هل استشرف المثقف الثورات العربية؟

كتابات ادعت التنبؤ بأثر رجعي
02:13 صباحا
قراءة 12 دقيقة

في أعقاب الثورتين المصرية والتونسية قرأنا بعض الكتابات التي ادعت أنها تنبأت بما حدث . في التحقيق التالي حاولنا اختبار صحة هذه الدعوى، بعض المشاركين أكدوا أن ذلك لم يحدث وطرحوا تصوراتهم لأسباب عجز المثقف عن استشراف المستقبل، والبعض خلط بين مفهوم الاستشراف المعمول به في الدراسات المستقبلية الذي من خلال رصد مفردات حركة الواقع بإمكانه الاقتراب مما سيحدث، والنقد المحرض على التغيير الذي مارسته، بلا شك، أقلام عربية كثيرة على مدار السنوات الماضية . وفريق ثالث حلل طبيعة الحراك الذي تشهده بعض الأقطار العربية بوصفه يمتلك سمات جديدة وخاصة فاجأت الجميع وليس المثقف وحسب .

يرى د . عبدالمنعم تليمة أن الأحزاب السياسية العربية منذ نشأتها في القرن التاسع عشر عملت باستمرار من أجل الإصلاح والتقدم، لكن تبقى الثقافة في الصدارة دائماً من هذا الحراك السياسي ابتداء من: حسن العطار ورفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وعلي عبدالرازق والعقاد وطه حسين ولطفي السيد وصولاً إلى نجيب محفوظ ويوسف إدريس، وما من كاتب أو شاعر إلا تناول الاستبداد المحلي والهيمنة الاستعمارية في كتاباته من خلال اللغة الحية وفي مقدمتها اللغة العربية التي استقطبت شاعراً من غير أبنائها وهو أحمد شوقي ليكون أميراً للشعراء، فالعسكريون العرب لم يخوضوا معركة انتصار فاصلة، والاقتصاديون العرب لم يفلحوا في إقامة سوق عربية مشتركة، ولكن المثقفين العرب قدموا الكثير، صحيح أنهم قد تعثروا كثيراً وتعبوا كثيراً، لكن تظل الثقافة العربية هي ساحة النضال العربي الأولى وهم نجحوا في التنبؤ بالثورات، فلدينا كوكبة من شعراء العامية والفصحى الذين حذروا من غضب الشعوب، ولكنهم لم يجدوا آذاناً مصغية من الحكام أمثال أمل دنقل في قصيدته الكعكة الحجرية، وقد شاهدنا في مهرجان كان السينمائي مؤخراً أعظم تكريم للسينما المصرية، فالثقافة هي التي قادت قطار التغيير في العالم العربي .

أما الدكتور الطاهر مكي فيشير إلى أن المثقف يختلف من بلد عربي إلى آخر، ففي تونس استطاع الرئيس السابق زين العابدين بن علي أن يستأصل المثقفين التونسيين الأصلاء فلم يبق إلا قلة من المتفرنسين الذين أصبحوا أعداء لكل ما يتصل بالشخصية التونسية . أما المثقفون التونسيون الحقيقيون فتم عزلهم وتهميشهم وتم تجريدهم من أية وسيلة يحتجون بها والذين لم يعجبهم هذا الوضع إما في السجن وإما هربوا . ونحن نعرف أن الذي أشعل الثورة التونسية بائع متجول أمام عربة يدفعها بيده ويبيع عليها بعض الخضراوات لأنه غضب لكرامته حين صفعته امرأة تعمل في جهاز الشرطة، فالذي أشعل الثورة رجل فقير .

لكن في مصر الأمر مختلف فالنظام السابق اشترى معظم المثقفين، فأحدهم عندما تم إخباره باندلاع مظاهرة في ميدان التحرير في بداية الثورة علق قائلاً: لا يضير ثلاثين ألفاً من أصل ثمانين مليوناً .

وهناك بعض العاملين في الصحافة كانوا ضيوفاً على مائدة النظام ينافقون له ويضللون الشعب وكانوا في مقابل ذلك يعيشون في رغد، فكيف يمكن لهؤلاء أن يتنبأوا بالثورة التي ليست في مصلحتهم؟ لقد قامت الثورة بعيداً عن هذا المستوى وقام بها مجموعة من الشباب عن طريق جهاز عصري لم ينتبه إليه المثقفون العواجيز الفيس بوك لأنهم لا يستخدمونه .

