تأملات في مسرح سعد الله ونوس

من الوعي الجماعي إلى التمرد الفردي
05:41 صباحا
قراءة 7 دقائق

في الخامس عشر من آذار/ مارس الحالي مرت الذكرى الثالثة عشرة لرحيل سعد الله ونوس، الكاتب المسرحي المبدع، والمثقف العضوي والطليعي، الذي انصهرت آلامه وأحلامه ووجدانه في النكسات والهزائم المريرة التي لحقت بأمته ووطنه العربي الكبير، ابتداءً من نكسة حزيران، ومروراً بالغزو الإسرائيلي للبنان، وانتهاءً بحرب الخليج عام 1991 .

أمضى ونوس حياته مدافعاً عن قضايا التحرر العربي في كل مكان، وعن دور الثقافة في مواجهة القهر والاستبداد، وأهمية دور المثقف النزيه في التصدي لقضايا الديمقراطية والعدالة الاجتماعية التي تهم الأمة بأسرها، إيماناً منه بأن المثقف مسؤول عن كرامة الإنسان وعقله . وكانت تلك الهزائم والنكسات محفزاً له لتعرية الواقع العربي، وتشريح عوامل ضعفه، وتمزيق أقنعة صانعيها درامياً، حتى كاد يكون مؤرخاً للهزائم العربية بامتياز، على حد تعبير بيار أبي صعب، فعندما وقعت نكسة يونيو/ حزيران عام 1967 كتب مسرحيته الشهيرة حفلة سمر من أجل 5 حزيران، التي حاول فيها تقديم قراءة نقدية للنكسة من وجهتي نظر الشعب والسلطة، ومن ثم إشراك المتلقين في الرأي ووجهة النظر، رغم أنه أظهر فيها لامبالاة الجماهير وسلبيتها، فلجأ إلى الأسلوب الارتجالي الذي يذكّر بأسلوب بيرانديللو، حسب رأي بول شاؤول، ولا سيما في مسرحيتيه ست شخصيات تبحث عن مؤلف، ولكل طريقته، ليلعب لعبة المسرح داخل المسرح، وليمزج في هذه اللعبة التقنيات البرشتية عبر إلغاء الحدود الفاصلة بين الخشبة واللغة، بين الممثلين والمتلقين، وكذلك الاتجاه التسجيلي الذي استعان به بيتر فايس في اختياره الملائم من المواقع لخدمة الفكرة الرئيسة في المسرحية .

لقد أثارت حفلة سمر . . . ضجةً كبيرة أثناء تقديمها وبعده، وشكلت خطوة جديدة لونوس هي الصياغة البدئية لمسرحه الملتزم، الذي اطلق عليه صفة مسرح التسييس، كبديل عن المسرح السياسي، وهو شكل مسرحي يوحّد الخشبة بالصالة، في علاقة تفاعليّة تفترض الحوار الحيّ، ومتعة الفرجة الشعبيّة .

ركز ونوس في نصوصه المسرحية على علاقة المواطن بالسلطة، كما تتضح في: الفيل يا ملك الزمان 1969، مغامرة رأس المملوك جابر 1972، الملك هو الملك 1977، في النص الأول، المستلهم من حكاية شعبية، يصوّر ونوس فيلاً شرساً يعيث فساداً في المدينة، يقتل ويدمر ولا أحد يستطيع أن يفعل شيئاً، ولا حتى أن يشتكي للملك، صاحب الفيل، بسبب القمع والخوف . الناس المستلبون يخافون من السلطة الغاشمة لأنها تمثل في أذهانهم مجموعة من الرموز التي تدل على الجبروت والتعسف والجور . والشخصيات تحمل اضطهادها وقهرها ولاتسعى الى تأكيد ذاتها إلا من خلال الجماعة التي تنتمي إليها فقط . أما الشخصية الوحيدة التي تحاول مواجهة الفيل، وهو زكريا، فإنه يشكّل رمزاً للمقاومة الفردية غير المجدية، حيث يقف بين الشعب والملك محرضاً على التحرك وانتراع الخوف، في هذا النص يدين ونوس، كما فعل في حفلة سمر، الشعب المتسم بسلبيته وجموده وخوفه .

ينتقل في نص مغامرة رأس المملوك جابر إلى السلطة المنقسمة على نفسها، عبر الصراع المستشري بين الخليفة شعبان ووزيره محمد العلقمي، الخليفة يريد ازاحة الوزير لأنه يشكل خطراً على وجوده، والوزير يطمح إلى تحقيق حلمه بالاستيلاء على الخلافة، وكل واحد منهما يعد العدة لإزاحة صاحبه، ويكشف ونوس في هذا النص، المأخوذ عن حكاية من عصور الانحطاط المملوءة بالاضطرابات والفوضى والتسلط، كيف أن الانتهازي، المتمثل بالمملوك جابر، يتسلل عبر هذا الصراع، وان الشعب غير مبال . إدانة متعددة الجوانب لا يلطفها سوى محاولة إحدى الشخصيات الفردية في دق ناقوس الخطر في هذا الواقع، لكنه إنذار غير مجدٍ في حركة مفككة ضعيفة ومحاصرة .

