السياسة والمال "صديقان لدودان" في الرياضة

03:49 صباحا
قراءة 7 دقائق
إبراهيم ربيع
السياسة والمال هما الفناء الخلفي للرياضة . . وربما يمكن أن تعكس "المقولة" وتكون صحيحة أيضا . . وتتحدد النتيجة حسب قوة الأطراف في صراع على تنظيم حدث رياضي كبير أو التعبير عن احتجاج سياسي عبر بطولة أو دورة أو حتى مجرد مباراة .
العلاقة الوطيدة بين السياسة والرياضة ليست وليدة العصر الحديث أو حقبة معينة من الزمن . وإن كان التأثير المتبادل يرتفع أو يهبط حسب العلاقات التي تحكم العالم والدول في زمن ما . فالتاريخ يشير لنا بوضوح إلى أن الرياضة ارتمت في أحضان السياسة منذ عصور الإمبراطوريات والملوك . . بل كلما اشتد صراع السيطرة على موارد الكرة الأرضية وزاد عدد المتنافسين، زادت معها أساليب جذب الشعوب إلى المستعمرين لاسترضائها وإلهائها بالرياضة أو غيرها . وكان ملوك الزمن القديم ينظمون المسابقات والمبارزات والتجمعات التنافسية الاحتفالية لكي ينالوا منها التكريم والتبجيل ويشعرون بذواتهم وهيبتهم وحضورهم الجماهيري . وهذا نراه في عصورنا الحديثة الحالية بأشكال مختلفة، مثل أن يحضر الرئيس أو الزعيم أو الملك افتتاح وختام الأحداث الرياضية الكبيرة لكي يكون لصيقاً بشعبه ومروجاً لنفسه وواضعاً شعبيته تحت الاختبار .

اتساع العلاقة

عندما اتسعت دائرة الأحداث الرياضية خاصة الكبيرة منها وظهر نجوم وأبطال مدهشون لجماهير تتابعهم وتتعلق بهم . اتسع تدخل السياسة والمال في الرياضة واتخذوها وسيلة للثواب والعقاب وحل الأزمات المعقدة التي بدت بلا حلول . وفي مراحل قاسية من التاريخ كانت السياسة مدمرة للرياضة وبالذات عندما يتحول الصراع السياسي إلى صراع عسكري على نطاق واسع .
فمثلا تم إلغاء أولمبياد 1916 بسبب الحرب العالمية الأولى وأولمبيادي 1940 و1944 بسبب الحرب العالمية الثانية، وهو نفس الحال مع كأس العالم لكرة القدم التي بدأت عام ،1930 وسرعان ما تدخلت السياسة والحروب لتوقفها عامي 1942 و،1946 وفي هذا الزمن العنيف المدمر جاء استغلال الزعامات التاريخية للرياضة في سقفه الأعلى . وأبرز الأمثلة ما فعله الفاشي الإيطالي موسوليني باستغلال استضافة بلاده لكأس العالم عام 1934 في الدعاية لفكرة السياسي الفاشي وقلده هتلر في ألمانيا للدعاية للنازية في أولمبياد 1938 بمدينة برلين .
وظلت الدورات الأولمبية وكؤوس العالم لكرة القدم الأكثر ارتماء في أحضان الرياضة بالسياسة والمال . وبدأت الحكومات ترمي بثقلها داخل المؤسسات الرياضية العالمية المهمة مثل اللجنة الأولمبية الدولية والاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) . بل وصل الأمر إلى أبعد من ذلك عندما همس البعض بتدخل الأجهزة المخابراتية . مثلا لو لم تكن السياسة والمال فاعلين بشدة في تنظيم الأحداث الرياضية الكبرى لما كانت قطر مثار جدل عالمي بشأن تنظيمها لكأس العالم 2022 . والاتهامات الصريحة بتدخل دول أوروبية والولايات المتحدة لدى "فيفا" لاختيار الملف القطري، رغم عقبات ضخمة يستحيل معها التنظيم مثل الطقس والجماهير .
ومن الرياضة حظيت دول بمعرفة عالمية مثل البرازيل . فلولا نجومها على مر الأجيال لما كانت لها معرفة عالمية وبالطبع قبل أن تقفز اقتصاديا في السنوات الأخيرة . وهي الآن تقدم نموذجا لتأثير السياسة والمال في حدث رياضي كبير جداً . نحن نرى حالياً الاحتجاجات والتظاهرات والمخاوف من أن تفشل استضافة كأس العالم هذا العام بسبب الجوعى الثائرين على صرف مليارات الدولارات على انشاء الملاعب والمنشآت الرياضية واتهامات الفساد، وخلفهم الأحزاب المعارضة . وخرج علينا بيليه النجم البرازيلي القديم والأشهر ليحذر من خطورة أن يتأثر المونديال بالاحتجاجات . وقبله كان النجم الجديد نيمار يقول عند استضافة بلاده لكأس العام للقارات أن من حق الفقراء أن يثوروا على فقرهم، ولم يخف تعاطفه معهم، وفي الوقت نفسه يتمنى لو تأجلت التظاهرات إلى حين الانتهاء من البطولة . وخرج سياسيون يناشدون المعارضة بأن يمرروا أولاً تنظيم البطولة حتى تنجح البرازيل ثم يفعلون ما يشاؤون بعد ذلك .