ويوضح مكي: عندما قامت ثورة تونس، قال وزير الخارجية السابق أحمد أبو الغيط : مصر غير تونس ومبارك يختلف عن ابن علي، فالمثقفون المصريون لا يستطيعون أن يدّعوا أنهم تنبأوا بالثورة وأنهم أشعلوا أحداثها .

لكن في المقابل هناك عدد من المثقفين القليلين الذين مهدوا للثورة بكتاباتهم أمثال الدكتور حسن نافعة والشاعر فاروق جويدة الذي كشف النقاب عن العديد من جرائم الفساد التي ارتكبها رجال النظام السابق من خلال مقالاته في جريدة الأهرام .

ولسوء الحظ هناك مجموعة من المثقفين الموالين للنظام السابق يحاولون الآن القفز على مكتسبات الثورة، فهم كانوا مع النظام المخلوع ويحاولون الآن أن يكونوا مع رجال اللحظة وفي الغد لا قدر الله إذا استجدت أمور وتوالت مفاجآت سيكونون في الصفوف الأولى لأنهم يتلونون مع كل العصور، ولهم من ذكائهم وأقلامهم ما يعاونهم أن يلبسوا لكل حالة لباسها .

ولا يخجلون ولا يتراجعون وهؤلاء أخطر على الثورة من الذين يعادونها علانية لأن المعادين علناً معروفون لا يخشى منهم لكن الذين ينافقون ويخادعون على استعداد لأن يغيروا ولاءهم مع أية بادرة يربحون فيها أكثر .

الشاعر عبدالمنعم رمضان يرى أن المثقف العربي لم يستطع التنبؤ بالثورات لأنه فوجئ بها مثلما فوجئنا بها في مصر مثلاً، حيث تحول المثقفون إلى جثة هامدة خاصة في السنوات الأخيرة وبالتحديد منذ انتهاء الحرب الباردة وسقوط الأنظمة الاشتراكية في العالم وسقوط الأنظمة العربية التي زعمت أنها تقدمية، وبالتالي أصبح المثقف العربي في مصر وسواها يتيماً بلا أب ولما بحث عن أب لم يجد إلا النظام الذي ينتسب إليه فاتخذه أباً له، وفي مصر ما سمي بالحظيرة الثقافية التي كان يتباهى وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني بنجاحه في إدخال معظم المثقفين المصريين فيها لضمان ولائهم للنظام السابق .

ويقول الكاتب صقر أبو فخر: الثورات الجذرية والحاسمة في التاريخ ما كان في إمكان أحد أن يتنبأ بها بدقة رياضية، فهي تأتي والناس لاهون أو مشغولون في شؤونهم اليومية أو نائمون . وثورات التاريخ صنعتها قلة من الناس في العادة، بطرائق سرية وتآمرية، أو بوسائل عدة كالتمرد أو الاغتيال أو انقلابات القصور وغير ذلك . أما الثورات الراهنة التي تندلع اليوم في الوطن العربي فهي من طراز جديد تماماً . ومع ذلك فإن من المجازفة في الاستنتاج القول إن المثقف العربي لم يتنبأ بها، وإن عيون المثقفين كانت غافلة كلياً عن هذا المخاض . غير أن الذين أيقظوا شرارة هذه الثورات هم الذين ما كانوا قادرين على التنبؤ بالأحداث إلى حد بعيد . لنتذكر أن بو عزيزي الذي أشعل الثورة التونسية لم يكن يفكر في الثورة حين أشعل نفسه، بل إن ما فعله إنما هو احتجاج فردي على إهانته والنيل من كرامته . لنتذكر أيضاً أن الشبان المصريين كانوا قد تداعوا إلى التجمع في ميدان التحرير في 25 يناير/كانون الثاني قبل الماضي، أي قبل عام من الثورة، ولم يأتِ آنذاك إلى ميدان التحرير إلا نحو 300 شخص، فضُربوا وطردوا من الميدان . أما في 25 يناير/كانون الثاني الماضي فأُعيدت الكرّة واندلعت الثورة .

