سيف غباش وخليفة المبارك . . شهيدان

ذاكرة المكان
14:04 مساء
قراءة 4 دقائق

في ضحى يوم الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول عام ،1977 كانت اللجنة العامة للحوار العربي الأوروبي، تعقد اجتماعاتها في لوكسمبرغ، وكان أبو عدنان، متحمساً لهذا الحوار، وقد ترأس إحدى دوراته التي عقدت في فندق هيلتون في أبوظبي عام ،1975 وكنت أستعد لإلقاء كلمة قصيرة في هذا الاجتماع، قرأتها على مسامع أبو عدنان بالتليفون قبل مغادرتي القاهرة إلى لوكسمبرغ .

جاءني بعد قليل من بدء الاجتماعات، عضو في الوفد البريطاني، ليقول هامساً إن لديه خبراً سيئاً، ومفاده أن سيف بن غباش (أبو عدنان) وزير الدولة للشؤون الخارجية، قد اغتيل في مطار أبوظبي، وقد تناقلت وكالات الأنباء هذا الخبر، وبعضها أشار إلى أن رصاصات القاتل كانت تهدف عبدالحليم خدام وزير الخارجية السوري الذي كان أبو عدنان يرافقه مودعاً في المطار .

كان للخبر وقع الصاعقة، وتشاورت مع نجم الدين حمودي، رحمه الله، الذي كان يترأس وفد الإمارات في الاجتماعات التي توقفت للحظات، تخللتها كلمات مؤثرة عن الراحل الكبير، قدمها عدد من الدبلوماسيين الذين يعرفون الفقيد .

كان لهذا اليوم في فم العديد من أصدقاء الفقيد طعم كطعم الرماد .

وها هو الفارس الذي طوّف العالم، وعاد إلى وطنه ليخدمه في مرحلة حرجة من التأسيس، لتأتي رصاصات غادرة وعبثية، وتضع نهاية لهذا الحلم، لهذا الإنسان الطيب والعصامي والوطني والمثقف والكفء .

غادر الوفد لوكسمبرغ في اليوم التالي، بعد أن أمضينا ليلة قاسية من الحزن والأسى .

يعود لقائي الأول مع الراحل أبو عدنان، إلى مطلع ،1972 وربما في شهر يناير/كانون الثاني، حينما أمضينا بضع ساعات في مناقشات ذات صلة بالشؤون العربية، وبخاصة الوضع المصري، وقد كان المرحوم تريم عمران حاضراً هذا اللقاء (تم في فندق العين في أبوظبي)، إضافة إلى سيف الجروان، وكنا جميعاً على موعد للقاء أحمد خليفة السويدي وزير الخارجية هذا الاجتماع الذي تمخض عنه تعيين أبو عدنان وكيلاً لوزارة الخارجية، وتريم سفيراً في القاهرة، وسيف الجروان سفيراً في الكويت .

عرفت في لقاءاتنا مع أبو عدنان، رحلة الكفاح وطلب العلم في الكويت والبحرين والعراق والنمسا وألمانيا وفرنسا وليننغراد .

وعرفت منه، نشأته القاسية، وفقدانه لوالديه وهو في الثانية عشرة من عمره، وانتقاله من رأس الخيمة إلى دبي، ليعيش مع عمته، وكيف أكمل دراسته الثانوية في البحرين في عام 1949 وحتى عام ،1953 ثم غادرها إلى بغداد للدراسة، إلاّ أنه طرد منها إثر مشاركته في مظاهرات طلابية احتجاجاً على العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956 . فتوجه إلى مصر لاستكمال دراسته .

لكنه لم يستمر طويلاً حتى توجه إلى الكويت للعمل في دائرة الأشغال العامة لمدة سنتين .

وفي عام 1959 غادر الكويت إلى النمسا ثم ألمانيا وفرنسا بحثاً عن عمل تارة، وطلباً للدراسة تارة أخرى، وتعلم اللغتين الألمانية والفرنسية، واستقر به المقام أخيراً في ليننغراد (بطرسبرغ حالياً)، وأكمل دراسة الهندسة، وتزوج هناك .

