«يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم»، (سورة الأنفال: 07).
كانت الصداقة بالإضافة إلى القرابة تجمع بين الرسول صلى الله عليه وسلم وعمه العباس بن عبدالمطلب، حيث لم يكن يفصل بينهما سوى سنتين أو ثلاث سنوات تزيد في عمر العباس، إلى جانب خلق العباس وسجاياه التي أحبها الرسول الكريم، فقد كان وصولاً للرحم والأهل، لا يضن عليهم بجهد ولا مال، وكان فطناً وذا مكانة مرموقة في قريش.
أسلم العباس رضي الله عنه ولم يعلن إسلامه إلا عام الفتح، ما جعل بعض المؤرخين يعدونه ممن تأخر إسلامهم، بيد أن روايات أخرى من التاريخ تنبئ بأنه كان من المسلمين الأوائل ولكن كتم إسلامه، فيقول أبورافع خادم الرسول صلى الله عليه وسلم: (كنت غلاماً للعباس بن عبدالمطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أم الفضل، وأسلمت، وكان العباس يكتم إسلامه)، وكان مقامه بمكة بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت قريش دوماً تشك في نوايا العباس، لكنها لم تجد عليه سبيلاً، وظاهره على ما يرضون من دين.
في بيعة العقبة الثانية عندما قدم مكة في موسم الحج وفد الأنصار، المكون من ثلاثة وسبعين رجلاً وسيدتين، ليعطوا الله ورسوله بيعتهم، وليتفقوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم على الهجرة إلى المدينة، أبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم نبأ هذا الوفد إلى عمه العباس، فلما اجتمعوا كان العباس أول المتحدثين فقال: (يا معشر الخزرج، إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا، ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه، ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده).
أسير «بدر»
وفي غزوة بدر رأت قريش الفرصة سانحة لاختبار العباس وصدق نواياه، فدفعته إلى معركة لا يؤمن بها ولا يريدها، والتقى الجمعان ببدر وحمي القتال، ونادى النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه فقال: (إني قد عرفت أن أناساً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهاً لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحداً منهم، أي من بني هاشم، فلا يقتله، ومن لقي البختري بن هشام فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبدالمطلب فلا يقتله، فإنه إنما خرج مستكرهاً)، فقال أبو حذيفة بن عتبة: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشائرنا ونترك العباس؟ والله لئن لقيته لألجمنه بالسيف، فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: (يا أبا حفص، قال عمر: والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبا حفص، أيُضرب وجه عم رسول الله بالسيف؟)، فقال عمر: يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه، فوالله لقد نافق، فكان أبوحذيفة يقول بعد ذلك: والله ما آمن من تلك الكلمة التي قلت، ولاأزال خائفاً منها إلا أن يكفرها الله تعالى عني بشهادة، فقتل يوم اليمامة شهيداً، رضي الله عنه.
وأسر العباس يوم بدر، وكان أكثر الأسارى فداء، وذلك أنه كان رجلاً موسراً، فافتدى نفسه بمئة أوقية ذهباً، وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك: أن رجالاً من الأنصار قالوا: يا رسول الله ائذن لنا فلنترك لابن أختنا العباس فداءه، قال: (لا والله لا تذرون منه درهماً)، وبعثت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أسراها، ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا، وقال العباس: يا رسول الله قد كنت مسلماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الله أعلم بإسلامك، فإن يكن كما تقول فإن الله يجزيك، وأما ظاهرك فقد كان علينا، فافتد نفسك وابني أخيك نوفل وعقيل، وحليفك عتبة بن عمرو) قال: ما ذاك عندي يا رسول الله. قال: (فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل؟ فقلت لها إن أصبت في سفري هذا، فهذا المال الذي دفنته لبني الفضل وعبدالله وقثم؟). قال: والله يا رسول الله إني لأعلم أنك رسول الله، إن هذا لشيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل، فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا، ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك»، ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه، فأنزل الله عز وجل فيه: «يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم»، (سورة الأنفال)70: ، قال العباس: فأعطاني الله مكان العشرين أوقية في الإسلام عشرين عبداً كلهم في يده مال يضرب به، مع ما أرجو من مغفرة الله عز وجل.
غزوة حنين
فدا العباس نفسه ومن معه وعاد إلى مكة، وبعد حين جمع ماله ومتاعه وأدرك الرسول الكريم بخيبر، وأخذ مكانه بين المسلمين وصار موضع حبهم وإجلالهم، لاسيما وهم يرون حب الرسول صلى الله عليه وسلم له وقوله: (إنما العباس صنو أبي فمن آذى العباس فقد آذاني)، وأنجب العباس ذرية مباركة وكان حبر الأمة عبدالله بن العباس أحد هؤلاء الأبناء.
وفي غزوة حنين وحين اجتمع المسلمون في أحد الأودية ينتظرون مجيء عدوهم، كان المشركون قد سبقوهم إلى الوادي وكمنوا لهم في شعابه ممسكين زمام الأمور بأيديهم، وعلى حين غفلة انقضوا على المسلمين في مفاجأة مذهلة جعلتهم يهرعون بعيداً، ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم ما أحدثه الهجوم المفاجئ فعلا صهوة بغلته البيضاء وصاح: (إليّ أيها الناس، هلموا إليّ، أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبدالمطلب)، ولم يكن حول الرسول صلى الله عليه وسلم يومئذٍ إلا أبوبكر، وعمر، وعلي بن أبي طالب، والعباس بن عبدالمطلب، وولده الفضل، وجعفر بن الحارث، وربيعة بن الحارث، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد، وقلة أخرى من الصحابة، وسيدة أخذت مكاناً عالياً بين الأبطال هي أم سليم بنت ملحان، وكانت حاملاً، انتهت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالت: (أقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك، كما تقتل الذين يقاتلونك، فإنهم لذلك أهل)، هناك كان العباس إلى جوار النبي صلى الله عليه وسلم يتحدى الموت والخطر، فأمره الرسول أن يصرخ في الناس فصرخ بصوته الجهوري: (يا معشر الأنصار، يا أصحاب البيعة) فأجابوه: (لبيك، لبيك) وانقلبوا عائدين كالإعصار صوب العباس، ودارت المعركة من جديد وغلبت خيل الله، وتدحرج قتلى هوازن وثقيف.
بركة العباس
كان للعباس رضي الله عنه منزلة عظيمة عند الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان الصحابة يعترفون له بفضله ويشاورونه، وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجل أحداً ما يجل العباس أو يكرم العباس، وكان العباس إذا مر بعمر أو بعثمان رضي الله عنهما وهما راكبان نزلا حتى يجاوزهما إجلالاً لعم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي عام الرمادة حين أصاب العباد قحط، خرج أمير المؤمنين عمر والمسلمون معه إلى الفضاء الرحب يصلون صلاة الاستسقاء، ويضرعون إلى الله أن يرسل إليهم الغيث والمطر، ووقف عمر وقد أمسك يمين العباس بيمينه، ورفعها صوب السماء وقال: (اللهم إنا كنا نستسقي بنبيك وهو بيننا، اللهم وإنا اليوم نستسقي بعم نبيك، فاسقنا)، ولم يغادر المسلمون مكانهم حتى جاءهم الغيث، وهطل المطر، وأقبل الأصحاب على العباس يعانقونه ويقبلونه ويقولون: (هنيئاً لك ساقي الحرمين).
كف بصره في آخر عمره، ومات في 12 رجب سنة (32 ه) وله ست وثمانون سنة، وصلى عليه الخليفة عثمان بن عفان ودفن بالبقيع.