نتنياهو وترامب.. شراكة في الاستيطان

02:52 صباحا
قراءة 5 دقائق
حلمي موسى

مثلت مشاركة كل من السفير الأمريكي لدى الاحتلال، ديفيد فريدمان، والمبعوث الأمريكي لعملية السلام، جايسون غرينبلات في افتتاح نفق سلوان المؤدي إلى حائط البراق ذروة انتقال الموقف الأمريكي من رفض الاستيطان ولو شكلاً إلى تشجيعه. وقد عنت هذه المشاركة الرسمية تأييد إدارة الرئيس الأمريكي ترامب للإجراءات الصهيونية الهادفة لتهويد مدينة القدس بعد الاعتراف بها عاصمة للكيان.
لم تشكل هذه المشاركة في الاحتفال بافتتاح النفق- الذي يهدد سلامة ليس فقط بيوت المواطنين العرب في القدس الشرقية، وإنما أيضاً أسس المسجد الأقصى- مجرد اعتراف ب«شرعية الاستيطان» وإنما إقرار بالرواية التوراتية التي تنسف الحق العربي في فلسطين.
والواقع أن ما بات يعرف، بعد المشاركة الأمريكية، ب«طريق الحجاج» كان ولا يزال معروفاً بأنه طريق روماني مردوم. وقد عمد اليهود إلى التنقيب عنه وافتتاح المزيد من مقاطعه وربطه بشبكة من الأنفاق الأخرى القائمة تحت البلدة القديمة من أجل إعادة كتابة تاريخ طبقات الأرض تحت البلدة القديمة وطبعها بطابع يهودي بعد تنقيتها من التاريخ العربي والإسلامي. ورغم طول فترة ادعاء وجود هذا التاريخ إلا أن الأمر اتخذ بعداً سياسياً مميزاً في مفاوضات كامب ديفيد بعدما اقترح رئيس حكومة الكيان حينها، إيهود باراك، تقسيم السيادة في الحرم القدسي بين ما فوق الأرض وتحتها. وقد اندفعت حكومات اليمين الصهيوني بعدها إلى محاولة فرض وقائع تحت الأرض عبر الأنفاق التي حفرت لإقامة كنس ومتاحف لتنافس «تاريخياً» ما بني فوق الأرض من وقائع استيطانية راهنة.
وإذا كان الاحتلال منذ عام 1967 قد أنشا فوق الأرض حوالي 38 مستوطنة في محيط مدينة القدس الشرقية وعلى أراضيها وأسماها «أحياء» فإن الاستيطان في الأنفاق أنشأ مدينة كاملة تحت الأرض. وبحسب تعابير علماء آثار يهود عارضوا المنهج الصهيوني القسري في إعادة كتابة تاريخ المدينة المقدسة، فإن الغاية الأساسية من هذه الأنفاق هي نزع الشرعية عن عروبة القدس. فإخلاء ما تحت الأرض من آثار عربية وإسلامية ورومانية وإعادة صبغ هذه الآثار بطابع يهودي يحقق للصهاينة هدفاً يجسد روايتهم رغم تناقضها مع كل معطيات التاريخ وعلم الآثار.
وواضح أن ما يبنى تحت الأرض وفوقها وما يعنيه من تكريس للرواية الصهيونية يترافق عملياً مع نشاط محموم لإخلاء المدينة المقدسة من أهلها العرب. وقد بدأت هذه العملية فور احتلال المدينة في يونيو 1967 بتدمير حي المغاربة لإنشاء ما صار يعرف ب«باحة البراق» وإقامة عدد من الكنس هناك. وأعلنت عن توحيد المدينة وصادرت الأراضي باسم عدة قوانين منها أملاك الغائبين وبدعاوى أمنية وعسكرية. ثم أتبعت ذلك بعملية إخلاء ممنهجة لأهالي المدينة من بيوتهم بحجج وذرائع شتى وإسكان يهود في هذه البيوت. وأقامت مستوطنات في كل المناطق الفارغة بين الأحياء العربية في القدس الشرقية، لإلغاء الطابع العربي للمدينة. وطوقت المدينة من كل اتجاه بالمزيد من المستوطنات، لتلغي التواصل القائم بينها وبين المدن والقرى العربية الأخرى في الضفة الغربية.
