زياد عبدالله: “بر دبي” بانوراما توثيقية عن البشر والأحلام

مساحة من الحكايات والعلاقات الاجتماعية المعقدة
01:57 صباحا
قراءة 7 دقائق

رواية المدن، هي ظاهرة معاصرة في الفن الروائي السردي العربي، وبقدر ما يشتمل عليه هذا النوع من الكتابة من مخاطر لجهة تكثيف بنية السرد وتوثيق الأحداث والشخصيات، فان هناك روايات قد نجحت في اختراق وتسجيل اللحظة القصصية والقبض عليها، وهنا تجيء رواية بر دبي للكاتب زياد عبدالله الصادرة مؤخرا عن دار المدى للثقافة والنشر في دمشق لتشكل نموذجا لتوثيق حيوات البشر و احلامهم وخيباتهم وايضا حكاياتهم، لترتيب علاقات اجتماعية تتناغم خصوصيتها مع خصوصية المكان الذي تتواجد فيه.

رواية عبدالله هي رواية عالمية، بقدر ما فيها من بوح لشخصيات وجنسيات مختلفة، عالمية بمقدار ما تتضمنه من هذا التزاحم البشري في مدينة صاعدة بقوة الصاروخ نحو المدنية والتحرر، ولأنها كذلك فإنها تطرح العديد من الاسئلة ذات العلاقة بالتكنيك الفني الذي اعتمدته هذه الرواية، وفيما اذا كان هذا التكنيك طارئا، او مندغما وبنية السرد، وتصاعد الحبكة الدرامية بكل زخمها وتدرجها، ومع ما يتصالح مع كونها رواية خاصة، عن مدينة خاصة استدعت مستويات عدة من الكتابة والمونولوجات كما استدعت طاقة من التخييل، الذي يرصد الواقع بكل ما يحمله من غرابة وتنوع.

في ما يلي حوار مع الروائي زياد عبدالله

رواية بر دبي هي رواية عن الأشخاص الذين يعانون العزلة، التوتر والاغتراب وايضا الاحلام التي برسم التحقق.. الخ، في مدينة دبي على وجه الخصوص، برأيك هل تندرج هذه الرواية في اطار التأريخ لمدينة دبي الحديثة، وهل تعتقد انك اطللت على بانوراما توثيقية شاملة لهذه المدينة؟

أميل لكلمة توثيق كون الرواية فعلاً توثيقاً للبشر وحيواتهم وأحلامهم وخيباتهم، وبالتأكيد حكاياتهم، وعليه فإن بر دبي تطمح لإبعاد الصفة التجريدية للتأريخ، ومقاربة ما هو من لحم ودم، فالأبراج الزجاجية الشاهقة والطرق السريعة والنمو المدهش لدبي، تجعلها تبدو من بعيد مساحة مجردة خاضعة لاحصائيات وحركة الأسهم ومعدلات النمو، بينما تأتي الرواية لتضيء حياة قاطن/قاطنة تلك الأبراج، والجالس/الجالسة خلف المقود، مع تقديم حياة مزدوجة في الغالب تهيمن على الشخصيات بين بلد المولد ودبي التي تشكل برا ما للشخصيات، مهبطاً اضطراريا أو دائماً.

وفي السياق التوثيقي نفسه فإن كون دبي سوق عمل ل 200 جنسية، يجعل منها مساحة للحكايات، لعلاقات انتاجية يترتب عليها علاقات اجتماعية تتناغم خصوصيتها مع خصوصية المكان، وليس مجرد مكان تلتقي فيه كل هذه الجنسيات لكسب رزقها فقط لا غير. بهذا المعنى يمكنني اعتبار بر دبي بانوراما توثيقية لا تدعي الشمولية أبداً بقدر ما تدعي محاولتها الوفاء للحكايات والشخصيات والمصائر التي تقدمها.

اعتمدت في روايتك على بنية سردية جديدة فيما تعارفنا عليه في نسق الروايات العربية حتى المعاصرة منها، إلى أي مدى تتفق مع هذه النظرة؟

اتفق كثيرا مع هذا الرأي، واجابتي عن السؤال لها أن تكون على ثلاثة مستويات:

المستوى الأول شخصي وإبداعي بحت يتعلق بقتل الرتابة وحرصي على لذة أن تكون الشخصيات التي أكتبها وأعيش معها قادرة على إدهاشي، وأن تكون مبينة في مساحة تتيح لي اللعب معها، وأن يكون قلقها صالحاً للعدوى والفصام، لا بل إلحاق اللعنة بي لأني خلقتها على هذا القدر من الاضطراب.