في عام ،1969 عاد إلى رأس الخيمة، بعد نحو عقدين من الاغتراب، وعمل في بلديتها، وحينما قام الاتحاد، شعر بأن ثقافته الموسوعية، واهتماماته الفكرية والثقافية والوطنية، هي أكبر من وظيفة فنية في البلدية، ورحب به أحمد خليفة السويدي، وهو يبحث في تأسيس كادر دبلوماسي كفء، لقيادة مرحلة حساسة في بناء علاقات دولية مرنة وذكية لهذه الدولة الناشئة .

***

استمر سيف غباش وكيلاً للوزارة حتى ديسمبر ،1973 ليعين بعدها وزير دولة للشؤون الخارجية، وليجمع من حوله نخبة مميزة من أبناء الوطن، لتشكيل الإدارات المختلفة في الوزارة، ومن هؤلاء عبدالله حميد المزروعي، وعبدالرحمن الجروان، وسعيد الغيث، وسفراء مميزين في الداخل والخارج، يقودهم النوخذة الفذ والإنسان أحمد السويدي، مدعوماً بتوجيهات ورؤى قيادة سياسية واعية ومخلصة، على رأسها المغفور له الشيخ زايد طيب الله ثراه .

وحينما استحضر بعض الأوراق من دفتر الذاكرة، تحضرني زيارة قام بها أبو عدنان إلى القاهرة، وطلبه مني مرافقته لزيارة حي الحسين، وتناول الشاي في قهوة الفيشاوي، وبحثه عن خادمة مصرية للعمل في منزله في أبوظبي، بعد أن مل سماع اللغة الإنجليزية من الخادمة الهندية في البيت، وقال إنه بشوق إلى سماع من يتحدث اللغة العربية، ويلفظ جملة لا إله إلا الله .

تمتع المرحوم سيف بأخلاق عالية، وملك بسطة واسعة وعميقة من العلم والثقافة الإنسانية، وكان على درجة فائقة من الذكاء والتواضع وبساطة العيش . كما كان من أشد المتحمسين للقضية الفلسطينية .

ترك سيف غباش، إرثاً طيباً، ونموذجاً للإنسان العصامي، وللوطني الحر الصادق .

كما خلف أربعة أبناء هم عدنان وعمر (السفير في موسكو الآن) وسعيد وميسون .

***

أما القاتل، فهو مأجور في منظمة أبونضال التي كانت مجرد بندقية للإيجار لمن يدفع، وانتهى زعيمها بالقتل من قبل رجال صدام حسين في بغداد . بعد أن استخدمه طويلاً في الصراع العبثي ما بين بغداد ودمشق . وقد تم القصاص من القاتل، بعد محاكمته واعترافه، وتم إعدامه رمياً بالرصاص، وكان القاتل قد لاحق عبدالحليم خدام أثناء زيارة خدام إلى قطر، إلا أنه لم يظفر به، فلحقه إلى أبوظبي عن طريق البر . وانتظره في المطار عند توديعه، إلا أن الرصاصات الغادرة، أصابت أبو عدنان في مقتل، بعد أن انبطح خدام أرضاً، وظل أبو عدنان واقفاً ينظر باتجاه مطلق الرصاص .

استشهد سيف بن غباش عن عمر 45 عاماً، برصاصات نذلة غادرة وفي أزمنة لوثة الجنون التي أصابت نظماً عربية نذلة أيضاً .

هل توقفت لوثة الجنون هذه، بعد ذلك؟

لا . . لم تتوقف .

بعد سبع سنوات، وفي الثامن من فبراير/شباط عام ،1984 قدّمت الدبلوماسية الإماراتية شهيداً ثانياً، حينما اغتالت يد الغدر الصديق السفير خليفة بن أحمد عبدالعزيز المبارك (34 عاماً) سفير الإمارات في باريس، القاتل جاء الشهيد من الخلف، وهو عائد إلى منزله، في ذلك الصباح الباريسي، وينتسب القاتل المأجور إلى المنظمة نفسها (بندقية للإيجار)، التي احترقت وكانت تستر عوراتها بالإجرام .

رحم الله سيفاً وخليفة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"