الأوبئة بصيرة المبدع التراجيدية

من التاريخ إلى الأدب
05:25 صباحا
قراءة 12 دقيقة

يقول الشاعر بترارك عن وباء الطاعون في أوروبا في القرن الرابع عشر ان الأجيال المقبلة لن تصدق أن ما حدث لنا قد يحدث فعلاً، أفنى الطاعون آنذاك ثلثي سكان أوروبا، كتب التاريخ تمتلئ بمشاهد مأساوية، في كتابه الأيام يتحدث طه حسين بشفافية عن وفاة أفراد من عائلته بالكوليرا في مصر في بدايات القرن العشرين، ملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ تبدأ بعاشور الناجي والذي يستهل الرواية في خلاء نتج عن اجتياح الطاعون لأحد الأحياء المجهولة الاسم والموقع في القاهرة التاريخية، عبدالله البردوني شاعر اليمن الكبير أصيب في طفولته بمرض الجدري، طاعون كامو، عمى، ساراماجو، كوليرا ماركير، نماذج عديدة يحتاج كل منها إلى كتابة مستقلة ويخبرنا كل منها أيضاً بالآلام التي يشعر بها الانسان في تعاطيه مع الوباء.

تعامل الكثير من المؤرخين والأدباء مع مفردة الوباء، عندما نفتح تاريخ المقريزي أو ابن اياس ربما نصطدم بالمبالغات الشديدة في رصد آثار الأوبئة، المؤرخ الأحدث وبفعل تطور الكتابة التاريخية أصبح يتتبع دور الوباء، وخاصة في الفترات التاريخية السابقة، في التأثير في البنية الاجتماعية، المبدع غالباً تعامل مع الوباء كرمز تراجيدي مؤثر ينتقل من خلاله بين دلالات عدة يريد ايصالها بصورة مضمرة إلى القارئ.

ربما كان المؤرخون أسبق من الأدباء إلى تناول تفاصيل الفترات التاريخية التي استشرى فيها الوباء أو المجاعات. ولكن التساؤل الذي يطرح نفسه: إلى أي حد اختلطت تلك الكتابات بالخرافة وإلى أي حد شاب السرد التاريخي نوع من المبالغة يصل إلى حد الأسطورة؟

يقول الدكتور قاسم عبده قاسم أستاذ التاريخ الإسلامي: لم يختلط التدوين التاريخي لدى كبار المؤرخين مثل المقريزي وابن حجر والسيوطي وغيرهم بالخرافة، لكن السمة الغالبة على تسجيل الفترات التاريخية التي استشرت فيها الأوبئة والمجاعات اعتمدت على البعد الديني. لتفسير الأوبئة والمجاعات في تلك الكتابات التاريخية، نلاحظ أن المؤرخين يردون سقوط ضحايا الطاعون مثلا إلى أنه اختبار من الله وأجمعوا على اعتبار من يموت به شهيدا، وقد اتضح بتتبع المؤلفات التاريخية هذا الربط بين الحدث التاريخي والبعد الديني كما في كتاب إغاثة الأمة لكشف الغمة للمقريزي وبذل الماعون في فضل الطاعون لابن حجر الذي أكد على الربط بين الإصابة بالطاعون وبين الاستشهاد.

في هذا التوقيت تقريبا وفي منتصف القرن الثامن الهجري الموافق للقرن الرابع عشر الميلادي ظهر الطاعون كوباء عالمي حصد أرواح الملايين حتى سمي في أوروبا الوباء الأسود، وبمقارنة الروايات التاريخية الغربية لتلك الحقبة بمثيلاتها العربية قد يبدو مدهشا أن يأتي السرد التاريخي في الغرب مختلطا بالخرافة والأسطورة، وقد ساد اتجاه في تلك الكتابات التاريخية يحمل اليهود مسؤولية انتشار المرض عالميا واتهموا بتسميم مياه الآبار وقتل الأطفال، واختلطت الوقائع التاريخية بالخرافات في كتابات المؤرخين الغربيين.

