القلم لا يتقاعد

01:54 صباحا
قراءة 6 دقائق

 استطلاع: نجاة الفارس

لماذا يهجر البعض الكتابة أو الإبداع، هل الأسباب تعود لضغط الحياة، أم لنضوب الأفكار، أم لأسباب أخرى؟ يؤكد عدد من الكتاب والنقاد أن الإنسان يمر بأطوار متعددة في حياته، والكاتب، أو المبدع لا يختلف عن بقية البشر في هذا، فالإنسان في مطلع شبابه يكون مندفعاً في عواطفه، متحمساً لأفكاره، ولهذا يغزر إنتاج الكاتب في هذه الفترة، ثم تمر به أطوار أخرى، تنضج فيها أفكاره، وتهدأ فيها فورته. والكتابة بالنسبة للإنسان مثل الماء والهواء، لا يستطيع أن يتحرر منها، وهي حالة نفسية، تمثل هاجساً، وهمّاً لا يمكن الابتعاد عنه، ربما يترك البعض الكتابة بسبب ظروف نفسية، أو وظيفية، وقد يكون السبب الأكبر في ذلك هو صيام المتلقي عن الكتاب.

وهناك سبب مهم وجوهري، هو ضعف العائد المادي من الكتابة، فالكاتب إنسان له أسرة ومتطلبات معيشية، كما أن لضغوط الحياة النفسية الأثر الكبير في عدم اندفاع وحماسة الكاتب لكتابة جديدة، وجعله متردداً نوعاً ما، وأوضح الكتّاب في هذا الاستطلاع أن الأديب الحقيقي لا يعتزل أبداً، فستبقى قريحته قادرة دائماً وأبداً على إنتاج ما يدهش، باثًّا في مجتمعه كل تصوراته عن قيم الحق، والخير، والجمال، وقديماً عبروا عن ديمومة فعل الكتابة لدى المشتغلين بها، بقولهم: «من المحبرة إلى المقبرة»، فالمبدع الحق لا يتقاعد.

أطوار الحياة

يقول الدكتور عبد الحكيم الزبيدي: ربما ينشغل الكاتب بتوفير متطلبات الحياة له ولأسرته فيؤثر هذا في إبداعه، وربما يؤثر فيه المحيط الذي يعيش فيه، فالكاتب الذي لا يجد الحرية في التعبير عن أفكاره، يقل إنتاجه الأدبي، وربما يضمحل، ويمكن أن يعود السبب أيضاً إلى نضوب الأفكار، فالأديب إذا تقدمت به السن فربما يتوقف إذا لم يجد لديه جديداً يقدمه، أو إذا كان إنتاجه الجديد ليس في جودة إنتاجه السابق، وهذا ما حدث مثلاً للروائي المعروف الطيب صالح، إذ لم يستطع أن يكتب بعد روايته الشهيرة (موسم الهجرة إلى الشمال) رواية في مستواها فتوقف عن كتابة الرواية، ومعظم الشعراء العباقرة إما ماتوا في سن مبكرة، وإما نظموا أفضل قصائدهم في شبابهم، فمثلاً طرفة بن العبد، والشابي، ماتا في سن الخامسة والعشرين، وأبو تمام، وأمل دنقل ماتا في سن الأربعين، والمتنبي وشكسبير ماتا وهما في أوائل الخمسينات من العمر، وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم ماتا في بداية سن الستين، وهكذا.

حالة نفسية وتاريخية

يؤكد الروائي علي أبو الريش أن الكتابة بالنسبة للإنسان مثل الماء والهواء، لا يستطيع أن يتحرر منها، والكتابة حالة نفسية وتاريخية للإنسان، تمثل هاجساً، وهمّاً لا يمكن الابتعاد عنه، وربما يترك الكتابة البعض بسبب ظروف نفسية، أو وظيفية، وهناك عدد من الحالات موجودة بالساحة الثقافية محليا وعربيا، وقد يترك البعض الكتابة عدة سنوات، ثم يعود إليها، فالعلاقة مع الكتابة عندما تكون هاجساً للإنسان، كالعلاقة بين الحبيب والمحبوبة مهما تقاذفتها التيارات لا يمكن التخلي عنها إلا إذا كانت علاقة ضعيفة من الأساس، فإنها ستنتهي بلا شك أمام أصغر مشاحنة.