وجوه كثيرة للتأثير

ولتأثير السياسة في الرياضة وجوه كثيرة فأحياناً تخرج دولة عن مدارها الإقليمي والقاري في الرياضة بسبب السياسة مثل "إسرائيل" التي تشارك في بطولات أوروبا . بل هي غارقة في استخدام السياسة لضرب الرياضة الفلسطينية مثلاً . تمنع الفرق من الخروج إلى معسكرات وبطولات في الأراضي المحتلة، وتعرقل زيارات فرق أجنبية . وهي تقوم بذلك ليس من قبيل المضايقات التي تأخذ أشكالا كثيرة على كل الصعد، بل هي تعتقد أن إضفاء الشرعية على الرياضة الفلسطينية هو إضفاء تلقائي للشرعية على الدولة الفلسطينية . وكانت منزعجة جدا من زيارة بلاتر رئيس الاتحاد الدولي لمدينة رام الله وافتتاح مقر الاتحاد الفلسطيني الممول من "فيفا" . ولم تتردد "إسرائيل" في اقتحام ملاعب ومنع مباريات في الأرض المحتلة لأنه هدم لفكرة الدولة .
ولو لم تكن الرياضة سياسة بامتياز، ما وقفت حكومات الدول على أعلى مستوى لتساند مرشحين لها في اتحادات دولية، أو وراء ملفات لاستضافة الأولمبياد والمونديال . وكان رؤساء الدول في مقدمة حضور مراسم الإعلان عن الفائزين بملفات الاستضافة . ولو لم تكن الرياضة "سياسة ومالاً" ما تنافست الدول لتقدم التكنولوجيا المتطورة الخاصة بها في حفلات الافتتاح والختام . ولو لم تكن كذلك ما استمرت دورات نوعية لا محل لها من الإعراب مثل الدورة الفرانكفونية للناطقين بالفرنسية، كما لو كانت إحياء لذكرى الاحتلال الفرنسي .

العلاقة العنيفة

وفي إطار تحركنا في الحديث عن هذه العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل وقبل التطرق لنموذج دورة "سوتشي" الروسية الشتوية فإننا نتذكر ما فعلته السياسة والصراع الخفي في دورة ميونيخ الأولمبية في السبعينات عندما شن فدائيون فلسطينيون هجوماً على مقر البعثة "الإسرائيلية" وكانت مقاطعة الدورات والبطولات سلوكاً سياسياً ووسيلة عقاب بوجه رياضي خاصة في عصر القطبين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي . قاطعت أمريكا أولمبياد موسكو عام 1980 . وقاطع الاتحاد السوفييتي أولمبياد لوس أنجلوس واحدة بواحدة .
وكما تم استثمار الرياضة في إصلاح حال السياسة حدث أيضا العكس . فمثلاً السياسي الأمريكي الشهير هنري كيسنجر استخدم دبلوماسية "البنغ بونغ" في بداية الثمانينات لوضع حد للمقاطعة السياسية بين أمريكا والصين . لعب فريقان من الدولتين فذابت المشكلات الكبيرة . وعكس ذلك المقاطعة أو ما حدث مثلاً بين مصر والجزائر قبل وأثناء وبعد المباراة الحاسمة في الخرطوم المؤهلة لنهائيات كأس العالم . تسببت الرياضة في أزمة سياسية بين دولتين شقيقتين، ثم نلمس بوضوح استخدام الرياضة كورقة ضغط سياسية . مثلاً انجيلا ميركل مستشارة ألمانيا طلبت علناً من الدول الأوروبية مقاطعة بطولة كأس الأمم الأوروبية التي نظمتها أوكرانيا وبولندا بسبب رفض الحكومة الأوكرانية إطلاق سراح يوليا تيموشينكو رئيسة الوزراء .

