جو فيج يؤرخ لمبدعي العصر في «استوديو الفنان»

00:37 صباحا
قراءة 5 دقائق
ابتسام عبد العزيز

حين نتجول في صالة عرض أو في متحف فني، وحين نرى لوحة فنية كبيرة أو حتى منحوته ضخمة، فإنه من السهل جداً أن ننسى كيف أنجز هذا العمل؟، وكيف هي المراحل الشاقة التي تتبعها صاحب هذا العمل حتى خرج بالصورة التي هو عليها؟، فالمنتج النهائي للعمل يتطلب وقفات من الإبداع والوحي والتأمل، ناهيك عن تلك التفاصيل الكثيرة والمجهود النفسي والجسدي الذي بذله الفنان.
هذه التفاصيل، كانت بمثابة المحرك الأول للفنان «جو فيج» والشرارة الأولى التي أوقدت مسيرة حياته الفنية، التي اكتشف من خلالها الحياة العملية لزملائه من الفنانين المحترفين. لقد وثق فيج وبدقة كل ذلك في منتجه الفني، ففي داخل استوديو الفنان، ترجم فيج مشاهدات وتجارب الفنانين، وحولها إلى منتج متجسد في أعمال فنية، سواء من خلال اللوحات أو المنحوتات أو الرسومات، التي مثلت استوديوهات لبعض فناني الجيل المعاصر، ومنهم: ليوناردو درو، كيت قليمور، روكسي باني، ويل ريمان ولوري سيمونس.. وغيرهم.
في عام 1990، منح جو فكرة استوديو الفنان الكثير من وقته، فاحتضن أعمالاً كثيرة، لعبت دوراً في تكريسه كفنان بصري معروف، ساعد على جذب المشاهدين لزيارة الاستوديو وهذا النضوج في أعمال جو فيج يظهر جلياً منذ عام 2000 حينما بدأ في التحضير لنيل شهادة الماجستير من مدرسة الفنون البصرية، بنيويورك.. فالحوار والتجاذب المتبادل بين المنحوتات الفنية، والصور الفوتوغرافية واللوحات الفنية، منح أعماله زخماً من ناحية التفاعل والارتباط الوثيق بهذا الاستوديو، كان هدف جو الأساسي، توثيق ممارسات الفنان التي هي جزء من حياته يوماً بيوم، غير أن الأمر المهم بالنسبة إليه، ليس فقط أن يكون المنتج الفني فريداً ويتسم بالتركيز المكثف، إنما الحوار والمناقشة وتبادل الحوار مع الوسط الفني.حينما تخرج جو فيج من مدرسة الفنون البصرية بنيويورك، بدأ بزيارات استوديوهات الفنانين، يقول «فكرت أنني حينما أزور استوديوهات الفنانين التجريديين الانطباعيين، سوف أقوم بإعادة إنتاج الاستوديو ونسخ جزء من أعمالهم، وبعدها ربما سأكون رساماً تجريدياً» ويضيف «أول من زرتهم كان الفنان «ميشيل قولدبرج» وهو من الجيل الثاني من رسامي التجريد، كان الاستوديو الخاص به في بداية الأمر ينتمي للفنان «مارك روثكو»، وجدت حينها أن المكان كان مليئاً بالقصص، خرجت يومها وتمنيت لو كنت قد سجلت ووثقت كل تلك القصص».

