إسطنبول.. معركة كسر عظم

04:07 صباحا
قراءة 4 دقائق
محمد عبد القادر خليل

قررت اللجنة العليا للانتخابات في تركيا إعادة الاقتراع في مدينة إسطنبول في 23 يونيو/حزيران 2019؛ وذلك في سابقة هي الأولى من نوعها. فبعد أن فازت المعارضة في الانتخابات البلدية، التي أجريت في 31 مارس/ آذار الماضي، في المدن الرئيسية؛ مثل: إسطنبول وأنقرة وأنطاليا وأزمير، تم إبطال الانتخابات في إسطنبول، كبرى المدن التركية؛ وذلك بعد أن فاز فيها مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو؛ إذ حصل على أربعة ملايين و169 ألفاً و765 صوتاً، مقابل حصول منافسه بن علي يلدريم مرشح «حزب العدالة والتنمية» الحاكم على أربعة ملايين و156 ألفاً و36 صوتاً.

لم يكن قرار اللجنة العليا مفاجئاً، فقد أوضحت سياسات الحكومة التركية منذ بداية فرز صناديق الانتخابات البلدية في مدينة إسطنبول، أنها لن تسمح بوصول رئاساتها إلى المعارضة، بكافة السبل. فمع بداية الفرز أعلن مرشح الحزب الحاكم فوزه برئاسة البلدية، غير أن النتائج الأولية أشارت إلى تقدم مرشح حزب الشعب الجمهوري.
ومع توالي اعتراضات «حزب العدالة والتنمية» الحاكم أُعيد فرز الأصوات، من دون أن يغير ذلك من نتيجة الانتخابات، بما دفع بتقديم سلسلة من الطعون، وممارسة ضغوط متنوعة؛ بهدف إعادة الانتخابات على مقعد رئيس البلدية من دون بقية المقاعد، التي شملتها عملية الاقتراع، والتي شملت إلى جانب اختيار رئيس البلدية، اختيار مختار الحي، ورئيس بلدية المنطقة، وأعضاء مجلس البلدية.
وقد شكل قرار اللجنة العليا للانتخابات بإعادة الانتخابات في إسطنبول دون غيرها، وعلى منصب رئيس البلدية دون غيره، صدمة لكل من راهن على هامش ديمقراطية يسمح بالتعايش بين الرئيس التركي وخصومه السياسيين، فقد بدا أن المقصود ليس محض استعادة السيطرة على إسطنبول، وإنما أيضاً إقصاء أكرم إمام أغلو من المشهد السياسي؛ وذلك بعد أن سحبت لجنة الانتخابات وثيقة رئاسة البلدية منه، وأقرت بأغلبية سبعة أعضاء، مقابل رفض أربعة أعضاء إعادة إجراء الانتخابات، وسط انتقادات شديدة الحدة محلياً ودولياً.
شكلت خسارة الانتخابات في مدينة إسطنبول تحدياً يصعب مع سلطوية الحكم التركي أن تتعايش معه؛ لما تفرضه من تحديات؛ وذلك بالنظر إلى عدد من العوامل؛ منها: أن خسارة البلدية جاءت بعد هزيمة بن على يلدريم، والذي يعد ثاني أهم شخصية في النظام السياسي التركي، بحسبانه رئيس الوزراء السابق، والشخص الذي تنازل عن رئاسة البرلمان؛ بفعل ضغوط من قبل الرئيس التركي؛ من أجل خوض انتخابات إسطنبول بالنظر إلى أهميتها السياسية، وثقلها الاقتصادي.
وقد مثلت نتائج الانتخابات أكبر هزيمة سياسية للرئيس التركي، بحسبانه كان عمدة المدينة، ولكونه قاد بنفسه الحملة الانتخابية، وباعتباره طالما أكد أن «من يخسر حكم إسطنبول، يخسر السلطة في عموم تركيا»، فضلاً عن أنه كان يُمني نفسه بسيطرة مطلقة على الحكم في تركيا. بيد أن مخاوفه تراكمت؛ بفعل هزيمة بن على يلدريم في إسطنبول، وصعود نجم أكرم إمام أوغلو وتحوله خلال فترة وجيزة من «سياسي مغمور» إلى رمز للمعارضة في عموم تركيا؛ ليغدو محط أنظار وسائل التواصل الاجتماعي التركية، وحديث الصحافة ووسائل الإعلام الدولية، على نحو دفع الكثيرين إلى الرهان على قدرته أن يغدو المرشح الأوفر حظاً في الانتخابات الرئاسية المقبلة.

