بعيداً عن الغرف المقبضة

03:38 صباحا
قراءة 5 دقائق
** محمد إسماعيل زاهر

«مأسورون من أماكن شتى. وجوه وأيد ملطخة، بسواد، ودماء متخثرة. ضلوع محطمة، نفوس ذاهلة، أجساد متناثرة على الرمال. تعب سنوات طوال في تثقيف عقول وتربية أجساد، ينتهي في لحظة واحدة، بعد قصفة مدفع. عيون مكدودة، غير مصدقة أن ما حدث قد حدث».

فؤاد حجازي
من رواية «الأسرى يقيمون المتاريس»

(1)

هل يوجد ما يُسمى بأدب الأسر؟، ونعني تلك الرواية أو الشعر أو المذكرات أو حتى الكتابة التوثيقية داخل ذلك الفضاء الإبداعي الذي يعبر عن لحظات من المعاناة في سجن أو معتقل خلال تلك الفترة التي يطلق عليها «الأسر».
في محاولة البحث عن تحديد أولي لأدب الأسر، سنجد أنفسنا نتورط كثيراً في أنواع أخرى من الأدب تتماس مع مفردة أدب الأسر، هناك مثلاً أدب الحرب، أدب السجون والمعتقلات، الأدب السياسي، أدب الهزيمة، ففي كل عمل يروي تجربة أسر يوجد ظل من هذه الأنواع جميعاً. فضلاً عن حكايات البشر المفقودين في الحرب، في تعليق له على رواية محمد حسين يونس «خطوات على الأرض المحبوسة»، يقول يوسف القعيد في عام 1995: ( في قريتي.. مفقودون من حروب 48، 56، و67، ما زالوا حتى هذه اللحظة تحت هذا العنوان: «مفقودون»، وسيظلون كذلك حتى إشعار آخر). هؤلاء لا نعرف مصيرهم، هل وقعوا في الأسر؟، هل يقبعون منسيين في السجون؟، هل ماتوا أو قتلوا؟..إلخ، ولكن تجربتهم تحتاج إلى الكتابة..والكتابة الأدبية تحديداً.
هناك إشكالية أخرى تواجه من يكتب عن أدب الأسر، وتتمثل في تحديد مفهوم «الأسير»؛ حيث يخلط البعض بين من وقع في قبضة العدو خلال الحرب، ومن قام العدو باختطافه في ظروف أخرى، وبرغم اتساع مفهوم الأسير في الحالة الثانية، فإننا نلاحظ ندرة من كتبوا عن الأسير في الحالتين.
إلى أي نوع أدبي تنتمي تجربة الأسير؟، كيف نصنف ما كتبه؟، ما نعثر عليه ويتحدث عن تلك التجربة، يتورط في التوثيقي؛ ولكنه لا يستطيع الهروب من النقدي، تفوح منه رائحة المرارة، يكتب محمد حسين يونس عن ضابط مهندس اعتقل في سجن «عتليت الإسرائيلي» لمدة سبعة شهور في أعقاب 5 يونيو/حزيران 1967، ولكن قبل الانخراط في الحديث عن السجن، يحكي عن ذهابه مع فرقته إلى سيناء في مايو/أيار من العام نفسه، ينتاب الضابط الشاب سؤالاً، بعد أن نشرت الصحف صورة لفرقته التي تستعد للمعركة، هل هذه حرب..أين السرية والمناورة؟.
تمتلئ رواية يونس بمشاهد الحرب في سيناء والسجن في «عتليت» وكيفية معاملة الأسرى، والأهم حلقات النقاش التي أقامها المسؤولون عن السجن للحوار مع الضباط، وإقناعهم بلا جدوى الحرب، كانت عملية «غسيل دماغ» كما وصفها يونس فيما بعد، لم يكن هناك من جدوى للتعذيب أو المعاملة السيئة، كان الهدف كسر فكرة المقاومة في العقل أولاً، ومن هنا مأساوية حالة الأسير في «خطوات على الأرض المحبوسة»، فنحن أمام مهندس من الطبقة الوسطى، مثقف ووطني ومن أبناء ثورة يوليو، خاض معركة وهُزم فيها، وتعرض للأسر، والأهم لامتحان صعب اختبرت فيه مكوناته الفكرية جميعاً، تتجاذبه فكره مقاومة العدو التي تربى عليها، ونقد الذات بعد أن عاين التخطيط السيئ للمعركة، ومقاومة أكبر تتمثل في إدراك الغسيل العقلي الذي يتعرض له.
يبدأ يونس روايته بالحديث عن مشاعر الأم «التي لو تأخر ولدها الشاب عن الرجوع في موعده ليلاً أصابتها الهواجس وهاجمتها الظنون وكل الأفكار السوداء، والتي تجعلها قلقة تتحرك بعجز من شباك إلى آخر، تتسمع وقع أقدامه أو شذرات من حديث له مع صديق يرافقه أو صوت عربة تتوقف به أمام الدار»، وبين البداية وكتابته لشعر غزلي في عيون الماعز التي سقته لبناً وهو في صحراء التيه، ووقوعه في الأسر وعودته إلى الوطن، بين كل هذه الأحداث، وجد يونس نفسه في ورطة، كيف يعبر عن مأساته؟.
«خطوات على الأرض المحبوسة» تجربة أسير جعلت الشعور بالخوف والهزيمة ملازماً له طويلاً، في أحد الحوارات معه يؤكد يونس، ذلك الإحساس، فأول مجموعة قصصية كتبها بعد الرواية جاءت بعنوان «أحاديث عن الغولة»، في ذلك الحوار يؤكد يونس أنه لا وجود لأدب الحرب في الساحة العربية المعاصرة، وبالتبعية لا وجود لأدب أسر، هناك أدب سجون وأدب هزيمة.