لماذا؟ ثمة أسباب مرئية وأسباب غير مرئية، تفاعلت وتضافرت لتجعل من التغيير خياراً ممكناً . ويعتقد أبو فخر أن الذين نظموا الدعوة إلى التظاهر من خلال الفيس بوك لم يكن خيالهم قادراً على توقع الأحداث اللاحقة بصورة جلية . وفي المقابل، فإن المثقفين العرب النقديين لم تكن رؤوسهم في الرمال تماماً . فمنذ أكثر من 25 سنة نُشرت مئات الدراسات، وصدرت عشرات الكتب وآلاف المقالات، وكلها تشدد على أن الأحوال في العالم العربي لا يمكن أن تستمر على هذا المنوال طويلاً، وأن معدلات الأمية، ومعدلات البطالة والفقر، وفشل مشروعات التنمية، وتقاطر أبناء الأرياف إلى المدن الكبرى، وظهور اقتصاد الضواحي والأحياء العشوائية، فضلاً عن الفساد والثراء الفاحش للفئات المتنفذة، واستبداد السلطات كلها ستؤدي إلى انفجار الأوضاع في لحظة ما .

لكنه يعترف أن هذه التوقعات كانت تجري على مستوى التحليل الاقتصادي والاجتماعي، وقل أن تمكن السياسيون والمثقفون اليوميون، خصوصاً اليساريين، من التقاط عناصر التفاعل التي تسبق عاصفة التغيير، بل كثيراً ما كان هؤلاء يقيمون المنادب لذم الزمان وتقريع الشعوب جراء استكانتها وخنوعها ورثاثتها .

نعم، كثير من المثقفين العرب أشاروا إلى أن الأحوال العربية التي انقلبت، أيما انقلاب، في أواخر سبعينات القرن العشرين فصاعداً، ستخلخل عناصر الاستقرار في البلدان العربية، وأن التغيير آتٍ لا ريب فيه .

لكن هذه التوقعات تذكرنا بكتاب زبغنيو بريجنسكي العصر التكنوتروني وكتاب هربرت ماركوز الماركسية السوفييتية وكتاب كارير دانكوس سقوط الاتحاد السوفييتي وغيرها من الكتب المستقبلية التي تمكنت من استشراف التطورات السياسية اللاحقة، لكنها بقيت في النطاق الأكاديمي، ولم تنتقل إلى النطاق السياسي المباشر .

إن المثقف يسبق الثورة في العادة . لكن، ما إن تندلع الثورة حتى يجد نفسه خارجها . لماذا؟ لأن ميدانه هو التفكير حتى لو أخطأ في توقعاته . وميدان الثوار هو التجريب، والويل لمن يخطئ في حساب السياسة .

ويقول الشاعر محمد علي شمس الدين: علينا أن نشير أولاً إلى أن السؤال يفترض أن المثقف لا يزال يحمل الصفات والمميزات التي كان يحملها سابقاً، وهذا الافتراض بات اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، موضع شك كبير . ففي زمن سيطرة الفضائيات ووسائل الاتصال الحديثة، لم يعد المثقف العربي يحتل موقعاً طليعياً في أي حراك سياسي أو اجتماعي، كما أن أنظمة الحكم القائمة في العالم العربي طردت المثقفين إلى الهامش أو إلى السجون، وأبقت على شكل المثقف النفعي أو الممالئ للسلطة . ضمن هذا السياق، بات مستبعداً أن نتحدث عن نبوءة أو استشراف مسبق للمستقبل . ما حدث في الانتفاضات والثورات العربية الأخيرة مثال ساطع على أن هذا النوع من الحراك المفاجئ يحتاج إلى تراكم طويل من القمع وكم الأفواه والاستئثار الذي مارسته أغلب الأنظمة العربية من دون ان تحسب حساباً لفكرة ان الشعوب يمكن أن تثور ضد قاهريها . لقد أنتج هذا القهر ثوراتٍ على قياسه ونوعيته، وهذا ما يفسر خروج أولى المبادرات الاحتجاجية من وسط الشباب اليائس من الواقع المعيشي، وكان محمد بوعزيزي الشرارة التي أشعلت الثورة في تونس، التي تحول السقوط السريع والدراماتيكي للنظام إلى مثال يُحتذى في بلدان عربية أخرى .