وبرغم قسوة الوباء الذي قضى على ثلثي سكان مصر في المرحلة نفسها تقريباً وطال البشر والحيوانات والأسماك وقضى على معظم مظاهر الحياة في البلاد، إلا أن المؤرخين العرب لم يخلطوا في تسجيلهم لتلك الحقبة تاريخيا بين الوقائع والأساطير كما حدث في الغرب.

التدوين

ولكن كيف يمكن تفسير الروايات التي سجلتها بعض كتب التاريخ عما شهدته فترات المجاعات الكبرى من سلوكيات غير معقولة تفيد بذبح البشر بعضهم بعضا والتهام لحومهم بعدما عز الطعام واشتدت المجاعة؟

يقول د. قاسم: آفة التدوين التاريخي العربي اعتماده على نوع من البلاغة المضخمة للاحداث لوصف تأثير المجاعة على الحياة وسلوكيات البشر، وسبب استشراء هذه الآفة يعود إلى الفترة السابقة على انتشار الطباعة، فقد كان المؤرخ قبل الطباعة يدون الأحداث التاريخية لتقرأ على المستمعين لا ليتداولها القراء. ومما يؤكد عدم حدوث وقائع تناول لحوم البشر على النحو المذكور عند بعض المؤرخين تشابه القصص التي رواها بعض هؤلاء المؤرخين وتطابقها أحيانا برغم تناولها حقباً تاريخية متباعدة، فقد ذكرت الحكايات نفسها عند الإشارة إلى الشدة المستنصرية تماما كما ذكرت وقائع المجاعات التي حدثت في عصر المماليك.

لكن بعض كبار المؤرخين وفي مقدمتهم المقريزي حرص على أن يميز بين الروايات المسموعة التي لم يتحقق من وقوعها وبين الأحداث التاريخية الثابتة فعلا، وكان يرفق روايته للنوع الأول من تلك الروايات بجملته الشهيرة سمعت والله أعلم ليتخلص من المسؤولية التاريخية لتلك الحكايات، كما كان المقريزي من أوائل المؤرخين الذين سعوا للربط بين أسباب الظواهر الاجتماعية ونتائجها وعلاقة الاقتصاد بالسياسة فضلا عن ربطه بين الفساد السياسي والتدهور الاجتماعي على مستوى العالم.

الموت الأسود

من جهة أخرى كانت إيطاليا وبسبب من وباء الطاعون الموت الأسود في نهايات القرن الرابع عشر على موعد مع نقلة حضارية غيرت من تاريخها، بل ومن تاريخ أوروبا كلها، وتعود تلك اللحظة التاريخية إلى عام 1374 حين رست سفينة عائدة من البحر الأسود في ميناء مسينا في جزيرة صقيلية،حاملة معها الوباء المخيف والمميت، حيث لم تكن تستغرق وفاة الشخص المصاب به أكثر من أربعة وعشرين ساعة من ظهور دمل صغير في أحد مواضع جسده، ويمكن للمرء نتيجة لهذه المعلومة تخيل سرعة انتشار المرض، وقدرته الفتاكة، والتي أودت خلال عشرين عاما بأكثر من نصف سكان أوروبا آنذاك.

قد نتج عن ذلك الوباء خراب كامل للأرياف الأوروبية، التي كانت قبل مجيئه في حالة من الازدهار والنمو، كما نتج عنه حالة من الفزع والصدمة، وتحولت الأراضي الزراعية إلى أراض جرداء، وراحت الكلاب تنهش جثث الموتى، ومن تبقوا على قيد الحياة لم يكن بالسهولة بمكان أن يحصلوا على قدر كاف من الغذاء، كما أن حال المدن لم يكن بأفضل من الأرياف، فقد أصابها الوباء بالتعفن، ومن بقي على قيد الحياة من الأحياء لم يكن كافيا لدفن الموتى في المقابر الجماعية، التي حفرت خارج أسوار المدن لهذا الغرض تحديدا.