تقوم الفكرة الأساسية لنص الملك هو الملك، التي استمدها من حكاية النائم واليقظان في الليلة الثالثة والستين بعد المائة من ألف ليلة وليلة، على استبدال الملك بملك جديد، وهي لعبة أرادها الملك الأصلي ليدفع عن نفسه الضجر، ولتحقيق ذلك يختار ضحية من عامة الشعب اسمه أبو عزة، كان تاجراً فأخنى عليه الدهر، وركبته الديون، وتآمر عليه شهبندر التجار والقاضي والنظام نفسه، فأصيب بلوثة وبات يحلم بأن يصبح سلطان البلاد، ويشدد القبضة ولو يومين على العباد، يختار الملك هذا الشخص، ويأتي به إلى قصره ليتفرج عليه ويلهو به، لكن مصالح الآخرين، من امثال الوزير وشهبندر التجار، تقتضي استمرار اللعبة وجعلها حقيقة واقعة، وبذلك يخرج الأصيل من اللعبة، ويصبح البديل أصيلاً، ويأخذ بتصريف أمور الدولة بطريقة الملك السابق نفسها: الظلم والاستبداد، فنظام الحكم يبقى نفسه وإن تغير شخص الحاكم، بل إنه يمعن في الإرهاب حتى ليود أن يقتل أعداءه بنفسه بدلاً من أن يوكل هذا الأمر لسيافه، إذ لا يهمه الاّ عرشه .

حدد ونوس علاقة المواطن بالسلطة في بداية مسرحيته هذه بأنها علاقة حرب بين المسموح والممنوع، بين الرعاع والدهماء والعامة من جهة، والسادة من جهة أخرى، حرب تتخذ اشكالاً متعددة بين المواطن والسلطة بكل أجهزتها، الشخصية الوحيدة التي تتحرر من الخوف هي أم عزة (مثل زكريا في مسرحية الفيل يا ملك الزمان) لأنها تظن نفسها في مأمن من السلطة، فتمارس نقدها بحرية تامة أمام الملك المتخفي، وتعري الظلم الواقع على الشعب . وتكشف القراءة المعمقة لهذه النصوص الثلاثة عن وجود هزيمة من نوع آخر هي هزيمة داخلية للناس المقهورين، الخانعين أمام جبروت السلطات التي تصنعهم وتعطيهم ميلاداً جديداً، وهي هزيمة تعادل في نتائجها الهزيمة الخارجية .

تدهور

أصيب ونوس إثر الغزو الاسرائيلي للبنان وحصار بيروت عام ،1982 حيث كان يعمل في صحافتها، بصدمة حادة، فغاب عن الواجهة، وتوقف عن الكتابة سنوات عديدة، باحثاً، حسب رأي د . فيصل دراج، في مرحلة منسوجة من الشك والمساءلة والقلق، عن الصواب في زمن عربي ألقى بالصواب إلى مزبلة، وأدمن الهزائم . كانت الظروف قد بدأت تتغيّر في اتجاه الانحطاط الذي نعيشه اليوم، كما يقول بيار أبي صعب، فراجع الكاتب تجربته، وحاول أن يفهم سر ذلك الأفق المسدود الذي يحاصر المسرح العربي، ومشاريعه البديلة، مثلما يحاصر الأحلام التقدميّة والطليعيّة الساعية إلى تحقيق الديمقراطيّة والتنمية والتطوّر، اكتشف ربّما أنه بقي كاتباً نخبوياً . لكن كيف يكون الكاتب المسرحي العربي غير ذلك؟ أما ونوس فقد اعترف بأنه في فترة الصمت تلك، الطويلة الاكتئاب، أمضى معظم الوقت في القراءة والتأمل، وكان عليه باستمرار أن يواجه أسئلة هذا التاريخ الموجعة .

حاول ونوس، عقب خروج الجيش العراقي مهزوماً من الكويت، العودة، بلغة مجازية، إلى هزائم قديمة في تاريخ العرب ما قبل النهضوي، من خلال مسرحية طقوس الاشارات والتحوّلات، التي أخرجتها نضال الأشقر، تاركاً للفرد أن يحتل مكانته الأساسيّة، ويتحمل مسؤوليته التاريخيّة، وهي من سمات مسرح ونّوس في مرحلته الأخيرة: الانتقال من الوعي الجماعي إلى التمرّد الفردي .

