثمر عن الاتفاق سالف الذكر. والذي حظي بترحيب دولي وإقليمي واسع النطاق، عبرت عنه بيانات الأمم المتحدة ودول الترويكا والاتحاد الإفريقي والجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي، والتي توافقت على ضرورة دعم العملية الانتقالية بالسودان، وصولاً إلى نقل السلطة لحكومة مدنية منتخبة.
داخلياً، أكد المجلس الانتقالي الدور المهم للاتفاق في إنهاء العنف، مشدداً على الالتزام بإنفاذ بنوده وحماية الثورة، ومنح الأولوية لبناء سودان جديد يتسع للجميع، على أساس احترام حقوق المواطنة ومحاربة الفساد. وهو ذات الموقف الذي تبناه تجمع المهنيين السودانيين، الذي يمثل التيار المعتدل داخل قوى الحرية والتغيير، والذي نجح في فرض رؤيته الخاصة في مواجهة التيار المتشدد داخل المعارضة، حيث أعلنت قوى الحرية والتغيير وقف خططها للتصعيد ضد المجلس الانتقالي، والتركيز خلال المرحلة المقبلة على عقد ورش العمل والاجتماعات العامة، لشرح بنود الاتفاق، وتوعية الموطنين بواجبات واستحقاقات المرحلة الانتقالية.
كما خرجت المسيرات الشعبية بأحياء الخرطوم، معبرة عن الابتهاج بالاتفاق. وتوالت بيانات التأييد من جانب الأحزاب السياسية، وعلى رأسها حزب الأمة القومي، والمؤتمر الشعبي، بالإضافة لتيار الإخوان المسلمين وجماعة أنصار السنة. وهنا يبرز موقف الصادق المهدي، الذي أكد عدم قبوله بأي منصب خلال المرحلة الانتقالية، مع التركيز على ضم الحركات المسلحة للاتفاق، والانخراط في عملية السلام.
في المقابل، انتقدت الحركات المسلحة الاتفاق، فأكدت حركة تحرير السودان، فصيل مني مناوي أن الاتفاق لا يعبر عن قضايا الوطن ولا يقدر تضحياته، وأن أي اتفاق لم يؤسس على أرضية السلام يعتبر امتداداً لنظام الإنقاذ السابق. كما أكدت الحركة الشعبية لتحرير السودان/ جناح عبد العزيز الحلو أن الاتفاق جاء بدون تفويض، وأن قوى الحرية والتغيير أقصت شركاءها، متجاهلة مطالب الشعب، خاصة نقل السلطة لحكومة مدنية. فيما رفضت حركة تحرير السودان بزعامة عبد الواحد نور الاتفاق كلية، مؤكدة أن التوقيع عليه يعتبر خيانة للثورة ولدماء الشهداء، وأنه قد يمهد لفرض وصاية خارجية على السودان.
في خضم هذه الآراء والمواقف المتباينة، يمكن القول إن الاتفاق بشأن تشكيل المجلس السيادي، يمثل انفراجة سياسية تحتاج إليها السودان بشدة، منذ أن تأزم الموقف بين المجلس الانتقالي وقوى الحرية والتغيير، إثر فض الاعتصام بالقوة المسلحة، وأنه سوف يسهم في إيجاد خطاب سياسي موحد لشركاء الحكم بالسودان.
لكن تظل هناك بعض النقاط المهمة، التي ينبغي وضعها في الاعتبار قبل التوقيع النهائي على الاتفاق. وتتعلق بصلاحيات المجلس السيادي، وكيفية اتخاذه للقرارات، وآلية تسوية خلافاته الداخلية، وكيفية إصدار التشريعات في غياب المجلس التشريعي، ومصير تلك التشريعات بعد انتهاء المرحلة الانتقالية، ومدى إمكانية مشاركة قادة المرحلة الانتقالية في الانتخابات المقبلة.
هناك أيضا ملف المجلس التشريعي، الذي يتوقع أن يكون هو العقبة الكبرى في طريق المرحلة الانتقالية، حيث إن إرجاء تشكيله، يوحي بإمكانية التراجع عن اتفاق 14 مايو الماضي، الذي منح قوى الحرية والتغيير 67% من إجمالي مقاعده البالغة 300 مقعد، خاصة في ظل اعتراض العديد من الأحزاب السياسية على تلك النسبة، ومطالبتها للمجلس العسكري بتعديلها، بدعوى أن قوى الحرية والتغيير ليست وحدها في ميدان الثورة.
كما تبدو الحاجة إلى تحديد مصير قوات الدعم السريع، وهل سيتم إدماجها ضمن القوات المسلحة الوطنية، أم ستحتفظ بوضعيتها الراهنة، التي تمنحها قدراً كبيراً من الاستقلالية. بالإضافة إلى ضرورة تحسين الأوضاع الاقتصادية. وبالرغم من أن التصدي لتلك القضايا لن يكون أمراً ميسوراً، لكن الحكمة تقتضي الاحتكام دائماً إلى مائدة التفاوض، ووضع حد للتصعيد، وإعمال الحلول الوسطى، بحيث تدار العملية السياسية كمباراة يمكن أن يفوز بها الجميع، بما يحافظ على السودان كوطن يتسع للجميع.

* نائب مدير مركز حوض النيل - جامعة القاهرة

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"