ابن جرير الطبري.. إمام المفسرين

علماء وأعلام
03:05 صباحا
قراءة 5 دقائق
محمد حماد

مؤرخ ومفسر وفقيه، بل هو إمام المؤرخين والمفسرين، كان أكثر علماء عصره همة في طلب العلم وتحصيله وفي تأليف أمهات الكتب، وهو صاحب أكبر كتابين في التفسير والتاريخ، وكان مجتهداً في أحكام الدين لا يقلد أحداً، بل قلده بعض الناس وعملوا بأقواله وآرائه، ويعتبر من أكثر علماء الإسلام تأليفاً وتصنيفاً. قال عنه أحمد بن خلكان صاحب «وفيات الأعيان»: «العَلم المجتهد عالم العصر صاحب التصانيف البديعة كان ثقة صادقاً حافظاً رأساً في التفسير إماماً في الفقه والإجماع والاختلاف، علاَّمة في التاريخ وأيام الناس عارفاً بالقراءات وباللغة وغير ذلك».

هو محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الشهير بالإمام أبي جعفر الطبري، وُلِد في طبَرِستان في مدينة آمل، سنة 224 هجرية، وتربى في أحضان والده الذي غمره برعايته، وتفرس فيه النباهة والذكاء والرغبة في العلم، فتولى العناية به ووجَّهه منذ الطفولة إلى حفظ القرآن الكريم، كما هي عادة المسلمين في تنشئة أبنائهم النشأة السليمة.
حرص والد الطبري على إعانته على طلب العلم منذ صباه، ودفعه إلى تحصيله، فما كاد الصبي الصغير يبلغ السن التي تؤهله للتعليم، حتى قدّمه والده إلى علماء آمل، وسرعان ما تفتح عقله، وبدت عليه مخايل النبوغ والاجتهاد، حتى قال عن نفسه: «حفظت القرآن ولي سبع سنين، وصليت بالناس وأنا ابن ثماني سنين، وكتبت الحديث وأنا في التاسعة» وأكثر الفتى من الترحال في طلب العلم، ولقي نبلاء الرجال، وقرأ القرآن ببيروت على العباس بن الوليد، ثم ارتحل منها إلى المدينة المنورة، ثم إلى مصر، والري، وخراسان، واستقر في أواخر أمره ببغداد.

وقال عنه الخطيب البغدادي: «محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب كان أحد أئمة العلماء يُحكم بقوله ويُرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، فكان حافظاً لكتاب الله، عارفاً بالقراءات بصيراً بالمعاني، فقيهاً في أحكام القرآن عالماً بالسنن وطرقها، صحيحها، وسقيمها، وناسخها، ومنسوخها، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين، عارفاً بأيام الناس وأخبارهم، وكان من أفراد الدهر علماً وذكاء وكثرة تصانيف قلَّ أن ترى العيون مثله».

أشهر مؤلفاته تفسيره المعروف بتفسير الطبري، الذي حاز به لقب «إمام المفسرين» وقال بعض العلماء: «لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل تفسير محمد بن جرير لم يكن كثيراً».

الزاهد الورع

كان الطبري على جانبٍ كبير من الورع والزهد والحذر من الحرام، والبُعد عن مواطن الشبهات، واجتناب محارم الله تعالى، والخوف منه، والاقتصار في المعيشة على ما يَرِدُهُ من ريع بستانه الذي خلَّفه له والده، يقول ابن كثير: «كان من العبادة والزهادة والورع والقيام في الحق لا تأخذه في ذلك لومة لائم، وكان من كبار الصالحين، وكان الطبري زاهداً في الدنيا، غير مكترث بمتاعها ومفاتنها، وكان يكتفي بقليل القليل أثناء طلبه للعلم، وبما يقوم به أوده، ويمتنع عن قبول عطايا الملوك والحكام والأمراء».