لقد ترك الموت الأسود أثره على لوحات فناني ذلك العصر الذين رسموا هياكل بشرية، تمضي متعثرة الخطوات، وعلى وجهها ملامح العذاب والمعاناة وهي تجر الموتى إلى قبورهم.أما الشاعر الايطالي بترارك وهو أحد الناجين فقد وصف ذلك الحدث بالقول: إن الأجيال المقبلة من ذريتنا لن تصدق أن ما حدث لنا قد حدث فعلا.

مع ختام القرن الرابع عشر ساد جو من السعادة نهاية ذاك الوباء، خاصة وأن الأحياء الناجين قد تحولوا إلى أثرياء بفضل ما ورثوه من أقاربهم من أملاك وأموال، وراحوا ينفقون بشكل جنوني على ملذاتهم، في محاولة لمحو الصور البشعة التي خلفتها ذكرى الطاعون.

في حقيقة الأمر يمكن القول إن مرحلة ما بعد الوباء كانت بداية لما يسمى الفن الجديد، والذي تجلى في الأعمال المعمارية، وخاصة قباب الكنائس، التي تم تشييدها للمرة الأولى من دون محور مركزي، وقد كان ذاك الأمر بمثابة ثورة في فن العمارة، وما زالت آثاره ماثلة حتى اليوم، ومنها قبة ميلانو ذائعة الصيت.

تركت نهاية الوباء أثرها أيضاً على مضامين اللوحات نفسها، وعلى أسلوبية الفنانين، حيث بدأت الواقعية التصويرية في الظهور، حيث أصبح الفرد ينظر إلى ذاته باستقلالية كبيرة عن الأبعاد الدينية، وهو ما برز لاحقا في فن الأيقونة نفسه حيث راحت صور القديسين في داخلها تأخذ حجما أصغر من السابق، كما ظهر ميل قوي لدى الطبقات الغنية إلى دعوة الفنانين لرسم شخوصهم، كما في بورتريه الجنرال فيدريجودامو، الذي لم يشأ الظهور بمظهر الجنرال وإنما بمظهر الرجل المثقف والغني، إذ طلب أن يرسم وهو يقرأ كتابا أو يتنزه في ساحة قصره.

إن تجمع الثروات الهائل الذي حصل بعد الطاعون الأسود كان من شأنه أن يغير تاريخ إيطاليا، ومعها أوروبا حضاريا، خاصة بإعطاء الفنين المعماري والتشكيلي أهمية خاصة، وذلك لوجود الامكانية المادية بل والفائض منها والتي تتيح الانفاق على الأعمال الفنية، وأيضا لوجود الرغبة الكامنة في إيجاد نوعية جديدة من الحياة، فيها الكثير من الجمال، كصورة نقيضة لما عاشه الناس جماعات وأفراداً في ظل موجة الوباء التي اجتاحتهم وأبادت عائلاتهم وأحباءهم وأصدقاءهم، وكأنها بداية لعهد جديد أكثر إشراقا وتفاؤلا.

حضور

تتخذ الكثير من الاعمال الروائية من الاوبئة والامراض مجالا خصبا لسرد حبكتها الروائية، ومن تلك الاعمال الشهيرة: رواية العمى لخوسيه ساراماغو والطاعون لالبير كامو، والحب في زمن الكوليرا لغارثيا ماركيز. لكن، هل كانت كلمات: الكوليرا والعمى والطاعون، تعبر عن امراض حقيقية، استمد كتابها اعمالهم الروائية من حقيقة وجودها في ارض وامكنة اعمالهم الادبية؟

الواقع ان كلا من الاعمال العالمية الثلاثة، لا تمت الى الامراض العضوية، بأي صلة، ولكنها وظفت لاعتبارات مجازية، استخدمت من اجل تقديم مقاربة ادبية، تخدم فكرة العمل ليس الا. فاعمال البير كامو، مليئة بالشخصيات التي تتكبد عناء الكثير من المواقف المحرجة التي تقتحم حياتها بشكل مفاجئ، وهي من سمات التراجيديا الاغريقية، حين كان الانسان يعتبر نفسه مثالا ورمزا كبيرا ينطق باسم الحقيقة التي اولته اياها الالهة.