فالرجل وسطي من حيث التفكير السياسي، ومعتدل من حيث التوجه الأيديولوجي، أصغر سناً من خصومه (48 عاماً). كما أنه أثبت قدرة كبيرة على استقطاب أصوات المحافظين وتأييد المواطنين المتدينين، وأن يجعل من نفسه مخرجاً للمأزومين من رجال الأعمال الذين تضررت مصالحهم؛ جرّاء سياسات الحكومة التركية التي فاقمت من تدهور أداء الاقتصاد التركي.
تشير تقديرات المعارضة إلى أن الرئيس التركي يخشى فقدان السيطرة على مركز الحكم والثقل الاقتصادي في تركيا، بالنظر إلى أهمية المدينة، التي تمثل قلب تركيا ومحركها الاقتصادي؛ إذ تنتج نحو 31.2 في المئة من إجمالي الناتج القومي. كما يساوره القلق بشأن مستقبل علاقاته مع الجماعات الراديكالية، التي سخر من أجلها ميزانية المدينة، ووظف إمكاناتها المتنوعة؛ لخدمة تواجدهم وإقامتهم في أرجائها، وربما يفسر ذلك مقولة إمام أوغلو، إنه اكتشف خلال الفترة الوجيزة التي تولى فيها رئاسة بلدية إسطنبول مستويات عالية من الإسراف، وهو ما سيكشف عنه للناخبين على مدى الشهر ونصف الشهر المقبلين.
وبينما حاولت السلطة التركية التخلص منه؛ عبر إعادة الانتخابات، فإنها بهذه الخطوة قد ضاعفت حالة التعاطف معه. يعكس ذلك حدة الانتقادات التي واجهها قرار إعادة الانتخابات محلياً ودولياً، ومن قبل شخصيات كانت محسوبة على النظام الحاكم، كالرئيس السابق، عبد الله جول، ورئيس الوزراء الأسبق أحمد داوود أوغلو؛ وذلك على نحو عكس تزايد حالة التعاطف التي باتت تخترق الحواجز الحزبية؛ لتصب في مصلحة أكرم إمام أوغلو، الذي قال أمام حشد من مؤيديه في وسط إسطنبول، إن «أولئك الذين يتخذون قرارات في هذا البلد، ربما وقعوا.. في الخيانة. ولكننا لن نستسلم أبداً».
وتُظهر متابعة حسابات الرجل على مواقع التواصل الاجتماعي بعد قرار إعادة الانتخابات تضاعف أعداد متابعيه، واتساع شعبيته في أوساط الفنانين والأكاديميين والمثقفين. وتتزايد الدعوات من قبل المواطنين؛ لهزيمة الحزب الحاكم بهامش أكبر من الأصوات، بما يوضح أن أردوغان ربما يكون بإعادة الانتخابات قد أهدى معارضه دفعة؛ ليغدو رمزاً لضحايا الظلم والقمع في تركيا.
يرتبط ذلك، على جانب آخر، بأن أزمات الانتخابات البلدية في إسطنبول، أثبتت أن أكرم إمام أوغلو يتمتع بالكاريزما، ولديه حنكة سياسية في مواجهة خصومه، وهو قادر على مضاعفة أعداد أنصاره ومريديه، فخلال أقل من ثلاثة أسابيع على تنصيبه لرئاسة بلدية إسطنبول، قرر تخفيض تعريفة بطاقة المواصلات الشهرية. كما اتخذ قراراً بإعفاء الأطفال الذين لم تتجاوز أعمارهم ال 12 عاماً وأمهات الأطفال من أجور المواصلات العامة. وأعلن فتح المواصلات العامة مجاناً لكافة أهالي إسطنبول في أيام الأعياد الدينية والقومية. كما أعلن أنه سيخفض قيمة استهلاك الماء بنسبة تصل إلى 40 في المئة.
تشير جملة هذه المعطيات إلى قدرة الرجل على تحقيق اختراق مهم في جدار الحكم السلطوي، ليبدو أن التحدي الحقيقي الذي لا يزال يجابهه يتمثل في احتمال تدخل الرئيس التركي للتأثير سلباً على نزاهة الانتخابات، وبينما قد يعتقد أنه بذلك قد يُعيق صعود غريمه السياسي، فإنه ومن دون أن يدري يجعل منه أكبر منافس حقيقي له في عموم تركيا وليس إسطنبول وحدها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"