المقاطعات

وبطريقة أخرى هبّ زعماء كبار في العالم مهددين بمقاطعة دورة الألعاب الأولمبية عام 2020 تنديداً بقرار اللجنة الأولمبية الدولية إلغاء مشاركة المصارعة في الدورات الأولمبية، وهي من أقدم الألعاب في التاريخ . خرج الرئيس الأمريكي أوباما ليقول إن المصارعة جزء من الثقافة الأمريكية ويتم تدريسها في المدارس ولها شعبية طاغية . وتبعه الرئيس الروسي بوتين بالقول إن تاريخ روسيا مرتبط بالمصارعة . وعندما استضافت إيران بطولة العالم للمصارعة طلت السياسة بوجهها بحضور بارز للرئيس الإيراني وقتها أحمدي نجاد في اليوم الختامي . وكانت لفتة مهمة منه عندما التقى مع الوفد الأمريكي وتسابق المصارعون الأمريكان لالتقاط الصور معه في كسر واضح للحظر الأمريكي السياسي .

تقسيم العالم

ومن الغرائب أن تنظيم حدث رياضي كبير يقسم العالم إلى نصفين . نصف يختار سياسات الدولة المنظمة لاعتبارات خاصة بالملفات، تلك الملفات التي فضحت "فيفا" مؤخراً وكشفت عن رشاوى مدفوعة لبعض أعضاء المكتب التنفيذي المعني بالاختيار، ورغم ثبوت الفساد فإن السياسة وقفت حائلا دون تغيير قرارات الاختيار، واكتفت بعقوبات جميعها انصب في إقالة المتهمين من مناصبهم، ولم تتجرأ أوروبا على تكثيف مطالباتها بإجراء تحقيقات جادة في فساد الاختيار لأن قياداتها الرياضة طالها شيء من الفساد، فهي تتحدث فقط عن مظاهر يجب تغييرها أو تحسينها من دون الإشارة إلى وجوب إعادة عرض الملفات . ثم هناك نصف العالم الذي يرى أنه ليس من الواجب منح دول ديكتاتورية قمعية فرصة لاستضافة الأحداث الرياضية الكبيرة . والنصف الآخر يعتقد أن الرياضة يمكن أن تحسن السياسات القمعية، ولا مانع من أن تحظى الديكتاتوريات بشرف التنظيم ربما يغيّرها تلاحم الشعوب . وهناك من اقترح أن تضع المؤسسات الرياضية الدولية شروطاً لتنظيم البطولات تضع فيها شرط وجود إصلاحات سياسية تمنح شعوبها مزيدا من الحرية وحقوق الإنسان .
وكانت مدينة "سوتشي" الروسية آخر نماذج الخلفية السياسية وراء تنظيم الأحداث الرياضية . ومع فعالياتها ومنافساتها وسباقاتها يجري الحديث عن روسيا السياسية ومتابعة قادة العالم للقدرات الروسية في منع الإرهاب حتى اضطرت إلى الدفع ب"40" ألف شرطي لتأمين الدورة بعد تهديدات متطرفين من القوقاز بالهجوم على الدورة من خلال شريط فيديو . وكان ملفتاً أن تتزامن الدورة مع زيارة رئيس الوزراء الياباني شينزوبي والرئيس الصيني شي جين وذهابهما إلى "سوتشي" واستثمار الدورة لتحسين العلاقات السياسية . وأعلنت الصين أنها المرة الأولى التي يحضر فيها رئيس صيني افتتاح دورة خارج الصين . وهو إيحاء بتحالف جديد ضد النصف الآخر من العالم المتمثل في الغرب المسيطر بقيادة أمريكا على العالم حالياً . بل وتحدث الرئيسان الروسي والصيني من خلال التلفزيون للعاملين بالسفن الروسية والصينية المعنية بنقل الأسلحة الكيمائية السورية إلى البحر .
هذا هو الوجه الآخر للرياضة . الوجه السياسي والمالي حتى إن اللجنة الأولمبية نفسها اعترفت على لسان بعض أعضائها بأنها تريد أن تساعد روسيا "الجديدة" التي تمثل الكثير بأبطالها للحركة الأولمبية بصرف النظر عما يصلها من مشكلات خاصة بقوانين حظر "المثليين" في المشاركة بالحياة العامة وفي الرياضة، وتحدي الولايات المتحدة وتضمين بعثتها اثنين من المثليين الرياضيين . وقوانين أخرى تتعلق بالتضييق على الحريات العامة .
إضافة إلى أحاديث كثيرة ملأت الصحف الغربية خصوصاً، بشأن فساد كبير طاول عملية بناء المنشآت الرياضية في "سوتشي"، وبعضها يستند إلى موقف سياسي .

كاتب وباحث مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"