على هذا الاساس، يمكن مقاربة رواية الطاعون لكامو، التي يجمع الدارسون على ان احداثها جرت في اربعينات القرن الماضي في مدينة وهران الجزائرية، لكن كامو غير المكان ليجعله، ليس سوى مديرية فرنسية على الشاطئ الجزائري.

والمفارقة بين المكانين هو ما يهدف إليه كامو في عمق بنية روايته، اذ يجعل من المرض في البيئة العصرية الحديثة، أمراً جللاً يتصف بالقسوة والجفاف، حين يحدث مثل هذا المرض في مكان، تعقد فيه الصفقات التجارية والمالية، ويكاد ينعم اهله برحلات لا مثيل لها تمتلئ بأجواء النقاهة والاستجمام وربما السباحة على الشواطىء الباردة، هنا يصبح للمرض وقع كابوسي يشبه الطاعون بما لهذا المرض من ذاكرة مأساوية، وهنا مجال للمقاربة بين مكان يتصف بالقسوة، وآخر في مدينة عصرية، لكن من ينظر لهذه المدينة بعمق، يلحظ مقدار الصعوبة التي يلقاها الناس في سبيل الموت، وكلمة صعوبة ليست هي الكلمة المناسبة هنا، إذ لم يكن من الأمور المستحبة في أي مكان أن يصاب المرء بالمرض، فهناك مدن وبلدان تساندك في مرضك، أما في وهران فإن قساوة الجو، وتفاهة منظر المدينة الخارجي، كل ذلك يتطلب أن يكون الإنسان في صحة جيدة، فمن يقعده المرض فيها لا بد أن تضنيه الوحدة.

فلنفكر إذن في من يحضره الموت وقد وقع في ما يشبه الفخ خلف مئات من الجدران التي يضطرم حرها، بينما تنكب جموع السكان في الوقت ذاته على التحدث في الهاتف أو المقهى عن عقد الصفقات... وحينئذ نستطيع أن نفهم مدى ما يعانيه الناس من الانزعاج عند الموت عندما يحضرهم في مكان جاف.

هجاء العالم

أما العمى، رواية جوزيه ساراماغو، فهناك من يؤكد أنها ليست رواية بالمعنى المعروف، بقدر ما هي قصيدة تهجو واقع ما بعد الحرب العالمية الثانية، هذا الكابوس الذي تحول فيه البشر الى مجرد دمى وربما روبوتات يمكن تسييرها آلياً، ان جازت التسمية، هنا يصبح للعمى معنى مجازي، لا يعني بالضرورة فقدان البصر، بل هو في الواقع فقدان البصيرة، وما يمكن تخيله من تشتيت الوجدان، وفقدان بوصلة الاتجاه في حتمية البحث عن الجوهر، جوهر الاشياء وأصلها. انها اشبه بتراجيديا تحويل الانسان الى مجرد كائن يتساءل عن تلبية حاجاته البيولوجية ليس الا، وهناك روايات عدة انتجت في القرن العشرين وتحاكي مثل هذه الفكرة، مثل شرف كاترينا بلوم الضائع لهاينرش بول الالماني، والقصر لكافكا.

العمى اذن، ليس اكثر من يوتوبيا تجري عكس اتجاه التاريخ، ففقدان البصر يحول العالم الى جدران صماء فارغة من أي معنى. على هذا الاساس يمكن النظر الى رواية الحب في زمن الكوليرا لجابرييل غارسيا ماركيز، التي تعتبر من اغزر الروايات التي تعج بالاحداث، لكنها تدور بشكل رئيسي حول قصة رجل وامرأة، منذ ان كانا في فترة المراهقة وحتى وصولها سن الشيخوخة، والرواية تصف ما اصبح يجري حولهما وقد تغير رأسا على عقب، في منطقة الكاريبي، حتى ذلك السرد الاخاذ الذي يصف التغيرات التقنية وتأثيراتها، على نهر مجدلينا العظيم، وتلك البيئة والطبيعة الجديدة في محيطه وحوضه.

