الغزو التركي.. انقلاب السحر على الساحر

03:22 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. محمد فراج أبو النور *

إذا كان قرار الرئيس الأمريكي ترامب، بسحب قوات بلاده من الشمال السوري، أعطى الضوء الأخضر لأردوغان لغزو منطقة شرق الفرات، بهدف تحقيق حلمه الأثير بإقامة «منطقة آمنة» على الأراضي السورية.. وإذا كان القرار مثّل تخلياً عن الكيان الانفصالي الكردي الذي استثمرت فيه الولايات المتحدة طويلا، بهدف تقسيم سوريا، فإن الصحيح أيضاً، هو أن القرار قد أطلق مجموعة من التفاعلات والوقائع التي أدت، وتؤدي إلى نتائج معاكسة لما أراده ترامب.
أولى نتائج قرار ترامب أن الأكراد السوريين، الذين وجدوا حلمهم بكيان المستقل ينهار، ووجدوا أنفسهم أمام خطر مذبحة تقيمها لهم تركيا، لم يكن أمامهم بد من قبول الوساطة الروسية بينهم، وبين دمشق.. فوافقوا على دخول الجيش السوري إلى مواقعهم من منبج غرباً، حتى الحسكة والقامشلي والحدود السورية - العراقية، والسورية - التركية في أقصى الشرق، والشمال الشرقي.
والواقع أن الترتيبات قد تمت بسرعة شديدة، وخلال أيام قليلة من بدء الغزو التركي (الأربعاء 9 أكتوبر)، بما استدعاه ذلك من جهد كبير لحشد، ونقل القوات والمعدات. وقامت الطائرات الحربية الروسية والسورية بحماية تحركات القوات من أي اعتداء محتمل من جانب السلاح الجوي التركي، أو طائرات التحالف الأمريكي، كما دخلت قوات الشرطة العسكرية الروسية مع قوات الجيش السوري إلى منبج في ريف حلب الشمالي، والطبقة (ومطارها)، على حدود محافظة الرقة، وسلم الأكراد الأحياء الشمالية من مدينة حلب التي كانت تحت سيطرتهم إلى القوات الحكومية.


فشل مشروع التقسيم

وكان هذا كله إعلاناً مدوياً عن فشل مشروع التقسيم، كما كان يعني بدء عودة منطقة شرق الفرات إلى سيطرة الدولة السورية، بما في المنطقة من حقول النفط والغاز، التي سيكون لإنتاجها دور كبير في إضعاف أثر العقوبات الأمريكية (60%) من إنتاج البلاد، وبما فيها من أراضٍ خصبة منتجة للقمح، وغيره من الحبوب.. وهذا أمر مهم للغاية في ظل الحصار الاقتصادي والمالي الأمريكي والغربي المفروض على سوريا.
ويتوالى دخول قوات الجيش السوري إلى المدن والبلدات والقرى في منطقة شرق الفرات، وسط استقبال حافل، خاصة من جانب الجماهير العربية، التي تمثل أكثر من نصف سكان المنطقة (بينما يمثل الأكراد نحو الربع، والأقليات العرقية والدينية والأخرى بقية السكان).. ومعروف أن هذه الجماهير عانت كثيراً من محاولات «قسد»، لإضفاء الطابع الكردي على المنطقة، وتجنيد أبنائها بالقوة، ومختلف أشكال الاضطهاد المستند إلى القوة الأمريكية.