ومن المؤكد أن المشاريع «الإسرائيلية» الرامية لتهويد المدينة المقدسة كانت تصطدم بمقاومة فلسطينية وعربية ورفض دولي مختلف الوتيرة. وقد عارضت الأمم المتحدة الاستيطان في القدس والأراضي المحتلة بقرارات متنوعة أخرها بموافقة أمريكية في أواخر عهد إدارة أوباما السابقة. غير أن إدارة ترامب التي يقود سياستها تجاه فلسطين فريق صهيوني يميني متشدد عملت على تغيير المعادلة وبدلاً من الصمت الفعلي والإدانة العلنية للاستيطان عمدت إلى تسويغه بل والمشاركة فيه كما جرى في افتتاح نفق سلوان.
وذهب ممثلو إدارة ترامب إلى حد اعتبار افتتاح نفق سلوان الاستيطاني ليس مجرد «إرث يهودي» وإنما أيضاً إرث أمريكي أيضاً. وفاق الإسفاف السياسي في إدارة ترامب عبر هذه المواقف كل حد، عندما وفرت، ليس التأييد الصامت للمشاريع الاستيطانية، وإنما صارت تعتبر ذلك إرثاً يجب على كل العالم الإقرار به. وما يثير الدهشة كثيراً حتى في الأوساط «الإسرائيلية» نفسها أن إدارة ترامب تشجع غلاة اليمينيين الصهاينة في مسائل دينية متفجرة بدعوى أن ذلك يسهم في تحقيق السلام. وقاد تشجيع إدارة ترامب لحكومة نتنياهو اليمينية إلى إزالة كل العراقيل تقريباً أمام تهويد القدس وإلى انتقال اليمين من الاستيطان إلى مرحلة هدم التاريخ العربي والإسلامي. ولا يخفى على أحد أن الحكومة ««الإسرائيلية»» وجمعيات الاستيطان في القدس ترمي إلى هدم المسجد الأقصى وإعادة بناء ما يسمى بالهيكل اليهودي المزعوم مكانه.
ومن البديهي ملاحظة أن عملية تكريس الوجود اليهودي في المدينة المقدسة فوق أرضها وتحتها يترافق مع عملية هدم وتبديد للحق العربي فيها. ويعمل الفلسطينيون طوال الوقت على رفض المشاريع الاستيطانية والتهويدية في المدينة، والتي تجري بطرق شتى ابتداء من الاستيلاء على البيوت والمقابر العربية وانتهاء بالسيطرة على الأراضي العامة وإقامة المستوطنات عليها. ولم تعد حكومات الاحتلال تتردد في الإعلان بشكل متواتر عن مشاريع استيطانية داخل الأحياء العربية من سلوان إلى صور باهر.
وإذا كان مشروع تهويد القدس بالاستيطان فوق الأرض وتحتها صار يحظى بتشجيع رسمي أمريكي، فإن أمل «الإسرائيليين» بنيل الاعتراف الأمريكي بالسيادة على أجزاء واسعة من الضفة الغربية لم يعد حلماً بعيد المنال. فإدارة ترامب صارت تتحدث عن أن الضفة الغربية ليست «أرضاً محتلة» ولا تخفي عدم تبنيها لحل الدولتين وتحاول بكل جهد تحقيق الأهداف الصهيونية بعيدة المدى.
واليوم ينشأ في الضفة والقدس واقع جديد يتمثل في حقيقة وجود ما لا يقل عن مليون مستوطن في الضفة والقدس المحتلتين. وإذا كانت أحياء القدس بفعل النشاط الاستيطاني باتت معزولة عن بعضها ومعزولة عن باقي أنحاء الضفة الغربية، فإن هذا هو ما يجري فعلاً مع كل مدن الضفة الغربية وقراها. حيث إن المستوطنات في الضفة أحالت مدن الضفة وقراها إلى معازل مفصولة عن بعضها بحواجز وبوابات تجعلها مقطعة الأوصال ما يحول دون بناء أي نوع من الاقتصاد المستقل أو الحياة المستقلة.
وتكفي هنا الإشارة إلى أنه في أعقاب اعتراف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالقدس عاصمة للكيان قرر وزير البناء ««الإسرائيلي»» حينها، يؤآف غالنت الدفع بمخطط إنشاء 14 ألف وحدة استيطانية في القدس، جزء كبير منها في منطقة قلنديا الفاصلة بين القدس ورام الله. فالاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة للاحتلال أتاح لغلاة اليهود الإعلان عن زوال «آخر الأعذار» بشأن الاستيطان. ومشاركة المسؤولين الأمريكيين في افتتاح نفق سلوان «طريق الحجاج» وفر التشجيع الأكبر لدعاة هدم المسجد الأقصى وإقامة الهيكل، للإعراب عن مواقفهم علناً وعلى رؤوس الأشهاد.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"