إن هذه الثورات كلها خرجت من رحم الشرائح الهامشية وأجيال الشباب التي صنعت ثقافتها وسلوكياتها الحديثة بطريقة غير متلائمة مع الثقافة والأيديولوجيات التي قامت عليها أنظمة الحكم الأكبر سناً من أعمار هؤلاء الشباب . هناك بالطبع مثقفون ناشئون وناشطون حقوقيون ومدونون على الانترنت، فضلاً عن ممارسات باتت سائدة أكثر من السلوك القديم للمثقف التقليدي صاحب الكتاب والمقال والرأي . لم يتنبأ هذا المثقف بالثورات والانتفاضات الجديدة، بل التحق بها وشارك فيها بوصفها جزءاً من أحلامه التي أجهضت . الثورات كانت تحققاً لتلك الأحلام ولكن بمفعول رجعي . ولعل ما حدث فيها شيء إيجابي يتمثل في تحول المثقف إلى مواطن حقيقي داخل الحشود الثائرة .

ويقول الكاتب أحمد بزون: لم يعد استشراف المستقبل من وجاهات المثقف العربي ولا حتى من ادعاءات المثقف في العالم . لقد انتهى الزمن الذي نتحدث فيه عن قيادة المثقف أو المفكر أو الفيلسوف لدفة الإبحار نحو المستقبل . فلم يعد تحليل التاريخ مبسطاً إلى الدرجة التي تسمح بالتقاط شكل الزمن المقبل، أو تساعد على فهم المصائر، فحركة العالم لم تعد بطيئة، والتطور بات متسارعاً إلى درجة لا تستطيع إلا الآلة أو الصحون اللاقطة اكتشاف منحنياته أو رسومه البيانية .

منذ زمن، أي منذ الربع الأخير من القرن الماضي، بات التطور التكنولوجي هو الذي يقود العالم، لذا لا نستغرب أبداً أن تعتمد الانتفاضات العربية، التي أنجزت والتي تستمر، على وسائل الاتصالات الحديثة، وقد تقاطعت الثورة الشعبية بثورة الاتصالات، حتى إن كان استخدام كلمة ثورة لا يتعدى مستوى اللفظ، ذلك أن ما يجري في العالم العربي لا تنطبق عليه شروط الثورة بالمعنى الذي اكتسبته من تاريخ الثورات، ولا يستحق أكثر من تسميته انتفاضة .

لا علاقة للمثقفين بما حدث في تونس ومصر ولا ما يحدث في اليمن وليبيا وسوريا . أظن أنهم آخر من علم بالحدث وأول من أصيب بالدهشة وصدمته التطورات المتلاحقة، لذا كانوا آخر من تحرك، وبالتالي آخر من بإمكانه قيادة تلك الثورات في الشارع أو في صالونات الحوار . فاجأتهم الأحداث، وأربكتهم، وراحوا يبحثون عن وضع ما جرى في إطار نظري فلم يفلحوا . نعم هم يدلون بآرائهم، بصفتهم وجهاء الأوطان، ويدعمون الانتفاضات، وربما يشارك البعض منهم من بعيد، من دون أن يواجه بالصدر العاري رصاص السلطات وخراطيم المياه والهراوات، كما فعل المواطنون العاديون المتحمسون والشباب الملبون لنداءات مجموعات الفيس بوك، والجمعيات الأهلية، والتواصل الالكتروني المتسارع، الذين كان من شأنهم تغيير المعادلة بنزولهم إلى الشارع وصمودهم فيه . هكذا أدت السرعة في التواصل والدعوات العنكبوتية التي كانت تُضخ على مدار الساعة، الدور الحلم في التغيير .