انتصار سياسي روسي


أما بالنسبة إلى روسيا فإن هذه التطورات تمثل انتصاراً سياسياً لا شك فيه لها، سواء لدورها في الوساطة بين دمشق من ناحية، و«قسد» وغيرها من التنظيمات الكردية من ناحية أخرى.. أو لدورها في الدعم العسكري الفعال لتحركات الجيش السوري. ولا شك في أن هذه النتيجة غير المتوقعة للقرار وللعدوان التركي - كانت بمثابة المرة الثانية التي تنجح فيها روسيا في تغيير مسار الأحداث بصورة أساسية، بعد تدخلها العسكري المباشر، بناء على طلب دمشق في 30 سبتمبر/ أيلول 2015.
وما حدث فعلاً، هو أن موسكو خرجت رابحة من المأزق (ومعها دمشق بالطبع).. وحوّلت مسعى ترامب (لبيع) الأكراد إلى تركيا، لاتفاق بينهم وبين دمشق، ونجح الكرملين في قلب الطاولة على الخطة الأمريكية للمرة الثانية.. كما نجح التحرك السوري في (تحجيم) أبعاد عملية أردوغان.
يطالب أردوغان منذ سنوات، بإقامة «منطقة آمنة» بطول الحدود التركية - السورية، أو الجزء الأكبر منها كحاجز صد «الإرهاب الكردي»، مع أن (اتفاقية أضنة) لعام 1998 بين دمشق وأنقرة تسمح له بملاحقة مقاتلي حزب العمال الكردستاني التركي لمسافة خمسة كيلومترات داخل الحدود السورية، ومنع اتخاذه للمناطق الكردية شمال سوريا ملاذاً آمناً.. لكن الرئيس التركي بدأ خلال الشهور الأخيرة يتحدث عن «المنطقة الآمنة» بمفهوم أوسع بكثير، سواء من حيث الأبعاد (بعمق 30 كم أو أكثر)، أو من حيث وظيفتها، والهدف منها: نقل اللاجئين السوريين من تركيا إلى «المنطقة» للإقامة الدائمة فيها، بما يتطلب ذلك من بناء عدة مدن، وإقامة بنية تحتية وفروع للجامعات التركية.. إلخ، وبالطبع تحت الإشراف العسكري والسلطة التركية. وبمعنى آخر احتلال جزء كبير من الأراضي السورية، وإجلاء السكان الحاليين، ونزع ممتلكاتهم، وإحلال مليوني ونصف المليون إلى ثلاثة ملايين آخرين محلهم.
وفي إطار هذه العملية الكبرى للتغيير الديموغرافي (السكاني) يستطيع أردوغان أن يتخلص (برشاقة) من إرهابيي «داعش والنصرة» الموجودين في إدلب، أو الذين تؤويهم تركيا، ويسكنهم في المناطق الجديدة.


ضغوط سياسية وعسكرية


ومع تزايد الضغوط العسكرية السورية والروسية في إدلب، وتزايد الضغوط السياسية في الداخل التركي بسبب اللاجئين السوريين، بدأ أردوغان يشدد ضغوطه على أمريكا، وأوروبا، للموافقة على المشروع وتمويله، مهدداً بإطلاق موجات المهاجرين إلى أوروبا.. وطامحاً، في الوقت نفسه إلى أن تؤدي العملية العسكرية في سوريا إلى تحقيق أطماعه التوسعية من ناحية، وإقامة حاجز بشري بين أكراد بلاده والأكراد السوريين، من ناحية ثانية، وتحسين شعبيته المتدهورة هو، وحزبه، من جهة ثالثة.. وامتلاك أوراق أقوى بكثير في التسوية السورية القادمة من جهة رابعة.
ولجأ أردوغان إلى استخدام ما يسمى «بالجيش الوطني السوري»، المكون من عناصر سورية مسلحة تابعة لأجهزة الأمن التركية (مرتزقة)، يختلط بهم على نطاق واسع إرهابيون ومتطرفون.. كرأس حربة وغطاء لقوات الغزو التركي للشمال السوري.. وكان طبيعياً أن يؤدي هذا لإضعاف زخم الهجوم.. غير أن الأمر الأخطر بكثير كان قيام هؤلاء الإرهابيين بتنفيذ مذبحة وحشية لاثني عشر مدنياً سورياً (بينهم زعيمة حزب كردي صغير وسائقها ومرافقها).. تماماً كمذابح «داعش» و«النصرة».. وتم تسجيل الإعدام الميداني وإذاعته على وسائل التواصل الاجتماعي، ما أثار غضباً عاصفاً في أوروبا وأمريكا.. كما قصفت القوات التركية سجناً لأسرى «داعش»، ما أدى لهروب نحو تسعمائة منهم.. علماً بأن المنطقة تضم جيوباً وخلايا نائمة «لداعش» أصلاً..
وأثار هذا كله عاصفة غضب عالمية ضد تركيا، تطالبها بوقف إطلاق النار فوراً، وسحب القوات الإرهابية، وتحمّل المسؤولية الكاملة عن أسرى «داعش»، وعدم إطلاق سراحهم بأي حال، حتى لا يتحولوا إلى قنابل موقوتة متجولة في المنطقة، أو العالم.
ويواجه أردوغان عزلة غير مسبوقة، وإدانة دولية واسعة النطاق، وحظراً لتصدير السلاح من الدول الأوروبية الكبرى.. وأصبح واضحاً أن مغامرته العسكرية في سوريا لن تحقق أهدافها إلا بصورة محدودة، وبثمن فادح.. إذا لم يجبر على الانسحاب في النهاية، سواء بوسائل سياسية، أو عسكرية.

* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"