كان ذلك اللقاء هو السبب الذي قاد جو فيج إلى نشر كتابه في عام 2009، «داخل استوديو الرسام»، والذي أسس مسيرته من خلال إعادة بناء اللوحات والمنحوتات التي لها صلة باستوديو الرسام.
أبدى جو من خلال زياراته لكثير من الفنانين أهمية كبيرة لتساؤلات المشاهد، من أهم تلك التساؤلات: ما الذي يجعل من استوديو الفنان استوديو؟، وهل يكفي أن نضع الفنان في غرفة لكي تكون استوديو؟ وغيرها، مثل تلك الأسئلة جعلت أعمال جو فيج جزءاً مهماً من حياته في الاستوديو الخاص به، والتي قد يعيشها ويختبرها الكثيرون.
بالنظر إلى أعمال جو نرى أنه جعل من الفنانين موضوعاً لأعماله، وأصبحت الاستوديوهات الخاصة بهم بمثابة «باليته» لجو يمزج من خلالها تلك الذكريات والأحداث والمشاهدات، وما يتخللها من مشاعر وإيحاءات وأفكار، وأصبحت بدورها صورة من صور الإلهام، وهو الذي يصفها باعتبارها انبثقت من تحليله الرومانسي لمدى أهمية هذه الاستوديوهات، فهي ليست كالمتاحف، يمكن الدخول إليها في أي وقت، وأن احتمالية رؤية الفنان وهو يعمل في الاستوديو الخاص به هي من الأمور غير المحرمة أو غير المستحبة.
يطرح جو استوديو الفنان في أعماله، من خلال عدة اعتبارات تصميمية وتخطيطية كما ركز على 15 سؤالاً، يتعلق بالهندسة العمرانية والتصميم الداخلي للاستوديو، مثلاً: هل قمت بتخطيط وتصميم هندسة المكان؟، أم أنه تطور بشكل تلقائي ومن خلال الصدفة؟، وكانت أغلب الأجوبة تؤكد أن الاستوديو تطور بشكل تلقائي من دون تخطيط مسبق.
أنتج جو أعمالاً عديدة في مشروعه بين اللوحات، والطباعة الحريرية، المنحوتات، ونماذج الفنانين الخاصة بهم، بما في ذلك عدة دمى تمثل أولئك الفنانين وهم يعملون في تأمل على لوحات الكانفاس، مع مشاهد ذات خصوصية، كطاولات العمل التي تحمل جداول الأعمال اليومية، كما أن المنحوتات والمجسمات تحتوي على معلومات كثيرة وأسرار مهمة عن حياة الفنانين، بعض المجسمات تركها جو فارغة ليطرح من خلالها المشاهد أسئلته عن سبب ذلك الفراغ، وهو بدوره يقود إلى السؤال عن جو نفسه وعن طريقة عمله؟.
بعض الأعمال تم تحويلها إلى مجسمات ثلاثية الأبعاد، مع تفاصيل واشتغالات على كل «باليته» وما تحتويه من ألوان خاصة بكل فنان، تحمل جانباً من شخصيته وبصمته والأدوات التي استخدمها في الاستوديو من فرش، ومواد تنظيف وغيرها.
الأمر بالنسبة لجو يتجاوز التوثيق الشخصي والتسجيلي، وهو الذي يحيل على بدايات هذا المشروع، حيث يؤكد جو على المرحلة التي كان يعمل في مرسمه الخاص بالمنزل، وهو عبارة عن غرفه المعيشة، وكان حينذاك يحسد الفنانين الذين يشتغلون في استوديوهات بمساحه كبيرة، وإضاءة طبيعية جيدة، وقد أعجب النقاد والمقيمون ومقتنو الأعمال الفنية به في تلك الفترة التي كانت بداية انطلاقة مشروعه من خلال «استوديو الفنان».
يصف جو أعماله بالنماذج التي استغرقت في إنشائها نحو 4 إلى 8 أسابيع، وأغلبها بمقاس لا يتجاوز 23 إنشاً، ونحو 95 في المئة من تجهيزات العمل تعتبر عناصر عضوية في الأصل قام بالتلاعب بها بشكل مقصود كدمى.
لجو طريقة خاصة في عمله فهو يقضي نحو ساعه ونصف محاوراً الفنان في الاستوديو الخاص به، قبل أن يبدأ بمرحلة التوثيق وأخذ الصور، ومن ثم تأتي مرحلة مراقبة الفنان أثناء إنجاز الأعمال وما يتخللها من خطوات وعمليات تصاحب ذلك، ثم بعدها يحدد مقاسات الاستوديو، ويقول «إن أكثر الفنانين جذباً لي هم الأكثر تركيزاً في أعمالهم».
جاءت أعمال جو في معرضه الأخير بغاليري (كريستين تيرني) بنيويورك، بمثابة احتفالية، ففي منحوتاته الخاصة بمرسم الفنانة كيت قيلمور، نرى أن فيج يعرض سلماً يقود إلى ما يشبه الجدار أو اللوح أصفر اللون، وحوله نرى أوراقاً مبعثرة على الأرض، وفي نظرة أكثر عمقاً يلتقط المشاهد تفاصيل عبارة عن دوائر كبيرة، وهناك تفاصيل تعكس هوية الفنانة والاستوديو الخاص بها.
في واحدة من الأعمال التي تلفت الانتباه والتي تعرض جانباً من استوديو الفنانة (جودي بفاف)، كان ذلك المطبخ، يقول جو: «كان فضاء المكان جميلاً، يشبه إلى حد كبير أعمال الفنانة، لذلك قمت بإنتاج لوحة فنية تضمنت النافذة ذات الزوايا المجزأة، السجادة المنقوشة، الطاولة، الكراسي، القدور والكلب الأسود الطويل الذي يشمشم الأرضية،»المطبخ «بالنسبة إلي أقرب ما يكون إلى شخصية الفنانة».
الأسئلة الكثيرة التي تطرح حول جو وأعماله تجعل منه فناناً مفاهيمياً ذكياً، وفي ذات الوقت واقعياً، حرفياً دقيقاً إلى أقصى حد، فكاهياً، وأيضاً مؤرخاً لفناني عصره، فقد أوجد لنفسه مكاناًَ مغايراً ينتج من خلاله أعمالاً ذات قيمة فنية كبيرة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"