نيبال . . من العزلة إلى التجاهل

03:03 صباحا
قراءة 6 دقائق
د . محمد مصطفى الخياط
ربما لم يكن لموقع نيبال دلالة على مكانتها العالمية مثل الآن . جغرافياً، تصنف نيبال كدولة داخلية . بلا سواحل جبلية . قُدت من الصخر والجلمود ذلك كونها (محشورة) بين تضاريس جبال الهملايا . الآن تنعكس عزلتها الجغرافية في مرآة التجاهل الإنساني غير المبرر إزاء تداعيات الزلزال الذي ضربها نهاية شهر إبريل/ نيسان الماضي . هل قست قلوبنا؟ هل صار أقصى ما نقوم به إزاء ما نراه من كوارث أن نتابعها على شاشات التلفاز؟ نذكرها في أمسياتنا بين رشفات القهوة، وتمتمات الحسرة، ثم ننساها حال ما نغادر المكان .
كانت الأمم المتحدة قد دعت عقب الزلزال إلى جمع نحو 400 مليون دولار لمساعدة نيبال خلال الأشهر الثلاثة المقبلة على مواجهة تلك الكارثة الإنسانية، إلا أن الحصيلة المؤكدة تشير إلى نحو عشرين مليون دولار فقط، أي نحو 5% جاءت من أمريكا (10 ملايين دولار)، وإنجلترا (6 .7 مليون دولار)، وأستراليا (9 .3 مليون دولار) .
وعورة التضاريس وتدني مستوى البنية التحتية للطرق ونقص عدد الشاحنات وضعت فرق الإنقاذ في مأزق . فمع كل صباح يرتفع مؤشر الضحايا عالياً . أرقام الضحايا تسافر نحو العشرة آلاف . المقارنة بضحايا زلزال عام 1994 - نحو 700 شخص - تكشف حجم الكارثة . علمياً، بحسب قوة الزلزال ومدته يتحدد حجم الكارثة . زلزال 1988 كان الأقوى - 3 .8 درجات على مقياس ريختر - لكنه الأقل من حيث الضحايا . في حين بلغ زلزال إبريل الفائت 8 .7 درجة . المباني الهشة تحولت إلى ركام . بيوت العنكبوت لم تراع - حتى الآن - تأثير الزلازل في مراحل التصميم فتحولت إلى عهن منفوش . دمرت آلاف القرى . لا بل سويت بالأرض وتحركت مساحات كبيرة من مكانها .
كيف لبشر أن يتحملوا العيش تحت الأنقاض دونما ماء أو طعام؟ آلاف الجرحى عالقون لا تصل إليهم فرق الإنقاذ . المؤشرات المبدئية تؤكد حاجة نحو ثلاثة ملايين مواطن إلى المأوى والغذاء . فقد نحو 130 ألف شخص منازلهم، وانتقل 24 ألفاً آخرين إلى خيم الإيواء بالمعسكرات . فقد آلاف الأطفال ذويهم . هناك أعلى شجرة يابسة بلا أوراق ينظر طائر الموت في تحد، يردد الفضاء والفراغ صوته المهيب . منكسة هي الرؤوس من ثقل الكارثة وقلة الحيلة .
تبعات الزلزال لم تتوقف بعد . فقد المزارعون محاصيلهم في بلد يعتمد أكثر من ثلثي مواطنيه على الزراعة كمصدر للدخل . وصار على الأطفال أن ينسوا مدارسهم المهدمة . كما فقد أرباب العمل محلاتهم . غمامة الأمراض والعدوى تظلل الرؤوس منذرة بعواقب وخيمة . فنحو تسعين بالمئة من المستشفيات لا تصلح للاستخدام . فقيرة هي خيام الإنقاذ . بل تحتاج إلى إنقاذ . آثار الكارثة تكبر يوماً بعد يوم لترتفع معها وتيرة الغضب من حناجر المكلومين . غضب شعبي مكتوم وحكومة أقعدتها الكارثة الكبيرة والإمكانات القليلة .
"نحتاج ما يتراوح بين 3 .1 و2 مليار دولار حتى نتمكن من إعادة بناء المنازل والمستشفيات والمباني الحكومية" هكذا قال رام شاران وزير مالية نيبال، ثم أردف "إنها مجرد تقديرات مبدئية لكننا نحتاج إلى وقت حتى نحصل على إحصاء دقيق" . آخرون قدروا حجم الكارثة بأضعاف ما أعلنته الحكومة . فضلاً عن الوقت اللازم لإعادة الإعمار . لدولة بحجم نيبال لا يتخطى إجمالي ناتجها القومي العشرين مليار دولار ولا يتجاوز متوسط الدخل السنوي للفرد عتبة السبعمئة دولار تبدو تلك الأرقام كارثية .
تنطلق الحناجر بصرخات النجدة تستعطف القلوب، تستدر الرحمات . أرسلت الصين 62 من المتخصصين في البحث والإنقاذ، وبعثت اليابان 70 آخرين . ومازال هناك حاجة إلى وحدات إسعاف متنقلة تسمح باستقبال الجرحى ووقف احتمالات انتشار الأمراض والعدوى . الحاجة إلى وحدات تنقية مياه متنقلة ضرورة . وصلت أطقم الصليب والهلال الأحمرين من عدة دول آسيوية وعربية إلى مطار العاصمة المتواضع، وها هي تنتظر الإذن بالتحرك صوب مواقع الكارثة . أرسلت الإمارات وقطر وتركيا وروسيا وأذربيجان معونات غذائية إلى نيبال عبر الهند . الهليكوبتر هي الأنسب في مثل هذه الأحوال حيث لا حاجة إلى مدارج صعود وهبوط . لكن أين هي؟ ومن أين تأتي بها حكومة لم تعتد التخطيط للمستقبل والتحسب للكوارث .