ما تقدم يقودني إلى المستوى الثاني للإجابة المتمثل بالحرص على التجريب، على الحركية العالية، على الابتعاد عن الوصفات الجاهزة، وكليشهات الغرائبية المفتعلة، والالتصاق أكثر بالواقع الخيالي، بوصفه أي الواقع أكثر ما توصل إليه الانسان غرابة.

المستوى الثالث متعلق بدبي كمدينة تملي بنية سردية تتناغم وطبيعتها، فأنت لا يمكنك أن تكون كلاسيكياً أو تقليدياً أمام حداثة المدينة، لا يمكنك أن تقترب بأفكار مسبقة مما يطمح لتخطي نفسه، فدبي قيد التجريب والمعاينة ..إنها تستدعي بناء سردياً يحمل كل تناقضاتها وخصوصيتها ونموها.

بر دبي هي رواية معاصرة يحتكم فيها السرد لاسلوبية الفلاش باك.. ثمة قصة تتكىء على اخرى، ثمة فكرة تستدعي فكرة قديمة، الى أي مدى ينجح هذا الاسلوب في استفزاز القارئ؟

لن أكتفي بالقول إن الأمر متروك للقارئ، سأتجاوزه رغم حقيقته إلى التأكيد أن الدعوة في بر دبي مفتوحة للقارئ لاستفزازه نحو المفاجأة، دعوة لأن يكتشف أن ما يبدو قصة مفردة هي في النهاية على التقاء مع القصة التي تجاورها، وأن في الأمر تعددا في الزمن وزوايا المقاربة والرؤية، ومحاولة لتقديم شخصيات تمضي إلى مصائرها وفق املاءات ماضيها وحاضرها، وفي استجابة لمكوناتها النفسية والاجتماعية، وضبطتها متلبسة وهي تحاول التأقلم مع نسق اقتصادي واجتماعي تتعرف عليه للمرة الأولى في دبي. ولعل اتكاء قصة على قصة هو تماماً ما توهمنا به دبي، فمساحة العزلة المتاحة أمامك كبيرة، ونقاط التواصل قليلة، فأنت على سبيل المثال لا تمشي في دبي، بل تستخدم السيارة التي تقودها بسرعات خيالية ، بينما الزجاج وبرودة المكيف يعزلانك عما حولك، وعليه قد تكون العلاقة افتراضية أحياناً أو وهمية كما حدث بين يوسف المشهداني ويوسف الرشيد.

دبي مركز تجاري مهم في الشرق الأوسط ، هل نشهد روايات أخرى لك تضيء تفاصيل لم تذكرها في روايتك؟

اعتقادي الراسخ أن كون دبي مركزا تجارياً مهماً أمر يتيح لها أن تكون خزان حكايا، والمطلوب إبداعياً هو إبعاد صفة كونها مدينة معقمة، لا شيء فيها إلا المال والأعمال والتسوق والسياحة، هذا جانب منها، لكن ماذا عن البشر؟ من المؤكد أن عدداً هائلاً من الحكايات تحدث يومياً، وثمة مصائر تتشكل وفق ما يتيحه المكان من علاقات مختلطة، واحتكاك لا سابق له لجنسيات من جهات الأرض الأربع، ولعل توصيف دبي ب مدينة كوزموبوليتانية لا يكتمل من دون فن نابع من هذه المدينة، ويفترض أن تكون المساحة متاحة أمام فنون متعددة الإثنيات.

أما على صعيدي الشخصي، فإن كان من روايات أخرى فلن تكون فعل استدراك، على اعتبار أن كون رواية بر دبي هي عمل مكتمل بعناصره الروائية أولاً، الأمر متروك لعوالم أخرى فرزتها المدينة، وحكايا جديدة تجد مستقرها في سياق روائي آخر.

كما أن المساحة مفتوحة أمام أن تكون دبي معبرا إلى قصص حدثت في أمكنة أخرى، وقد تشابكت خيوطها في دبي، فالجميع يأتي إلى هنا ومعه حكايته.

أن تؤرخ الحياة من خلال السرد الفني، بمثل هذا التكثيف الذي قرأناه في روايتك، ألا يعتبر ذلك مجازفة كبيرة تحفها المخاطر؟

يمكنني القول أن ما قدمته في بر دبي كان انقضاضا على القصة في لحظة ذروتها، أو عملية اقتحام من دون قصف تمهيدي. كل ما يعيق التصعيد الدرامي للحدث مستبعد، كل ما لا ينبع من الشخصية ملغي.

يوسف الرشيد يبدأ من أزمته مع نورا وهاتفها الموصد في وجهه، هدى مرتضى تضيء كل وساوسها من البداية، حسن مطوي يغرق في الحال في نزيف زوجته، يوسف المشهداني يقرر العزلة، ومن ثم تكون استعادة حياة كل شخصية ودوافعها بموازاة تواتر الأحداث التي تمضي إلى نهايتها.

