الجمهور يغادر المقاعد الحجرية

02:50 صباحا
قراءة 5 دقائق
 القاهرة: مدحت صفوت

الحديث عن المسرح في العالم العربي، ليس منفصلاً عن الحديث عن المسرح بصفة عامة، وفي أغلب أرجاء العالم، فالأوضاع متشابكة ومعقدة على نحو عالمي، وتكاد الأزمة تكون واحدة، وليست بعيدة عن بعضها.

ويتطلب الوصول بالمسرح العربي إلى العالمية، أو الجمهور غير الناطق بالعربية، الوقوف أمام أزمات المسرح بصفة عامة، والعربي على نحو خاص، كذلك مستقبل فنّ المسرح وآليات العرض في ظل عالم تموج فيه التطورات التكنولوجية وتتلاحق ساعة بعد أخرى.

بداية، يمكن القول إن المسرح هو أكثر وسائل رواية الحكايات والقصص الدرامية تعبيراً، وعلى الرغم من قدمه يعمل باستمرار على التكيف مع أوقات التحول والتبدل سواء المعرفي أو الاجتماعي التي مرّ بها تاريخ الإنسانية، وعلى الرغم من توافر «المشاهدة الحية» في غرف معيشة الجماهير اليوم لا تزال فرص المسرح العالمي لا العربي فحسب متوفرة وقائمة؛ لتحقيق خطوات ملموسة في سبيل الازدهار.

ظروف قاسية

إذاً الحديث عن أزمات المسرح ليست سمة عربية فقط، فمنذ سنوات قليلة، كانت الأوساط الثقافية الألمانية تعيش صراعاً قاسياً؛ من أجل بقاء المسرح على قيد الحياة في زمن الأزمة الاقتصادية العالمية التي تسببت في حدوث عجز كبير في ميزانيات الدول، خاصة بعد أزمة 2007 الشهيرة، الأمر الذي ترك أثره العميق في قطاع الثقافة، وفي ظل اعتماد المسارح الجادة اعتماداً كبيراً على دعم الدولة.

وفي دولة تتسم بقوة الاقتصاد مثل ألمانيا لم يعد الحديث عن «احتضار المسرح» يبدو غريباً، فالأزمات التي يتعرض لها «أبو الفنون» ليست هينة ولا بسيطة، وهي أزمات لها جذورها التاريخية والمعرفية والتنافسية مع الفنون الأخرى، ومن ثم لا عيب أن نكشف حال المسرح العربي الراهن، وفي ظل ما تمر به أغلب الدول العربية من أزمات سياسية واقتصادية، مشددين على أنه لا سبيل للنهضة الفنية إلا بالمكاشفة.

مع ظهور أفلام السينما في أوائل القرن العشرين، شعرت العديد من فرق المسرح بالتهديد. وفي البداية، واجه ممثلو المسرح سينما صامتة بدت ميتة في عيونهم وغير مبهرة، ومع ذلك كان هواة المسرح قلقين عندما وصل الصوت إلى السينما عام 1927، لتنتشر دور العرض في جميع أنحاء العالم، وبتصميمات تكاد تكون واحدة.

مع مرور الوقت، انتقلت الأفلام من المسرح إلى المنازل، لم يعد يتعين على الناس الخروج للمشاهدة أو الفرجة؛ لكن بدلاً من ذلك يمكنهم البقاء في راحة منازلهم.

في الوقت الحاضر، يجري تشغيل الأفلام على القنوات التلفزيونية، من خلال وحدات التحكم، وعلى خدمات البث، ويمكن للجمهور معايشة تجربة المشاهدة الخاصة بهم داخل منازلهم، سواء كانوا يريدون المشاهدة بمفردهم أو مع الأصدقاء، مع مقرمشات التسلية أو من دونها، في ظل تشغيل الأضواء أو مع إيقافها. في هذا العصر الحديث، الأمر كله أصبح بيد الجمهور ووحده.

مهمة ثقيلة

إذاً الوصول إلى الجمهور، أياً كانت لغته، باتت مهمة ثقيلة لصنّاع المسرح في العالم العربي؛ إذ لم تعد الوسيلة الوحيدة هي الإقناع الدرامي، إنما تتداخل معها مهمة «الإبهار» خاصة الإبهار البصري، مما يتطلب من القائمين على صناعة المسرح، التعامل مع التقنيات الحديثة، والاستفادة من أدوات الإنتاج السينمائي والتلفزيوني.