أكثر من ذلك، لا يمكن الكلام على المثقفين العرب كأنهم فئة موالية للانتفاضات الشعبية، أو حتى متحمسة للتغيير وتطوير المجتمع، أو معادلة للتقدم، فعدد كبير من المثقفين، أساساً، هم من أزلام السلطات، تلك فئة أولى منهم واضحة للجميع، أما الفئة الثانية فهي تلك التي تتأرجح بين المعارضة والموالاة، وهي فئة انتهازية، تميل مع المنتصر وتهيئ لنفسها مكاناً مريحاً مع تبدل المناخ . في حين أن الفئة الثالثة تشكل معارضة مكشوفة . فأمر الفئتين الأولى والثانية محسوم، أما أمر الثالثة فهي التي يدور حولها كلامنا .

نعم كان الكلام على استشراف المثقفين ينحصر بالفئة الثالثة، إذ لم يكن من واجب الفئتين الأخريين مصلحة في الاستشراف أو التغيير . ومع ذلك فإن الفئة الثالثة خسرت هذه الموهبة، بعدما بات الإنسان الفرد .

لقد بات مضحكاً اليوم الحديث عن بطولات المثقف الاستشرافية وغير الاستشرافية، فالعمل الثقافي المؤسسي، الذي يصادق التكنولوجيا، هو الذي من شأنه أن يتطلع إلى المستقبل .

الشاعر محمد ولد الطالب يقول: ما حدث في الوطن العربي طبعته الفجائية بشكل أربك الجميع ساسة ومثقفين، حيث نبتت ميادين التحرير كما تتفتح الأزهار فجأة، والمثقف العربي لم يتنبأ بهذه الثورات لأسباب من أهمها أن روح الإحباط والهزيمة استشرت منذ النكبة والنكسة مسدلة ستاراً سميكاً لم تخترقه إلا تهاويم الشعراء الباحثين عن بصيص أمل ولو من باب المجاز، وكذلك أولئك المبدئيون الذين بلغوا مرحلة التصوف في الإيمان المطلق بهذه الأمة .

وللأسف كانت هناك شريحة كبيرة من المثقفين العرب تنتمي إلى معاداة الحالة الثورية، حيث إنها أصبحت جزءاً من تكلس الحالة العامة وأسهمت بإنتاجها وسلوكياتها في بث روح التشاؤم والقنوط، على أن الأسباب كثيرة ومنها أن المثقف العربي، غالباً، ظل مثقفاً متابعاً وليس مثقفاً مستشرفاً .

ويعتقد ولد الطالب أن الميادين الثورية السياسية والاجتماعية، إذا لم تتبعها ميادين تحرير ثقافية، فإن ذلك سيحد كثيرًا من فعاليتها رغم أن الثورة تصنع ثقافتها ومجتمعها ومستقبلها وخطابها من دون التشاور مع أحد، فالثورة سيدة ياسمينية لا تقبل الغزل الكاذب .

ولهذا يدعو من منبر الخليج الثقافي إلى ثورة ميادين تحرير ثقافية عربية، من خلالها يتم انتشال المجتمع الثقافي العربي الذي لا يزال يعيش بعيداً في هول الصدمة وعدم التصديق أو بتعبير آخر لا يزال خارج الزمن الثوري، ولا يزال عالقاً في الوحل الخشبي لما قبل الثورات .

ومن أهم ما يمكن أن يسد به المثقف العربي هذه الفجوة الواسعة هو استغلال الحالة الثورية لدى المواطن العربي البسيط الذي يقدم اليوم أفضل دروس ثورات الكرامة والحرية .

إن المثقف العربي ليس وحده من فشل في التنبؤ بهذه الثورات، بل كذلك أعتى مراكز صنع القرار السياسي والاستراتيجي والاستخباراتي في الإمبراطوريات العالمية، والحقيقة أن الثورة هي حدث فجائي، وإلا لما سميت بهذا الاسم، فمن كان يتنبأ مثلاً بالانتفاضة الفلسطينية في الثمانينات؟ حتى المخططون لم يتوقعوا نتائجها الباهرة، ومن كان يتنبأ بأي حدث ثوري اجتماعي أو سياسي أو حتى علمي؟

الكاتب سيدي محمد ولد جعفر يقول أعتقد أن المثقفين العرب ينقسمون إلى ثلاث فئات لكل منها رؤيته للثورات العربية التي فاجأت في معظمها الاستخبارات اليقظة بكل ما أوتيت من وسائل عد أنفاسنا، الفئة الأولى هي تلك المجموعة المهتمة بالشأن العام خارج دائرة السلطة وهي في غالبيتها مهاجرة خوفاً من البطش ولديها مصادر شحيحة جداً عن الحراك السياسي والاجتماعي في بلدانها .

