ما وراء الوجه

03:14 صباحا
قراءة دقيقتين
علاء الدين محمود

ما الذي يريده الفنان من عملية رسم الوجه من دون سائر الجسد؟ هذه المهمة تبدو أكثر تعقيداً مما نعتقد، فالفنان عند رسم الوجه إنما يقوم بمحاولة جبارة للنفاذ إلى الروح، هي أشبه بالمهمة الفلسفية، فهو يسعى عبر إظهار ملامح الوجوه وتعبيراتها، إلى الولوج إلى ما وراء ذلك الوجه، كأنما يقوم برحلة استكشافية عميقة، لذلك ليس مستغرباً ذلك التشبيه الشهير الذي أجراه المفكر الفرنسي الشهير «جيل دولوز»، بين تاريخ الفلسفة وعملية رسم الوجوه عند الرسامين والمصورين، فالمؤرخ بحسب «دولوز» هو رسام يحاول أن ينفذ إلى أوجه الفلسفة المتعددة، ولعل مثل هذه التشبيهات حاضرة بقوة في عند «دولوز» فهو كذلك يشبه فلسفة «نيتشه» بالمرآة المتقلبة ذات الوجوه المتعددة، ليست وجوه الخارج المسطح، بل الداخل اللولبي المتسع نحو أبعاد لا نهائية، فملامح الوجه عند «دولوز» هي العتبة التي تغري بالإيغال إلى الداخل العميق، والمعقد، والمشتبك.

وتلك هي العملية التي يقوم بها الرسام تماماً الذي يستحضر أثناء عملية رسم الوجه التاريخ وعلم الفراسة والفلسفة وعلم النفس، فهو يفككك تلك المفاتيح والرموز التي يلقي بها تعبير الوجه من ابتسامة، وحزن، وألم، وغيرها، ليتعمق عبر تلك الدلالات إلى داخل الإنسان، إلى ذاته وروحه، فالرسام يعمل من خلال هذا العمل الإبداعي إلى تقديم شخصية الإنسان الذي يرسمه عبر ملامح وجهه، بل إن كثيراً من الفنانين العالميين كانوا يحدقون بشدة في وجوه بعض الناس من أجل تذكّرها ورسمها فيما بعد، وهي المهمة التي كان قد برع فيها دافينشي الذي روى عنه المؤرخون أنه كان يلاحق في بعض الأحيان، أشخاصاً «غريبي» المظهر الخارجي خلال سيرهم في الشوارع، لكي يتذكر وجهوهم حتى إنه في إحدى المرات، استدعى غرباء لدخول منزله، ومازحهم ليتذكر ضحكاتهم، ويرسمها فيما بعد، وتلك من الأشياء التي لا يعرفها الناس عن دافينشي الذي اشتهر بالموناليزا، غير أنه برع بشكل كبير في رسم وجوه رجال ونساء، تحتشد بالتفاصيل المشوهة بصورة غريبة، وقد أطلق عليها اسم «الوجوه الوحشية»، ويرى النقاد أن هذا التناول غير التقليدي عنده، يأتي كمحاولة منه لاستكشاف ملامح وجه الإنسان المرتبط بعلم الفراسة؛ أي علم لغة الجسد، فهو كان يرمي إلى استجلاء النوايا، وما يخفي الإنسان في أعماقه، فربما يكون الوجه الودود هو عنوان خاطئ، أو زائف لشخص شرير، أو مجرم، وهو الأمر نفسه الذي كان يفعله الفنان لوسيان فرويد الذي تخصص في رسم الوجوه الشخصية غير المريحة، التي تبدو عليها دائماً ملامح القلق والتعب، وحتى عندما وقفت أمامه الملكة ليرسمها، أبى إلا أن يضع لمسته على شكلها، فهو دائماً يسعى إلى اكتشاف الجوهر من خلال الوجه، وربما يشير ذلك إلى تأثره بجده سيجموند فرويد، عالم النفس الأشهر.

ويذهب كثير من المؤرخين والنقاد إلى أن عملية رسم الوجوه وتصويرها قديمة، وربما تعود إلى الفن الهلليني، حيث شاع تصوير الوجه البشري على نحو يشبه البورتريه المتعارف عليه حالياً، كما شاع رسم الأقنعة الجنائزية التي تحمل صورة وجه المتوفى.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"