الحب في زمن الكوليرا رواية حب بين اثنين، رواية تسرد احداثا حزينة، في مكان بائس، والكوليرا هنا كناية عن تلك المأساة، بل المرض الفاتك الذي يشبه الوحش الخرافي، في الكاريبي الذي يعيش في جو خانق من الفقر المدقع يصادر حواس الانسان، بابشع صورة يمكن تخيلها، حيث الجثث الملقاة في الشوارع، التي لا يستطيع احد ان يقترب منها، اما الاطباء فانهم ايضا ضحايا كماشة الموت الذي يترصدهم في الشوارع والأزقة.

تركيبة المجتمع

يمكننا أن نرصد كيف انفعل كبار الروائيين في مصر والوطن العربي بالأحداث الضخمة التي واكبت انتشار الأمراض الوبائية في حقب تاريخية بعينها ووظفوا هذا الموضوع أدبيا لتأكيد رؤاهم الفلسفية. وهنا يبدو الأديب المصري العالمي الراحل نجيب محفوظ في مقدمة الأدباء الذين اهتموا بانعكاسات انتشار الأوبئة على تركيبة المجتمع وتوظيف تلك الأحداث والتغيرات الاجتماعية المترتبة عليها في سياق أدبي كما هو الحال في روايته خان الخليلي التي مات فيها البطل الشاب فجأة إثر إصابته بالسل برغم كل ما كان يتمتع به من حيوية وتفاؤل وقصة حب جمعته بابنة الجيران الجدد. مات الأخ الأصغر تاركا أخاه الأكبر الشاهد على تلك القصة والذي كان جزءا خفيا منها في صراع مع ذاته ومع بقية شخصيات الرواية في محاولة لملء الفراغ الذي خلفه غياب تلك الشخصية المحورية المفاجئ إثر المرض الذي استشرى آنذاك.

كما مثلت رواية سعد مكاوي السائرون نياما نموذجا للمعالجة الاجتماعية التاريخية التي تستدعي العصر المملوكي وتغوص في خبايا صراعاته لتلقي الضوء على الحاضر، تمتد أحداث الرواية نحو ثلاثين عاما وقسمت بنيتها إلى ثلاثة أجزاء هي الطاووس والطاعون والطاحون وكانت نهاية الرواية لتفعيلها ذات دلالة رمزية في إشارة إلى حتمية ثورة الفلاحين على السلطة الملتزم المملوكي بعدما استعرض مكاوي ما شهدته مصر آنذاك من انتشار للأوبئة والقحط.

وعلى الصعيد العربي مثلت رواية المصابيح الزرق للروائي السوري الكبير حنا مينه عملا فارقا في مسيرة الرواية العربية، والسورية بخاصة، وكان لافتا أن يموت اثنان من أبطال الرواية بمرض السل.

ولا يمكن أن نتجاهل رواية اليوم السادس للكاتبة الفرنسية من أصل مصري أندريه شديد التي جسدت سينمائيا في فيلم أخرجه الراحل يوسف شاهين، حيث كان اليوم السادس هو عتبة الطفل الصغير نحو الحياة، بعد تجاوز مرض الكوليرا الذي أصاب الطفل وخبأته الجدة حتى لا يحتجز في المعزل الصحي ويموت.

وهناك كثير من الروايات التي تطرقت لتلك الأمراض والأوبئة في صورة إصابة مفاجئة لأحد أبطالها تغير مسار الرواية وفي أحيان أخرى تتم الإشارة إلى ضحايا تلك الأمراض للدلالة على حقبة تاريخية ما والإشارة إلى بعض سماتها وما خلفته من مرارة لدى بقية شخصيات الرواية كما هو الحال في شخصية الشيخ حسين في رواية زهر الليمون للروائي علاء الديب. تحدث الشيخ حسين عن حياته، ورحلته الطويلة مع النهر والصحراء، وفقدانه للزوجات والنخيل والأبناء جميعًا في وباء الكوليرا، ويصور كيف بقي وحيدًا، وكأن ذلك الحدث استشراف للوحدة التي سيعانيها بطل الرواية عبدالخالق بعد أن يفترق عن حبيبته منى.

