الأسير.. إنسان الانتظارات

03:48 صباحا
قراءة 6 دقائق

يوسف أبو لوز


سوى أسرى الحروب والمعارك الصغيرة والكبيرة عبر التاريخ.. ثمة أسرى آخرون، لا تنطبق عليهم حيثيات الأسر كما هو متعارف عليها في القوانين والمواثيق الدولية، لكن يظل مفهوم الأسر متشابهاً سواءً في الحالة المدنية (الثقافية)، وفي الحالة السياسية أو العسكرية، فالأسير هو المحتجز، وهو المحكوم إلى الإقامة في مكان بعينه، والأسير ليس سجيناً ولا مُعتقلاً أو موقوفاً، ولكن له حالة قانونية خاصة مُتعارف عليها في تشريعات الهيئات الدولية، والمهم هنا، وفي هذه المادة البالغة الخصوصية الثقافية فعلاً، هو المعنى الثقافي أو حتى المجازي للأسر أو للأسير.

(1)

هناك من هو أسير ذاته، وقد يحلينا هذا النوع من الأسر الذاتي إلى مفهوم الأنانية أو النرجسية، وهناك من هو أسير المؤسسة، أو العائلة، وهناك من هو أسير ثقافة بعينها، أو أسير إيديولوجيا في حدّ ذاتها أو أسير فكر في حد ذاته.
هناك من هو أسير مذهبية مُعينّة أو طائفية مُعينّة، وهناك من هو أسير تربية أخلاقية محددة، وما أكثر مَنْ هم أسرى مرجعياتهم ومرجعيات آبائهم وساستهم وزعمائهم، ولنتحدث هنا قليلاً عن أسير (الزعيم)، راجع على سبيل المثال كتاب «سيكولوجيا الجماهير»، فأسير «الزعيم» يبدو كالمدوّخ أو المُمغنط، إن جازت العبارة، فهو منجذب بكل كيانيته الثقافية والوجدانية والفكرية إلى شخص بعينه هو «شخص الزعيم»، وإن هذه الانجذابية إلى رمز سلطوي موجز في حزب أو في إيديولوجيا أو في فكرة أو في عقيدة سياسية.. أقول هذه الانجذابية هي أوّل خطوة شعبية جماهيرية نحو الاستبداد، إذ تبدو الجماهير أسيرة للحزب الذي هو مجموعة (أفكار)، كما هي أسيرة لرئيس الحزب أو رأس الحزب الذي هو (الشخص) إلى درجة ذوبان الجماعة في الفرد، وتحوّل الجماعة إلى قطيع وإلى ثقافة القطيع جرّاء هذا الأسر الإيديولوجي الفكري الثقافي.
عند صعود نجم ما كان يُسّمى الاشتراكية واليسار والماركسية وغيرها من أفكار ومصطلحات ومفاهيم، كانت تُصنّع في المطبخ الإيديولوجي لما كان يعرف بالاتحاد السوفييتي، انجذب آلاف المثقفين العرب ومن العالم إلى تلك الجهة اليسارية وأصبحوا أسرى ذلك الزمن وأسرى ذلك الفكر إلى مستوى يمكن أن يطلق عليه «العبودية».
نعم يتحوّل الأسير أو المأسور الإيديولوجي إلى عبد مطيع لنظام فكري معيّن. عبد لمنظومة إيديولوجية يقف على رأسها سيّد طاغية استبدادي حتى ولو كانت أدبياته ومفرداته ديمقراطية، فما هذه الأدبيات والمفردات سوى نظام آخر ديكتاتوري، وهكذا كانت رموز السلطة في الاتحاد السوفييتي سابقاً.. تلك الرموز التي أسرت، وبشكل خاص، جيلاً عربياً بأكمله في الخمسينات والستينات من القرن العشرين.

(2)