إن كان في ما تقدم مجازفة، فأهلاً بها، لا بل إني أجدها ضرورية، والخطورة المترتبة عليها تستحق عناء مواجهتها والرهان عليها.

ثم إن الفن عموماً مجازفة، ومتى فقد تلك الميزة فإننا سنفقد مطمح الفن الرئيس نحو الجديد والمغاير، وسيتحول الأمر إلى مجرد تكرار، وحرص مجدب على الكتابة الآمنة، التي لا تفتح آفاق مغايرة يل تضيقها وتنمطها.

كيف ترى واقع النقد الروائي على المستوى العربي، وهل يملك الإطلالة على آراء نقدية في الرواية أضافت إلى ما هو معروف في سياق نقد الرواية عالميا؟

النقد العربي متواجد بمعنى مواكبة المنتج الروائي، أما الإضافات فمن البديهي النفي! كون الأمر لا ينفصل عن حراك اجتماعي واقتصادي وسياسي مفتقد في وطننا العربي، مع التأكيد على ضبابية المشهد العربي وتخبطه في حركة نكوص مدهشة إلى الخلف.

يمتد الأمر ليطال تشويهاً للطبقة الوسطى، للتعليم والثقافة، ووسط ذلك لا يمكن لإضافات أن تتحقق، فالأمر لا يتعدى المحاولات الفردية، والتي تصطدم بروح معادية لأية خطوة نحو الأمام، واشتغال عمره عشرات السنوات على مناصرة الجامد والمتسلط على حساب المتطور والمتحرر.

واقع القراءة يشهد تراجعا ملحوظا في الساحة العربية، الا تؤرقك هذه الفكرة، وهل صحيح ان الصورة تلفزيون، سينما، فيديو قد سرقت القارىء نحو عوالم اكثر ادهاشا من عالم الكتب؟

كلمة الدهشة محورية في سؤالك، ولعلي أجيب عن سؤالك بسؤال، كم من الدهشة تحملها الرواية العربية حالياً؟ فإن كانت الإجابة تتمثل بأنها مدهشة بحق، فإن القارئ سيكون حاضراً، وإن كان يشكل أقلية لها أن تتسع تدريجياً، وهنا يمكن أن يكون دخول الرواية في منافسة مع السينما أو الصورة بشكل عام أمراً مشروعاً حتى وإن كانت النتائج محسومة لمصلحة الصورة.

علينا ألا نتجاهل أيضاً عوائق مثل الأمية والأمية المبطنة واصرارنا على إيقاف الزمن والتكرار، فالصورة في متناول الجميع إذ إنها تأتي إليك، بينما الكتاب مطلب ومسعى وعلى المرء أن يذهب إليه.

الحديث عن التلفزيون والسينما لا يلغي الرواية أبداً، فكلا الوسيلتين تعتمد أولاً على السيناريو الأدبي، والفيلم يأتي من تحالف الحكاية مع الصورة، إضافة إلى حقيقة قدرة الرواية على التطور، واستيعاب تقنيات السينما بدأت مع الزمن الفني ولم تنته بعد مع المونتاج وما أضافه على تقنيات كتابة الرواية.

الرواية في أوروبا وأميركا ما زالت حاضرة بقوة، ولم تتأثر بسطوة السينما والتلفزيون، والحاصل هناك أن نجاح الرواية معبر لها إلى السينما والتي بدورها تستثمر نجاحها بتحويلها إلى فيلم وليس العكس أي أن يكون الفيلم هو عامل شهرة الرواية، ولعل نصف ما نراه من أفلام مأخوذ عن روايات باعت ملايين النسخ قبل أن تحتل مكانها على الشاشة.

البشر عموماً يعشقون الحكاية، يتوقون لسماعها وقراءتها ومشاهدتها، والعلاقة السوية بين الصورة والرواية علاقة تكاملية وإن بدت غالباً تنافسية.

تغيرات درامية

إن العامل الاقتصادي الذي يكثر الحديث عنه بوصفه الدافع الرئيس لاجتماع كل هؤلاء البشر في مدينة دبي، ليس إلا العنصر المتحكم بحياة البشر كل البشر، والمقرر لنمط عيشهم وبالتالي ثقافتهم وبنيتهم وتطلعاتهم، ويمكن اعتباره في السياق نفسه قادرا على إلحاق تغيرات كثيرة بالأشخاص، فتغير الفرد على الصعيد المادي سواء نحو الأفضل أو الأسوأ يترافق بتغيرات تطال كافة الأصعدة، وهو كفيل بقلب حياة الفرد رأساً على عقب، وهذا التغير له أن يكون بشكل أو آخر تغيرا دراميا يضعنا أمام شخصيات لا يمكنها أن تكون مسطحة تمضي في خط ثابت.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"