من الملاحظ أن نجيب محفوظ رصد تفشي أمراض بعينها كالسل والطاعون في كثير من أعماله ومعالجته للأحداث بعمق يكسبها أبعادا جديدة، ففي هذا السياق يرى الناقد والروائي سيد الوكيل أن نجيب محفوظ قام بتوظيف الواقعة التاريخية الخاصة بانتشار مرض الطاعون في مصر في بداية القرن الثامن عشر الميلادي توظيفا أدبيا فلسفيا في روايته الحرافيش، وقد عمد إلى تحويل جانب من تلك الصورة الواقعية إلى أخرى فانتازية متخيلة حينما عاد بطل الرواية عاشور الناجي بعد سنوات من فراره إلى الخلاء مع أسرته هربا من وباء الطاعون ليجد الحي الذي كان يسكنه خاويا من البشر على الرغم من بقاء المنازل والأمتعة كما هي. تحمل أحداث الرواية نقدا موضوعيا لفكرة المدينة الفاضلة إذ إن محاولات الناجي ونسله من بعده لإقرار العدل على الأرض ورفع الظلم عن الضعفاء سرعان ما باءت بالفشل فور أن دبت الحياة مرة أخرى في الحي واكتظ به البشر.

يحدد د.حسن البنا عز الدين أستاذ الأدب العربي بجامعة الزقازيق السمات العامة التي تميز الروايات التي تناولت آثار انتشار الأوبئة، ومن أهمها اليوم السادس لاندريه شديد والطاعون للفرنسي الجزائري البير كامو والتي نال عنها جائزة نوبل، والوباء للروائي السوري هاني الراهب بأن تلك الأعمال الروائية تعتبر المكان هو البطل الرئيسي وعادة ما تدور أحداثها في المدينة.

وتتفق تلك النوعية من الروايات على رصدها لتأثير الوباء على علاقات الشخصيات الروائية بالمكان وفي ما بينها، كما يأتي قرار الهجرة أو الرحيل عن المكان كتيمة أساسية تسهم في إعادة تشكيل علاقات جديدة وقد تنتج تفسخا قي علاقات كانت قائمة من قبل بين الشخصيات الروائية وتسهم في بناء علاقات إنسانية جديدة يقوم عليها البناء الروائي.

ويضيف د.عز الدين: مرض الطاعون من أخطر الأمراض من حيث تأثيره الاجتماعي إذ عادة ما يعقب انتشاره الوبائي إعادة تشكيل لبنية المجتمع الذي انعكس في مؤلفات كثير من الروائيين العرب مع الأخذ في الاعتبار أن الأدب لا يستهدف تسجيل الواقع وإنما استلهامه فحسب للبناء عليه في إطار تخيلي حتى وإن اعتمد على بعض الأحداث الواقعية.

الشعر في المعركة

ربما كان من قبيل المصادفة أن تأتي نقطة انطلاق تيار الشعر الحر على يدي الشاعرة العراقية نازك الملائكة عام 1947 في قصيدتها كوليرا استجابة لروح الشعر التي تمردت داخلها على الأوزان والقوالب المعتمدة سلفا لتعبر عن ذلك الوباء الذي حصد الحياة في مصر آنذاك. وقد فسرت نازك اتجاهها نحو شعر التفعيلة بأنه كان استجابة تلقائية إذ استلهمت في قصيدتها وقع أرجل الخيل التي تجر عربات الموتى من ضحايا الوباء الذي انتشر في الريف المصري.

وكان مدهشا أن تتسبب تلك القصيدة في معركة لم تحسم إلى اليوم حول ريادة الشعر الحر، إذ اعتبر بعض النقاد أن الأهم مما قدمته نازك في قصيدة الكوليرا هو التغيير الفني، الذي لم يحدث إلا بعد سنة من الكوليرا أي في عام 1948 في قصائد مثل في السوق القديم للسياب، والخيط المشدود لشجرة السرو والأفعوان لنازك الملائكة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"