(2)

في رواية «الأسرى يقيمون المتاريس» لفؤاد حجازي وهي تدور حول الثيمة نفسها نجد التركيز أكثر على فكرة السجن، فالمؤلف نفسه تعرض للاعتقال قبل حرب يونيو 1967، في سجون: الواحات والقناطر والقلعة، هنا نجد أنفسنا في قبضة «قدر الغرف المقبضة»، عنوان رواية لعبد الحكيم قاسم، صحيح أن حجازي يصور المعركة قبل الأسر، ويصور تعامل ضباط «عتليت» مع الأسرى، ولكن الكاتب مسكون أولاً بفكرة الحرية، فالأسلاك الشائكة هي العقبة الأولى التي تمنع الحرية، وتدفع الأسرى إلى البحث في شتى الوسائل التي تمكنهم من الهرب، الرواية تضرب على فكرة تحرر الوطن؛ من خلال تجاوز تلك الأسلاك الشائكة المعيقة للجسد، والمعيقة للعقل، ومن هنا تلك الحوارات والمشاهد والتي تذكرنا بأدبيات الاعتقال، والأهم أنها تذكرنا أننا أمام صاحب تجربة وتوجه سياسي؛ ولذلك فأسئلته واضحة وخياراته محددة، بعكس يونس ذلك الشاب البريء الذي وجد نفسه في تجربة جديدة عليه، دفعته إلى حزمة من الأسئلة الشائكة.
في تجربة يونس الذي تفتح وعيه مع الحرب وفضاءاتها، الأرض كلها أسيرة، ومن هنا المعاناة والخوف اللاحق، والمدار الأوسع للرؤية، المتجاوز لمكان الأسر في الزنزانة، أما حجازي فالأسر لديه محدود الأبعاد، مسيج بالأسلاك معروف الوقائع؛ ولذلك تتجاوز عفوية الأول شرطه الخاص، بينما يقع الثاني أسيراً لما خبره في السابق وأعاد إنتاجه من منظور جديد.

(3)

يكتب صموئيل هاينز في «حكاية الجند..الحروب والذاكرة في القرن العشرين»، عن نظرتنا لسرديات الحرب بوصفها تجربة، لا تستدعي سؤال لماذا، هي سرديات تسجيلية وحسب، هو يرصد ملامح تلك الصورة البائسة في ذهن معظم القرّاء، وهم يقبلون على عمل ينتمي إلى أدب الحرب أو أدب السجن، فنحن نفتش في هذه الأعمال عن كل ملموس، ويمكن الإحساس به في راحة اليد، نبحث عن مشاهد الحرب، ومعاناة السجين وأفكاره السياسية التي أدت به إلى هذا المصير، ولكن هذه التجربة وهي تسجل وقائع ما حدث فإنها تكتنز الكثير من المخبوءات التي تحيلنا إلى مدارات أخرى.
إن تجربة الأسر، وأدبياتها النادرة في الثقافة العربية تتجاوز في طروحاتها العديد من أنواع الأدب الأخرى الموازية لها، هي تجربة تستوعب الحرب والسجن والهزيمة وعودة الأسير، والإنسان عندما يرغب في أن يستأنف الحياة من جديد، ليراها بعيون أخرى، هي تجربة ذات مذاق خاص وأسئلة مختلفة، ومن هنا صعوبتها وندرتها، وقدرها المغاير تماماً فكرياً ومكانياً لقدر الزنزانة أو قدر الغرف المقبضة.

هلع

يصف محمد حسين يونس حالة الأسرى بالقول: «الأسرى متعبون خائفون لدى أي بادرة غير عادية تصدر من الجانب الآخر، فهم لا يأمنون لهؤلاء السائرين خلفهم، وجنود الأعداء فرحون كأنهم مجموعة من أرستقراطية العصور الوسطى خرجوا للصيد وعادوا بمجموعة نادرة من الحيوانات سليمة».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"