في السياق نفسه، تأتي مسرحية منمنمات تاريخية هندسة الخراب الذاتية، التي تجعل البلاد مهزومة قبل هزيمتها الأكيدة القادمة، لقد وصل إلى قفر موحش، يتنافس فيه البشر كي يذهبوا إلى الهاوية، حسب تحليل فيصل دراج . لقد أبرز ونوس في هذا النص تناقضا شديداً بين ضرورة ابن خلدون نظرياً ومعرفيا لتشكيل العمل التراثي الضروري للنهضة من جهة، ومن جهة أخرى قدم مثقفا تقنياً تقوده علومه، التي لا تنحاز إلى هموم الأمة والوطن، إلى التعامل مع الأجنبي تيمور لنك أي الخيانة، وذلك في زمن لم يكن يتداول مفاهيم الوطن- القومية- الأمة، بل ما كان يتداوله الحقل الدلالي لذلك الزمن الملة- الدين- المذهب، وحيث العالم ينقسم الى دار حرب ودار إسلام . كما حلل ونوس، بعمق، علاقة المثقف والمبدع بالسلطة والواقع، محملاً المثقفين، على رأي الباحثة البريطانية مريام كوك، مسؤولية المشاركة في الحياة العامة ورفض الاضطهاد . وعلى النقيض من غيره من الكتاب الذين كتبوا مسرحيات تاريخية، لم ينكر ولم يتجاهل قدرة التاريخ على إضاءة الحاضر .

وكان رد سعد الله ونوس على هزيمته كجسد نال منه المرض الخبيث، وعلى هزيمة وطنه بالكتابة، مصراً على رفض الاستسلام لأي واقع مهما كان قاسياً ومريراً، ولو كان الموت ذاته . بل بالأحرى صار ذلك المرض الحافز الأقوى الذي يدفعه باستمرار لتجاوز ذاته وشرطه الاجتماعي والإنساني، ولعل أعماله الأخيرة أحلام شقية، يوم من زماننا، ملحمة السراب، الأيام المخمورة، والحياة أبداً، إضافةً إلى طقوس الإشارات، ومنمنمات تاريخية، تؤكد ذلك، فلم يدفعه المرض إلى مراجعة تجربته فحسب، وإنما أبرز أفضل ما فيه، أي شجاعته ونزاهته والتزامه، فأبدع، وهو على عتبات الخطر، مسرحيات مدهشة وفريدة في تركيبها الفني ومناخاتها الأخاذة، مسرحيات تمثل، على حد تعبير حازم نهار، محاولة لإعادة التأمل في مشروع نهضتنا المنكسرة، وحداثتنا المجهضة والمشوهة، من خلال تعميق مساحة الرؤية لتطال كل شيء: السياسي والاجتماعي والذاتي والفردي، ومن خلال رؤية جدلية جسورة في الكشف والتعرية والبحث عن الحقيقة، تأكيداً لمقولته إن المسرح سيظل ذلك المكان النموذجي الذي يتأمل فيه الانسان شرطه التاريخي والوجودي معاً . وقد حاول ونوس، على مستوى البنية الدلالية لهذه المسرحيات، إشباع ما يسميه الجوع إلى الحوار، وإمكانية تحقيق الثنائية الحوارية: الحوار الذي يفضي إلى الديمقراطية، ومستويات الحوار المتعددة في المسرح، ليؤكد بعدها حتمية ديمقراطية المسرح .

علاقة

ركز ونوس في نصوصه المسرحية على علاقة المواطن بالسلطة، كما تتضح في: الفيل يا ملك الزمان 1969، مغامرة رأس المملوك جابر 1972، الملك هو الملك 1977، في النص الأول، المستلهم من حكاية شعبية، يصوّر ونوس فيلاً شرساً يعيث فساداً في المدينة، يقتل ويدمر ولا أحد يستطيع أن يفعل شيئاً، ولا حتى أن يشتكي للملك، صاحب الفيل، بسبب القمع والخوف . الناس المستلبون يخافون من السلطة الغاشمة لأنها تمثل في أذهانهم مجموعة من الرموز التي تدل على الجبروت والتعسف والجور . والشخصيات تحمل اضطهادها وقهرها ولاتسعى الى تأكيد ذاتها إلا من خلال الجماعة التي تنتمي إليها فقط . أما الشخصية الوحيدة التي تحاول مواجهة الفيل، وهو زكريا، فإنه يشكّل رمزاً للمقاومة الفردية غير المجدية، حيث يقف بين الشعب والملك محرضاً على التحرك وانتراع الخوف، في هذا النص يدين ونوس، كما فعل في حفلة سمر، الشعب المتسم بسلبيته وجموده وخوفه .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"