هنا، يبدو المسرح في مأزق يتورط فيه تحت سلطة كل من التلفزيون والسينما، فتأثيراتهما الواضحة على الدراما المسرحية من خلال كل عناصر الإبهار المعتمد على التشكيلات البصرية والمؤثرات الصوتية والمناظر الجذابة والموسيقى ذات الرنين الصاخب، وكل ما يجعل السينما والتلفزيون في موقف منافسة حقيقية لأبي الفنون، وهو ما جعل الجمهور ينقسم إلى فئتين؛ الأولى تناصر هذا التأثر وترغب في أن يجدد المسرح صورته التقليدية، بما أن هذه التقانات الجديدة متوفرة؛ بل ناجعة التأثير في وسائل إعلامية أخرى كالتلفزيون والسينما، فلا ضير أن ينهل منها المسرح على سبيل التطوير والتجديد.

الفئة الثانية تنتصر لإبقاء المسرح على صورته المعروفة عالمياً، التي أثرت فيها على ملايين الجماهير منذ نشأة هذا الفن، وبذلك فنجاح المسرح ونجاعته ليسا مرتبطين بالضرورة بشكلانية أرخت ظلالها عن طريق هذه التكنودرامات الجديدة كالسينما والتلفزيون؛ بل لكل فنّ خصوصيته التي تطبعه وتجعله متفرداً، على حد رؤية الفريق الثاني.

لكنّ، علينا أن نعي أن التطور سُنّة كونية، وطالما نستهدف الوصول إلى الجماهير عربية وغير عربية، فمثلما نسعى بجدية من أجل تقديم مادة فنية مناسبة؛ يتوجب على صنّاع الأعمال المسرحية تلمس الطرائق المناسبة والمؤثرة، ودراسة الأشكال التي باتت تفضلها الجماهير.

علاوة على ذلك، لا ننسى أن الجمهور الآن يمكنه الاستمتاع بحكايات ملحمية من المقاعد المريحة في بيئات، يمكن التحكم في درجة حرارتها، وهي قفزات وحدود من المقاعد الحجرية المستخدمة في اليونان القديمة، كما ينشئ كثير من الجمهور مسارحهم المنزلية الخاصة في ظل توافر عوامل الراحة وعناصر المشاهدة الممتعة.

وفي الوقت الذي يهتم فيه صنّاع الدراما بالشكل المسرحي، لا يجوز أن يغفلوا البناء الأصلي للنصّ المتين والقوي وألا يديروا ظهورهم لكل ما تعلموه من إتقان العرض المسرحي المتكامل وإتقان الكتابة المسرحية، فالقضية لا تتوقف على الشكل فحسب، أو الإبهار الذي يعتمد على المؤثرات البصرية والسمعية، فلا تزال هناك قيمة للكلمة الهادفة والفكر العميق والخطاب الصدامي الذي عُرف به المسرح منذ بداياته الأولى.

وعلى الرغم من أن التلفزيون هو الآن الطريقة الأبرز التي يستهلك بها الجمهورُ القصصَ، فإن المسرح لا يزال محافظًا على شعبيته، وغالبًا ما تكون الأعمال الفنية مصدر إلهام لبعضها البعض، أو الاقتراض من بعضها البعض أو إنشاء نسخة خاصة بها من الحكايات ذاتها، مما يصب في النهاية بمصلحة الجمهور ومتعته، لتنتشر الفنون عامة سواء من خلال المسرح أو التلفزيون أو خدمات بث الإنترنت.

الحرية والكفاءة

الوصول إلى الجماهير المحلية والعالمية هدف لا يمكن تحقيقه من دون مناخ ديمقراطي، تُمارس فيه العملية المسرحية التي تبدو لعبة ديمقراطية في جوهرها، وآلية من آليات التغيير أو بتعبير الناشط المسرحي أوجستو بوال «المسرح شكل من أشكال المعرفة، ويجب أن يكون وسيلة لتغيير المجتمع، لأنه يساعدنا في بناء مستقبلنا بدلًا من مجرد انتظاره».

مؤكد أن الحرية والكفاءة شرطان لنهضة أي فنّ، بل سبب التقدم في أي مجال فني أو غير فني، ويمكن الإشارة إليهما بوصفهما شفاءً لكل أمراض المسرح، مع وجوب التخلص من أشكال الرقابة التي تقيد العملية الإبداعية وتعرقلها بيروقراطية أكثر من أن تعمل على تنظيمها، وهي تتنوع في أشكالها بين رقابة على المصنفات، وثانية رسمية وثالثة غير معلنة يمارسها مديرو المسارح.

إن أي حديث عن المسرح عامة، والمسرح العربي خاصة، لهو في حقيقة الأمر حديث عن الحرية، فكيف ينجح مسرح والرقباء يقفون عند عتبته؟ خاصة أولئك الذين أوكلت لهم مهمة الإدارة. أيضا تغليب الولاء على الكفاءة، فأصدقاء القائمين على الإدارة يشتغلون كل عام والآخرون يجلسون في منازلهم لسنوات تناوشهم الحسرة مهما كانت كفاءتهم، مما ينتج مسرحًا مدجنًا وخانعًا وهو نتيجة طبيعية لكل هذه الممارسات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"