علي أحمد باكثير

حل وترحال
05:21 صباحا
قراءة 3 دقائق

أعود اليومَ إلى الحديث عن علي أحمد باكثير بسبب روايته سلاّمةُ القَسّ التي قرأتُها مؤخّراً، بعد صدورها ضمن سلسلة كتاب في جريدة (سبتمبر/ أيلول 2010 )، لأنني اكتشفتُ، من خلال قراءتي هذه، جانباً جديداً لشخصية هذا الكاتب، لم أكن أعرفه من قبل، ذلك أنّ ما عرفتُهُ سابقاً، وهو الذي شاع عن باكثير، أسبقيتُهُ في كتابة الشعر الحديث، فعند الحديث عن القصيدة الحديثة الأولى التي يحلو للباحثين والدارسين التنقيب عنها، وقد بات من المعروف أنهم كثيراً ما يتوقفون على الترجيح ما بين قصيدتيْن: هل كان حُبّاً لبدر شاكر السيّاب، والكوليرا لنازك الملائكة، عند هذا الحديث أو ما يشبهه، يشير البعض إلى أنّ علي أحمد باكثير كان قد سَبقَ السياب والملائكة في كتابة نماذج من الشعر الحديث .هذا ما عرفتُهُ سابقاً عن باكثير، إضافةً إلى كونه من أصلٍ يَمَنيّ، وقد عاش حياته الثقافية في مصر، وتوفي في أواخر الخمسينيات .

يبدو أنّ التركيز على علاقة باكثير بالشعر، وخصوصاً من خلال الكلام على الأسبقية في كتابة قصيدةٍ حديثة، قد غطّى على جوانبَ أكثر أهميةً في شخصية هذا الكاتب، فهو إضافةً إلى الكتابة الشعرية، قدّمَ كتاباتٍ روائيةً وأخرى مسرحية، ولا يسعُني في هذه المقالة إلاّ الكلام على ما وقعتُ عليه حديثاً، وجذبني وأثار إعجابي، في روايته سلاّمةُ القَسّ التي كانت قد صدرت في الثلاثينيات، ونالت إحدى الجوائز مناصَفةً مع روايةٍ لنجيب محفوظ .

سلاّمة هو اسمٌ لمغنيةٍ حقّقتْ قدْراً كبيراً من الشهرة في العصر الأموي، وكانت قد بدأت بالغناء في مكّة وهي جاريةٌ عند عائلةٍ متدينةٍ تخشى الغناء وتتجنّبُهُ، ثم اشتراها أحدُ الأثرياء في مكّة، وراح يقيمُ لها مجالس الطرب، داعياً إليها مشاهير المغنين والشعراء، قبل أن يبيعها إلى أحد الأثرياء في المدينة المنوّرة، إلى أنْ شاع أمرُها فاشتراها الخليفة يزيد بن عبد الملك، واستقدمها إلى قصر الخلافة في دمشق .

وفي مكّة، في أوّل أمر سلاّمة،كان الفتى عبد الرحمن بن أبي عمّار منصرفاً إلى التعبُّد والتفقّه في علوم الدين، إلى أنْ بلغ مرتبةً مرموقةً في الفقه وبات معدوداً بين علمائه وهو لا يزال في الخامسة والعشرين من عمره، وبسببٍ من انصرافه إلى التعبُّد والتفقُّه، أطلق عليه الناس لقب القَسّ، وكان متحفّظاً حيالَ الغناء، بل كان يعدُّهُ من عمل الشيطان، إلى أنْ سمع غناء سلاّمة عن طريق الصُّدْفة، ثم حضر مجلسها عند سيِّدها الثريّ الذي ألحّ في دعوته، فما كان منه بعد ذلك إلا أنْ وقع في حبِّ سلاّمة، بل هام في حبِّها، وراح يسعى إلى شرائها إذْ تأكّد أيضاً من حبِّها له، إلا أنها رحلت من مكّة بعدما اشتراها ثريُّ المدينة، فلحق بها إلى هنالك، ولكن الخليفة كان قد اشتراها، فاقتصر الأمر على لقاءٍ وداعيٍّ بين الحبيبين اللذيْن حالتْ بينهما تعقيداتُ الظروف وقساوتُها .

هذا ملخّصٌ بسيطٌ للرواية التي كتبها علي أحمد باكثير، معتمداً في ذلك على مصادرَ تاريخيةٍ أبرزُها كتابُ الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، وقد أحسنَ باكثير في إبراز المادة التاريخية التي وقع عليها في حلّةٍ عصرية، بِما هيّأ لها من حبْكةٍ فنيةٍ سلِسة، وبِما تهيّأ له من لغةٍ رشيقةٍ سهلة، وبسببٍ من هذا كلِّه،أحسنَ باكثير في التعبير عن جوهر الموضوع في روايته، وهو المتمثِّل في موقف عبدالرحمن القَسّ من الغناء، وفي تحوُّل هذا الموقف تحوُّلاً كلّياً، فبعدما كان يرى للغناء أبعاداً شيطانية، صار يرى له بعد سماعه سلاّمة أبعاداً روحانية .

لقد تصرّف باكثير بالوقائع والأحداث والشخصيات، فاجتهد وأضاف وتخيّل واستنسب، وفي هذا ما جعلهُ يتعدّى الكتابة التأريخية إلى الكتابة الأدبية . ونستطيع القول إنه نجح في استعمال المادة التاريخية على نحْوٍ يختلف عن طريقة جرجي زيدان وغيره ممّن وجّهوا التاريخ في اتجاهاتٍ أدبية، لقد استطاع باكثير أنْ يعتمدَ على المادة التاريخية لإثارة قضيةٍ أو قضايا ذات دلالاتٍ عصريةٍ بالغة الحساسية، وكم كان معبِّراً عن كلِّ ما تقدَّم أنْ يظهرَ في الثلاثينيات من القرن المنصرم فيلمٌ سينمائيٌّ، تلعبُ فيه أمّ كلثوم دورَ البطولة، مجسِّدةً شخصيةَ سلاّمة المستقاة من رواية علي أحمد باكثير .

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"