من جهة أخرى، وصلت طائرات محملة بالمواد الغذائية والأدوية إلى مطار كاتماندو البائس، إلا أن تأثر المطار بالزلزال ومحدودية أطقم العمل وعدم وجود مخازن ومبردات تستوعب هذه المساعدات بات يهدد بتلفها قبيل وصولها إلى المتضررين . أضف إلى ذلك تكدس المئات من الأجانب بالمطار أملاً في حجز مقعد بطائرة تحملهم إلى أوطانهم، حيث المأوى والمأكل وحيث لا زلازل ولا هزات ارتدادية .
حال وقع الزلزال، تجلى قلق الاتحاد الأوروبي على نحو ألف سائح أوروبي قدموا إلى نيبال تأكد موت اثنى عشر منهم . وهناك خمسة آخرون قضوا نحبهم على قمة جبل إيفرست مقصد السياح الأول . بلغ إجمالي متسلقي الجبال الذين قتلوا نحو 17 سائحاً أجنبياً، في حين ما زال هناك 200 آخرين عالقين في انتظار المساعدة . عادة، يأتي السياح إلى نيبال لأغراض السياحة والترفيه وخاصة تسلق الجبال ليتحول ما ينفقونه إلى 8% من إجمالي الناتج المحلي . مسكينة هي أوروبا، لديها قصر نظر . لا ترى أبعد من مواطنيها .
على صعيد السياسة الخارجية، ترتبط نيبال بعلاقات قوية مع جارتيها العملاقتين . الهند والصين . بينهما تبدو نيبال كقزم . سواء من حيث المساحة التي لا تتجاوز 2% من مساحة الصين، والدخل القومي الذي يبدو ككسر عشري في أرقام جارتيها اللتين ما فتئتا تنافسان اقتصاديات الدول المتقدمة . وحدها الجغرافيا - التي عزلتها عن العالم - جعلت منها محط رضا نحو 35% من سكان الكرة الأرضية يقطنون الهند والصين مجتمعتين . ومع هذا، تعد الهند الجارة الأقرب إلى نيبال، فهناك لغات مشتركة يتحدث بها مواطنو الدولتين ليجمع بينهما عناصر ثقافية مشتركة . ثم رابط الدين - المؤثر أينما وجد - حيث يبلغ عدد أتباع الهندوسية في الهند ونيبال 80% من السكان، بينما تأتي البوذية - الديانة الرئيسية في الصين - في المركز الثاني .
بعيون دامعة يتذكر النيباليون تاريخهم الحزين الأشبه بالمآسي اليونانية . تذكروا وقت اكتوت نيبال بحادث اغتيال الأسرة المالكة عام 2001 في حادث تضاربت الآراء حوله . هناك من أكد أن ولي العهد قتل الملك وتسعة من أفراد الأسرة الحاكمة . ويرى آخرون أن الحادث يحمل خفايا وعلامات استفهام تثير الشكوك . تذكروا أيضاً عشر سنوات من الحرب الأهلية 1996 - حتى 2006 وما ألقته من ظلال على المشهد السياسي أدت إلى تحول نيبال من مملكة إلى جمهورية عام ،2008 تذكروا ضعف نظام سياسي أفرز كيانات سياسية هشة غير مؤهلة للتعامل مع مثل هذه الكوارث .
هل تعود الحياة إلى كاتماندو شيئاً فشيئاً . هل تدور الماكينات المعطلة، وتنفث محطات الكهرباء بخارها في السماء، وتدب الحياة في شبكات الاتصالات . أسئلة تدور في أذهان رجل الشارع عند مروره على حطام المباني المتناثرة في كافة الأنحاء . هل هناك أمل في وجود أحياء آخرين، ربما . يتذكر الجميع كيف وجدت فرق الإنقاذ امرأة بعد سبعة عشر يوماً قضتها تحت أنقاض مصنع في بنجلاديش تحطم عام ،2013 وكيف أخرج رجال الإنقاذ في هايتي رجلاً بعد اثنى عشر يوماً من زلزال ضربها عام ،2010 ويعقب الأطباء، للمعجزة البشرية شروط، أولها وجود مساحة - تحت الأنقاض - تسمح ببعض الحركة ودخول الأكسجين، مع قليل من الماء الضروري للحياة . الحاجة إلى الماء يرتبط بدرجة حرارة الجو، كلما بدا الجو لطيفاً كلما قلت الحاجة للمياه .
بحثاً عن الأمل، ينقب الجميع في الأنقاض أملاً في العثور على أحياء . ارتفاع أعداد الضحايا كل صباح يفضي بالبائسين إلى اليأس . محدودية عمليات الإغاثة وتدني المعونات الدولية وصعوبة الجغرافيا وبؤس البنية التحتية يخفض سقف التوقعات الإيجابية . إنسانياً، كنا ننتظر امتداد مظلة الضمير الإنساني إلى مواطني نيبال، لكنها توقفت عند الحافة تاركة مصير أولئك الفقراء والضعفاء والمهمشين معلقاً بخيط عنكبوت في مخلب طائر الموت .

[email protected]
www.energyandeconomy.com

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"