هجران

تقول الدكتورة مريم الهاشمي: حين نأتي ونلقي الضوء على العزوف والصيام عن الكتابة، قد يكون السبب الأكبر في ذلك هو صيام المتلقي عن الكتاب، فالكتابة ممارسات أيديولوجية وفكرية يتبعها الكاتب في عمله الإبداعي، وهذا الوضوح في الطريق الفكري والكتابي قد لا يتبين عند البعض، وعدم وضوح الرؤية منطقياً تؤثر سلباً في النتاج الأدبي، ما قد يؤدي إلى العزوف عن الكتابة، وهي كذلك لذة قصوى يستلذ بها الكاتب مع ما يمارس من العملية الكتابية، فإن ذهبت تلك اللذة ذهبت الكتابة، وقد يجد البعض الآخر الكتابة كصراع، وإن وجد الصراع وجد البحث المستمر؛ وبالتالي استمرارية العملية الكتابية في ذلك لمحاولة الوصول للتعبير الحر، وهو ما لا يمكن الوصول إليه في الممارسة الإبداعية، ولا يمكننا أن نغفل في الوقت نفسه عن أن الكاتب والمبدع هو إنسان مفرط الحساسية، مرهف الحس أكثر من الإنسان العادي، وقد تحول مطبّات الحياة بينه وبين ما يريد من هذه الممارسة الإبداعية، وأخيراً فالعملية الكتابية هي عملية زئبقية تتأثر وتتحول في ما تتأثر به الممارسات الحياتية الأخرى.

صناعة

ويؤكد الدكتور شعبان أحمد بدير، أن الكتابة هي حليب الأفكار الذي تدرّه المخيلة الناضجة والمثقفة، وهي قطب الأدب، وملاك الحكمة، ولسان ناطق بالفصل، وميزان يدل على رجاحة العقل، ومن لم يكتب كما يقول سعيد بن العاص فيمينه يسرى، ولا يمكن لكاتب أدمن الكتابة أن يكف قلمه عنها إلا لأسباب، ومن ثم أرى أن انصراف البعض عن الكتابة في الآونة الأخيرة له أسباب متعددة ومترابطة، أولها عدم تمكنهم من صناعة الكتابة، فالكتابة صناعة، لها أدواتها ومهاراتها المكتسبة، والكاتب المحترف هو المالك لأدواته المتمكن منها، الذي نبتت في عقله ووجدانه بذور الموهبة فاستطاع أن ينمّيها ويصقلها، فلا يعقل أن يكتب الكاتب بأدوات هشة، أو ضعيفة، فيقع في أخطاء لغوية، ونحوية، وأسلوبية، وإملائية، وفنية، قد تغير معنى ما كتب، أو تجعل إنتاجه محط انتقاد، وسخرية، وتندّر القراء، ما يصرفهم عنه، وعن إنتاجه، يقول سلام خياط في كتابه «صناعة الكتابة»: «للكاتب بذرة الموهبة وجمهرة الكلمات وقوافل الكتب والفهارس والمعاجم والقواميس، للكاتب الأمثال والحكم والموروث الشعبي ولحظات التأمل وساعات البحث، وتلك الوخزة المقدسة التي لا تهدأ إلا بإبداع، ويسمونها حرقة الروح»، ويطلق عليها ابن الأثير «الطبع القابل لمعرفة التأليف»، ولا يتحقق هذا التمكن إلا بالقراءة والاطلاع الدائم والمستمر.

وهذا يؤدي بنا إلى السبب الثاني، وهو انصراف الكثير من الكتاب عن القراءة والتثقيف في مجال كتابتهم، ظانين أن الكتابة موهبة فحسب، بينما هي كما يعرَّفها القلقشندي: «صناعة روحانية تظهر بآلة جثمانية»، والكاتب المبدع الذي يريد لأدبه الخلود هو الذي يقرأ ويغوص في بطون الكتب ملتقطاً لآلئها، ودررها، فالقراءة هي منتجة الفكرة، والحرارة التي تلهب وجدان الكاتب نحو الإبداع، ونضرب المثل هنا بالأديب الروسي تولستوي، فحتى يكتب روايته «الحرب والسلام» استغرق ست سنوات في قراءة المذكرات، والتاريخ، والسير الذاتية، وعلى رأسها مذكراته الشخصية التي كتبها أثناء مشاركته في حرب القرم، ثم قرأ العديد من الكتب الأخرى، مثل كتاب «العالم إرادة وتصور» لشوبنهاور، وهذا يؤدي بنا إلى السبب الثالث، وهو الاستعجال في قطف ثمرة الكتابة، رغبة في الشهرة وحب الظهور على مواقع التواصل الاجتماعي، فأصبحنا نرى القصائد اليومية لبعض الشعراء، والقصص، والخواطر السريعة كالوجبات الجاهزة لبعض الكتّاب، استجابة لسرعة الحياة وإثبات الوجود.

