"كوم الدكة" تاريخ من الأسرار

أقدم أحياء الإسكندرية يروي ذكريات "الثغر"
13:06 مساء
قراءة 3 دقائق

يجمع حي كوم الدكة التابع لدائرة العطارين في مدينة الإسكندرية المصرية بين أصالة عريقة تضرب بجذورها في عمق تاريخ مدينة الثغر المصرية، ومعاصرة لم تتمكن على مدى عقود من الزمان من أن تسلب هذا الحي العتيق مذاقه المميز، وأجواءه التي ماتزال تجتذب العشرات من الفنانين والباحثين المصريين في مختلف المعارف .

يتوسط حي كوم الدكة الإسكندرية فيقسمها إلى قسمين، أحدهما يضم أحياء منطقة وسط البلد الراقية، بينما يضم القسم الثاني أحياء المدينة القديمة، بما تحمله على جدرانها من ذكريات .

ويتميز حي كوم الدكة بأنه مقام على ربوة عالية، ترتفع عن الشوارع التي تحدها من الجهات الأربع بنحو 60 متراً تقريباً، وهو ما يؤكد العديد من الدراسات الآثارية التي تقول إن الحي على صورته الحالية يقبع فوق كنز من الآثار التي يرجع بعضها إلى العصور الفرعونية وبعضها الآخر إلى عصور اليونان والرومان، فيما تؤكد دراسات أخرى أنه ينتصب فوق واحدة من أهم القلاع القديمة .

ويذهب كثير من مؤرخي الإسكندرية في عصرها الحديث إلى القول، إن منطقة كوم الدكة بنيت على صورتها الحالية قبل مئات السنين على أنقاض منطقة تضم قبور عدد من الملوك القدامى، بل إن بعضهم يذهب إلى القول إن المنطقة تضم بين ما تضم المقبرة التي دفن فيها الإسكندر الأكبر المقدوني مؤسس الإسكندرية في عهد البطالمة الأول، وهي الرواية التي يؤكدها كثير من سكان الحي الذين يؤكدون أن حيهم مبني على آثار بطليمية ويونانية ورومانية تعلو عن سطح البحر بنحو 75 متراً، وهم يدللون على ذلك بأنهم عند بناء أي عقار لا بد أن يستعينوا بعدد من العمال المهرة للقيام بأعمال الحفر التي تستلزم عمل ما يسمى الطبلية على اعتبار أن الحي مقام على كم هائل من الآثار .

ويروي السيد حرحش (على المعاش) ما حدث له ذات مرة قبل ما يزيد على خمسة عقود أثناء قيام والده الذي كان يعمل حائكاً للملابس البلدية ترزي عربي، ويقول إنه فوجئ أثناء عمله على ماكينة الخياطة في الخمسينيات بانهيار بلاط أرضية المحل، ليفاجأ بسرداب طويل يمر من أسفل مكان ماكينة الخياطة، حيث اضطر والده حينذاك إلى كتمان الأمر حتى لا تقوم الجهات الرسمية بمصادرة المكان، وقام بإلقاء كميات كبيرة من الحجارة بمعدل عربتي لوري كبير لإغلاق جزء من السرداب الذي يمر أسفل محله .

ويدلل حرحش بقصة والده على الكم الهائل من الآثار المدفونة الموجودة في منطقة كوم الدكة، وهي القصة التي تؤكد أنها منطقة تسبح فوق بحر من الآثار البطلمية واليونانية والرومانية، وهو يشير في ذلك إلى أن أغلبية المباني التي يرجع تاريخ بنائها إلى عهد المماليك في ذلك الحي العتيق الذي ترجع تسميته إلى المصاطب التي كانت تقام في غابر الزمن أمام المنازل، وكانت مخصصة لجلوس الرجال عقب الانتهاء من أعمالهم للتسلية، ولذلك سمي الحي باسم كوم الدكة، حيث لاتزال معظم الحواري والأزقة الضيقة تحتفظ حتى اليوم بآثار تلك المصاطب .

ويعد حي كوم الدكة أحد أحياء الإسكندرية العريقة التي شهدت أول مصارعات من نوعها في مصر، وهي مصارعات الديكة، ويقول أحمد محمد الجزار البالغ من العمر 80 عاماً: كنت وأنا بعد صغير، أسمع مثل هذه الحكايات من والدي الذي نقلها بدوره عن جده الذي ولد في كوم الدكة منذ نحو 160 عاماً تقريباً، وقد كان أبي يخبرني بأن هذا الحي الذي ولدنا فيه كان يشهد في عهد الأتراك العثمانيين لعبة المصارعة بين الديوك التي كانت تقام عند الجبل الموجود خلف فسقية المياه على أطراف الحي، حيث كان المتسابقون يجتمعون بديوكهم التي يربونها في منازلهم في ساحة الجبل للاشتراك في المسابقة، ولذلك أطلق الاسم كوم الدكة تحريفاً عن ديكة المصارعات في ذلك الزمان .

ولا يقتصر تاريخ حي كوم الدكة في الإسكندرية على مثل هذه القصص المتناثرة، وإنما يمتد ليطال ارتباطها بالعديد من الأحداث التاريخية المهمة، ربما كان من أهمها أنها شهدت بطولات المصريين خلال فترة مقاومة الحملة الفرنسية، ومن بعدها المناقشات التي أجراها محمد كريم لتنصيب محمد علي والياً على مصر، وقد أقام في الحي نفسه عبد الله النديم خطيب الثورة العرابية، وقد شهد حي كوم الدكة ميلاد أحد المجددين العظام في تاريخ الموسيقا العربية الشيخ سيد درويش، حيث لايزال منزله القديم مقصداً للعديد من زوار الحي .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"