والفئة الثانية هي المجموعة الموجودة في الداخل والمحاصرة بكل وسائل التهميش والإذلال والإرعاب، فمهما شعرت بقرب الحراك فلن تستطيع أن تعبر عنه ولو همساً، لأنها خبرت كل أنواع التسلط والتنكيل .

والفئة الثالثة هي نُخب السلطة وهي بدورها تنظر وفق مقاسات النظام ولا تفكر خارج دائرته، فما يراه أبيض فهو ناصع وما يراه أسود فهو فاحم، شغلها الأساسي هو تمجيد النظام والبحث عن مسوغات لكل نزواته المهلكة .

ومن هذه الخلفيات يمكن القول بشيء من التحفظ إن المثقفين العرب معذورون في عدم التنبؤ بالثورات وإن كانت استجابتهم لها وتفاعلهم معها قوياً وعلى المستوى المطلوب .

ولكن ليس من الإنصاف ترديد أفكار مفادها أن الشارع تحرك على حين غفلة من المثقفين تماماً كما تحرك على حين غفلة من أجهزة الرعب التي تحكمه، هم جزء أساسي من المحرك غير المعلن إن لم يكونوا محركيه سواء من وراء جدر أو حجاب، مثلاً من الذي دفع المؤسسة العسكرية في كل من تونس ومصر إلى أخذ زمام المبادرة لمنع الأسوأ؟ ومن الذي يمثل جداراً منيعاً لكيلا يتم الالتفاف على إنجازات الثورة في هاتين الدولتين؟

الكاتب الشيخ سيدي عبدالله يقول أنا أعتقد أن المثقف العربي لم يتنبأ بالثورات الجارية، وذلك لكون المثقفين العرب في أغلبهم كانوا إما مرتهنين للأنظمة القائمة، وبالتالي كانوا مروجين لكل ما ينفر في الفعل الثوري الانتفاضي الوطني، أو مثقفين مهاجرين إلى بلدان غربية، انهمكوا في التنظير الفكري السائد في تلك البلدان، وكانت علاقتهم ببلدانهم الأصلية غير مؤثرة نظراً لافتقادهم معلومات دقيقة عن الواقع السائد على المستوى الاجتماعي الذي انطلقت منه شرارة هذه الثورات .

الأكاديمي عبدالسلام ولد حرمة يقول إن دور المثقف العربي ارتبط في مناطق عديدة من وطننا العربي بدور الثقافة عموماً ومجالها الواسع الذي حولته الأنظمة القمعية خلال عقود متطاولة من أحكام الاستبداد والتبعية للغرب إلى اتجاهين: اتجاه دفعته من خلال استراتيجية الترغيب والترهيب إلى زرع قيم نفسية وذهنية وسلوكية من خلال الثقافة بمفهومها الواسع يدافع إن لم يمجد الاستبداد الذي هيمن على تاريخ العرب عبر القرون الطويلة الماضية، واتجاه آخر حاول أصحابه أن يواجهوا تلك الأنظمة لكنهم لم يتمكنوا من بناء وترسيخ منظومة ثقافية عربية على نحو يعزز رفض قيم الاستبداد التي زرعتها تلك القرون، وجوهر قيمها ثقافة الرعية والحاكم، ويمكن الوقوف عليها في كل ما تقدمه الثقافة العربية للقارئ والمتلقي بدءاً بالمسلسلات وما تحويه من صور الانحناء وتحية الملوك والرؤساء وألقاب التبجيل المبثوثة في الأعمال الإبداعية بمختلف أجناسها، وقصائد المديح التي تكال للحكام المتسلطين، ونبذ مبدأ الندية لأصحاب الحكم والتجلة، وغير ذلك كثير .

ولعل هذا ما أعجز الثقافة العربية المعاصرة عن تهيئة الحد الأدنى من الظروف العامة للثورة على واقع مرير ظل من عصور الضعف إلى اليوم يناوش تخوم الأمة بثنائيته البغيضة: العمالة والاستبداد .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"