ويروي الخطيب البغدادي في تاريخه في ترجمة الإمام الطبري - رحمه الله - قصة الرحلة التي جمعت بين محمد بن جرير، ومحمد بن إسحق بن خزيمة، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن هارون الرّوياني بمصر، فأرملوا (أي نفد طعامهم)، ولم يبقَ عندهم ما يقوتهم، وأضرَّ بهم الجوع، فاجتمعوا ليلة في منزلٍ كانوا يأوون إليه، فاتفق رأيهم على أن يَسْتَهموا ويضربوا القُرعة، فمن خرجت عليه القُرعة سأل لأصحابه الطعام، فخرجت القرعة على محمد بن إسحق بن خزيمة، فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أتوضأ وأصلي صلاة الخِيَرة، قال: فاندفع في الصلاة فإذا هم بالشموع وخصي من قِبل وَالِي مصر يدقّ الباب، ففتحوا فنزل عن دابته فقال: أيكم محمد بن نصر؟ فقيل: هو هذا، فأخرج صرة فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن جرير؟ فقالوا: هو ذا، فأخرج صرة فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن هارون؟ فقالوا: هو ذا، فأخرج صرة فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن إسحق بن خزيمة، فقال: هو ذا يصلي، فلما فرغ دفع إليه الصرة وفيها خمسون ديناراً، ثم قال: إن الأمير كان قائلاً بالأمس فرأى في المنام خيالاً، قال: إنّ المحامد طووا كَشْحهم جياعًا، (أي باتت بطونهم خاوية) فأنفذ إليكم هذه الصِّرار، وأقسم عليكم «إذا نفدت فابعثوا إليّ أمدكم».

لا حقد.. ولا غرور

عرف الطبري بالتواضع لأصحابه وزوّاره وطلابه، فلم يتكبر بمكانته، ولا تعالى بعلمه، أو يتعاظم على غيره، فكان يُدعى إلى الدعوة فيمضي إليها، ويُسأل في الوليمة فيجيب إليها، وكان لا يحمل الحقد والضغينة لأحد، وله نفس راضية، يتجاوز عمن أخطأ في حقه، ويعفو عمن أساء إليه، وكان محمد بن داود الظاهري قد اتهم الطبري بالأباطيل، وشنَّع عليه، وأخذ بالرد عليه؛ لأن الطبري ناظر والده، وفنَّد حججه، وردَّ آراءه، فلما التقى الطبري مع محمد بن داود تجاوز عن كل ذلك، وأثنى على علم أبيه، حتى وقف الولد عن تجاوز الحد، وإشاعة التهم على الطبري.
أما العلماء فكان لهم تقييمهم الأدق فقال عنه الإمام النووي: «أجمعت الأمة على أنه لم يصنف مثل الطبري»، وقال ابن الأثير: «أبو جعفر أوثق من نقل التاريخ وفي تفسيره ما يدل على علم غزير وتحقيق وكان مجتهداً في أحكام الدين لا يقلد أحداً بل قلده بعض الناس».

محنة شديدة

وككل أصحاب النفوس الكبيرة تعرض الطبري لمحنة شديدة في أواخر حياته بسبب التعصب المذهبي، فلقد وقعت ضغائن ومشاحنات بين ابن جرير الطبري وأبي بكر بن داود أفضت إلى اضطهاد ابن جرير، وتعصب العوامّ على ابن جرير وغالوا في ذلك، حتى منعوا الناس من الاجتماع به، وظل ابن جرير محاصراً في بيته حتى تُوفّي.
توفي الطبري وقت المغرب عشية يوم الأحد 26 من شهر شوال سنة 310 هجرية، وقال ابن كثير: «ناهز الثمانين بخمس سنين، وفي شعر رأسه ولحيته سواد كثير، ودفن في داره لأن بعض العوام والرعاع منعوا دفنه نهاراً، ومن الجهلة من رماه بالإلحاد، وحاشاه من ذلك كله، بل كان أحد أئمة الإسلام علماً وعملاً بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإنما تقلدوا ذلك عن أبي بكر محمد بن داود الظاهري، حيث كان يتكلم فيه ويرميه بالعظائم وبالرفض»، وقال الخطيب البغدادي وابن عساكر: «اجتمع في جنازته من لا يحصيهم عددًا إلا الله، وصُلِّي على قبره عدة شهور ليلاً ونهارًا، ودُفِن في داره الكائنة برحبة يعقوب ببغداد ورثاه خلق كثير من أهل الدين والأدب».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"