كل تسييس للعقائد والأديان والفكر وحتى تسييس الفنون والآداب، هو شكل من أشكال «الأسر»: إن هذا التسييس هو في الوقت نفسه، شكل آخر من أشكال الاختطاف. تختطف جماعة الإخوان المسلمين- على سبيل المثال- جيلاً بأكمله من الشباب وتحشو أدمغتهم بأفكار التعصّب والعنف والتطرّف، وهم في حالة انجذاب مرعب إلى رموز التسييس وصنّاعه، وبكلمة ثانية، فإن تسييس الدين وتحويله خطاباً تحريضياً هو مرّة ثانية، شكل من أشكال «الأسر» الذي يصل بالإنسان المسيّس دينياً وفكرياً وعقائدياً، في أن يكون عبداً مطيعاً للمؤسسة الدينية الحزبية أو التسييسية.
هكذا يتحول «الأَسر» من كونه احتجازاً أو قبضاً على عدد من الجنود المحاربين إلى كونه مفهوماً وسلوكاً تابعاً لثقافة ما، أو تابعاً لمؤسسة إيديولوجية.
إن «الأسر» عندما يتحوّل إلى مفهوم وسلوك أو عندما يتحول إلى حالة أو ظاهرة اجتماعية أو ثقافية، فإن لهذه الظاهرة، أو لهذه الحالة، وبالضرورة، نتائج أو لِنقُل علامات.
«النرجسية» أو «الأنانية»: وهما في معنى واحد، هما من نتائج «الأسر» عندما يتحول إلى ظاهرة اجتماعية أو ثقافية أو سياسية، فالمأسور في إطار فكري أو عقائدي أو ديني مُسيّس، هو نرجسي أو أناني على طول الخط، وذلك بحكم البؤس الثقافي الذي يُسيطر على الأسير ويوجّهه و«يدوّخه» ويخرّب انضباطيته، كما ويخرب قدرته على النقد والقراءة والمقارنة.
إن أسير خطاب الكراهية والعنصرية والمذهبية وإلغاء الآخر واحتقار فكره ومعطياته واجتهاداته، هو إنسان مشلول الإرادة وخاضع تلقائياً إلى مسلك عبودي يطبّقه على نفسه وهو هادئ الأعصاب وهادئ البال، فكلما سيطرت الأنانية أو النرجسية على الإنسان، تعزله تماماً عن المجتمع وتجعله مغلقاً في فرديته التي تؤدي به إلى التلاشي بعد زمن رديء من عبادة الذات.

(3)

الأسير، أيضاً هو إنسان الانتظارات الطويلة حتى لو كان أسير ذاته أو أسير إيديولوجيته.
وليس فقط أسير سجن أو أسير حجز أو أسير اعتقال، فأسير الذات ينتظر خلاصه الفردي، وخلاصه الفردي لن يتحقق طالما هو معزول في أنانيته وفي نرجسيته، وحتى لو تحقق مثل هذا الخلاص الفردي، فمن الصعب أن يجري قبول هذا «الأسير» في مجتمع متآلف، متجانس، يعتبر العبودية الفكرية ضد إنسانيته وضد كرامة هذه الإنسانية.
ينتظر أسير الحرب أن يُفرج عنه، أو يجري مبادلته مع أسرى آخرين في المقابل، ولكن خلال هذا الانتظار سيتعرّض الأسير إلى شيء من الإهانة، بل هي الإهانة وعلى سبيل المثال، وفي القوانين الدولية، يلتزم الأسرى بأداء التحية العسكرية إلى ضباط الدولة الحاجزة، ولكن يُستثنى من ذلك: الضباط ذوو الرتب العالية، ومن أشكال إهانة الأسير أيضاً تشغيله في أعمال مفروضة عليه، مثله مثل أي محكوم أو سجين.
ولكن، ما هي أشكال الإهانة التي يتعرّض لها أسير الذات أو أسير الإيديولوجيا أو أسير الخطاب الفكري الأحادي الإلغائي؟، إنه في هذه الحالة منبوذ ومعزول، تماماً مثل بعض الأنظمة السياسية التي يجري عزلها سياسياً وتوقيع عقوبات دولية عليها، وحتى لو لم تكن هذه العقوبات ذات مفعول سلبي مباشر على الفرد أو على الدولة المعزولة، فإن مثل هذه العقوبات هي في حدّ ذاتها، ولمجرد إعلانها دولياً وإعلامياً هي: إهانة.

(4)