جموح الخيال

الكاتبة والشاعرة هنادي المنصوري، تقول: نمط الحياة الذي يعيشه الكتّاب قد تغيّر كثيراً، كما أن لضغوط الحياة النفسية الأثر الكبير في عدم اندفاع وحماسة الكاتب لكتابة جديدة، وجعله متردداً نوعاً ما، فالكلمات تقبع في الصدر، والذاكرة تحتضن كثيراً من الأفكار لنصوص أدبية، وقصص؛ ولكن هناك ما يمنعنا من الانسياب في البوح والكتابة كالسابق، وغالباً ما أصبح الكاتب يقضي وقته سريعاً أثناء تصفحّه لبرامج الأجهزة الإلكترونية الحديثة، فينسى متى، وماذا سيكتب، ولربما خلو حياة الكاتب من مصادر الإلهام سبب أساسي في نضوب أفكاره، لقد شاهدت في مواقع أجنبية وجود جهات تأخذ الكتّاب والرسامين إلى مواقع تاريخية وأماكن ذات طبيعة خلابة لإثراء قريحتهم الكتابية ومخيلاتهم، وإيجاد مصادر جميلة تلهمهم الكثير من الأعمال الفنية البديعة والكتابة الابداعية، وكم أتمنى لو تتبنى إحدى الجهات الثقافية المسؤولة مثل هذه التجربة المميزة، لإثراء ودفع جموح المشاركين فيها للإبداع والانطلاق في الكتابة والفن.. فلكي نكتب يجب أن نخالط البشر، ونزور أماكن جديدة، ونستمع ونشاهد ما يكون مصدر إلهامنا في الكتابة الإبداعية والعمل الفني، فالإبداع يقبع في فكر كل أديب وفنان، ولكن بحاجة إلى من يجعل هذا الخيل يجمح مرة أخرى.

هموم وأشواق

المترجم الدكتور الفارس علي، يقول الأديب الحقيقي لا يعتزل أبداً، فستبقى قريحته قادرة دائماً وأبداً على إنتاج ما يدهش باثًّا في مجتمعه كل تصوراته عن قيم الحق والخير والجمال، وقديماً عبروا عن ديمومة فعل الكتابة لدى المشتغلين بها، بقولهم: «من المحبرة إلى المقبرة»، المبدع الحق لا يتقاعد، ولا يعتزل، والكتابة له بلسم وعلاج، وغني عن البيان أنّ أيّ نصّ أدبيّ يمرّ بعدّة مراحل قبل أن يصير إلى أيدي قرائه، بدءاً من انبجاس الفكرة أعماق صاحبها وخياله، ومروراً بعملية الكتابة، التي هي عملية شديدة التعقيد، وانتهاء بالنشر، ثمّ ما يتبع ذلك من قراءة وجدل حول المكتوب، وكلّ مرحلة من هذه المراحل تحمل في طيّاتها همومها، وأشواقها، في الوقت نفسه، ومن شأنها إبقاء الأديب متأهّباً لأيّ مستجدّ قد يداهمه، أو ينتابه، بحيث يصوغ عالمه الإبداعيّ الخاصّ بالتوازي مع عالمه الواقعي، بهذا المعنى فإن الكتابة تهب المبدع الحق حياة تموج بمعاني متجددة، وتبقي لديه جذوة الأمل متّقدة ليعمل على نصّه، يجاهد الصعاب ويتحدّى المشقّات ويقاوم مشاعر الإحباط واليأس التي قد تغافله، ويبقى منشغلاً بنصّه من دون أن يفسح مجالاً لفكرة الاعتزال كي تحاصره أو تُصيبه بالاكتئاب.

ويتابع أن نماذج الذين صمدوا أمام فعل الكتابة حتى آخر رمق في هذه الحياة كثيرون، فقد ظل نجيب محفوظ يواصل حرفة الكتابة، حتى بعد أن أصيبت يده في حادثة الاعتداء الأثيمة من قبل بعض المتنطعين، فلم يحمله ذلك على هجران قلمه، بل جعل يملي ما تجود به قريحته، وصدرت له إبان ذلك أعمال مجيدة من أفضل إنتاجه الأدبي؛ أشهرها أصداء السيرة الذاتية، وأحلام فترة النقاهة اللذان يحملان خلاصة فلسفته الكونية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"