أنتقل الآن إلى أسرى آخرين.. جميلين هذه المرّة. وما أكثرهم في هذا العالم، فكما هناك أسرى نرجسيون عبيد ذواتهم المريضة، هناك أيضاً، أسرى جماليون.. هائمون في الهواء الطلق للحياة الإنسانية الرائعة، ومن هؤلاء، ثلاثة أسرى: أسير الحب، أسير الكتابة، أسير الموسيقى، مع أن العالم يفيض بأسرى الحب والكتابة والموسيقى، والرسم، والتصوّف، والحكمة، والفلسفة والفكر.. وإلى آخره من حقول باتساع العالم.
وليكن مثال أسير الحب: الشاعر التشيلي «بابلو نيرودا» وهو أيضاً كما يعرف القارئ شاعر الحياة، والإنسانية، والحرية، ومثله كثيرون في العالم تنطبق عليهم عالمية الشعر هذه وإنسانيته.
لم يكن بابلوا نيرودا، أسير «ماتيلدا» فقط المرأة التي ألهمته مئة سونيتة حب، بل، كان أيضاً أسير قلبه، وأسير أشواقه المتوالية، وأسير حبّه الجارف للحياة وللبشرية والجمال.
إن «بابلو نيرودا» ليس أسير الحب فقط، بل هو أيضاً أسير الشعر، وسوف يتبدّى لك واضحاً هذا الأسر الجميل في كتابه الحقيقي «النشيد الشامل».
الحب في أكثر من مستوى، وفي أكثر من معنى، جعل من نيرودا «عجاناً».. إن جاز الوصف.. يعجن الجسد البشري المحبوب مع جسد الطبيعة: الأرض، الضوء، الطحالب، النور.. يقول في «مئة سونيتة حب»:-
«يا امرأة تامّةً، يا قمراً حارّاً يا عطر الطحالب الكثيف ووحلاً معجوناً بالضوء أي نور غامض يتفتّح:
آه.. الحب رحلة مع المياه والنجوم
مع الهواء الضيّق وعواصف الطحين النزقة
الحب قتال بين البروق
..........................
لا أحبك كما لو أنك وردة من ملح
أو حجر ياقوت، أو سهم من قرنفلات تشيع النار
أحبك مثل النبتة التي لا تزهر
وتخبئ في داخلها ضوء تلك الزهور»
وليكن، مثال أسير الكتابة.. الروائي المصري نجيب محفوظ. الصورة الأبهى للكاتب الأسير. أسير السرد والحكي والروي. أسير زمنه القاهري الكلاسيكي، وأسير عاداته المضبوطة على ساعة موظف حكومي لم تصدأ، روحه بين الملفات وتحت طبقات الغبار.
أسرت الرواية نجيب محفوظ. أسرته القاهرة و«حواشيها» ومتونها وهوامشها، ولكنه الأسير العاشق. الأسير غير النرجسي على الإطلاق، الأسر اليومي القاهري المنتظم الذي جعل من صاحب «الحرافيش»، أن يكون نوبلياً عالمياً في أكثر من لغة وأكثر من قراءة، ولكن قبل ذلك هو أسير خان الخليلي، والقاهرة الفاطمية، ومقهى ريش، وشوارع وسط البلد.. ذلك الوسط الذي تمدد في الرواية ليكون إطاره العالم.
الأسر يشبه الإدمان عندما تتحول الكتابة إلى عادة متمكنة من الإنسان حتى تأخذ بعقله وقلبه وروحه..
الأسير الثالث، والأخير هنا، هو أسير الموسيقى «لودفيج فان بيتهوفن».. الألماني الذي حوّل البيانو إلى «دستور» مصنوع من خشب يصغي ويتكلم ويتأمّل.
بيتهوفن أسير عبقريته أيضاً، هذه العبقرية التي كانت تزدري الأنانية والضعف والتفاهة.. أسير نبوغه الذي يتصاغر أمامه أو تحته الطغاة والمستبدون أسرى ذواتهم المريضة.
تقول سيرته إنه أسير قلبه أيضاً، فقد كتب خمس عشرة رسالة حب، بين عامي 1804 و1810 لامرأة اسمها «جوزفين برانسفيك» بعد وفاة زوجها.

(5)

أخيراً هذه هي الشاعرة فروغ فرخ زاد تقول في ديوان لها بعنوان «الأسيرة»:-
«إذا رغبت أيتها السماء في أن
أطير مبتعدة عن سجن الصمت هذا ذات يوم
فماذا أقول لعين الطفل الباكية
اتركيني، فأنا طائر أسير.
أنا تلك الشمعة أضيء الأماكن الخربة
عن طريق احتراق قلبي»

امرأة الضوء

كانت فروخ فرخ زاد التي توفيت في حادث سير وهي في الرابعة والثلاثين من عمرها، أسيرة الشعر الذي كتبته من قلبها لا من حبرها أو من قلمها، ولم يكن هذا الأسر سوى مجدها الذي لا يُنسى.. ولا يُتجاوَزْ.
فروخ فرخ زاد كانت أيضاً أسيرة روحها الحرّة، فتبعت روحها كما تبعت قلبها إلى آخر ما يمكن أن يكون في امرأة مولودة من الضوء، جعلت من شعرها حفلة للعالم، وممنوع على العبيد والطغاة والأنانيّون الدخول إلى هذه الحفلة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"