محمد البجيرمي . . "تخيل يا رعاك الله"

استمرّ برنامجه 20 عاماً بلا انقطاع
04:22 صباحا
قراءة 4 دقائق
دمشق - "الخليج":

مَن منا لا يتذكره وهو الذي أطلق عبارة خاطئة لغوياً، لكنها أصبحت مقبولة لأنها صدرت عن محمد توفيق البجيرمي الذي توفي أواخر العام الماضي . "تخيّل يا رعاك الله" يأتي الفعل المضارع الذي في وسط الجملة خاطئاً من الناحية اللغوية، لأنه يجب أن يكون مجزوماً بفعل جواب الشرط، وهنا يجب أن تصبح الكلمة "يرْعَك" بعد حذف "يا" النداء . . لكن قائلها ولأنه روّجها بين الناس بلفظ عامي، فقد أصبحت لدى كل سامعيه، ومشاهديه، فصيحة .
دعونا مع العبارة أولا والتي حفرها رجل واحد في وجدان ومخيلة ملايين السوريين، وكذلك العرب الذين كان يصل إليهم بث التلفزيون العربي السوري قبل ثورة التكنولوجيا وهجوم الفضائيات، قائلها ليس سوى رجل اختار أن يقولها في برنامج نوعي وخاص جداً استمر يقدمه لسنوات طويلة عبر الشاشة، واختار لذلك البرنامج فكرة غريبة واسماً مميزاً، فكان كل ما أتى به هذا الرجل هو الامتياز والاختلاف .
مَن مِن السوريين نسي "طرائف من العالم" الذي استمر بثه لعشرين عاماً بلا انقطاع وصوت مقدمه محمد توفيق البجيرمي؟ ومن منّا نسي تلك الابتسامة التي كانت تؤنس من صوت صاحبها الذي كان وجهه مخفياً طوال فترات بث البرنامج؟ كان أحد أشهر مقدمي البرامج في التلفزيون العربي السوري، اشتغل في الصحافة والإعلام أربعين عاماً، رغم أنه لم يأت إلى الإعلام من بوابة أكاديمية متخصصة، لكونه درس الأدب الإنجليزي وحصل على شهادات عليا من جامعات مختلفة .
اسمه ارتبط بالتلفزيون السوري، ولكونه كان ينطق باللهجة المحلية، كان يوصف في الخارج بالإعلامي السوري، إلا أنه في الحقيقة فلسطيني المولد في 12 يناير/كانون الثاني من العام 1938 في قرية "إجزم" في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولجأ مع أهله إلى عدد من المدن قبل أن يستقر بهم المطاف في دمشق في العام ،1948 ومن هناك انطلق إلى عالم التعليم والدراسة .
تعلم البجيرمي في مدارس دمشق ووصل إلى الدراسة الثانوية، وتمكّن بعدها مباشرة من العمل في مجال الإعلام إثر تخرجه في جامعة دمشق في سن الثانية والعشرين، لكنه لم يتوقف عن الدراسة، فقد عمل على اكتساب العلم في جميع المدن التي حط فيها أثناء اللجوء . فبعد إتمامه لدراسته بجامعة دمشق التحق بجامعة بغداد لدراسة الأدب الإنجليزي فحاز منها شهادة متقدمة "بكالوريوس بمرتبة الشرف" بالأدب الإنجليزي في العام ،1960 قبل أن يعود إلى دمشق ويعمل في التلفزيون العربي السوري فأصبح منذ منتصف الستينات معداً ومترجماً للأخبار الأجنبية فيه، قبل أن يتوقف في العام 1971 بسبب السفر للتحصيل العلمي العالي . وفي سن الثانية والثلاثين حصل على شهادة عليا في الأدب الإفريقي باللغة الإنجليزية، ثم حاز شهادة عليا من جامعة شيفلد البريطانية في سن الثامنة والثلاثين، ما جعله يعود بقوة إلى التلفزيون السوري في العام 1980ويبدأ تقديم برنامجه الشهير "طرائف من العالم" .
كان برنامجه مثيراً، باعثاً على الضحك والابتسامة، لكن الملاحظة عليه كانت في أنه لا يأتي بأي طرفة من سوريا أو من أي بلد عربي، بل يخصص كل الطرائف لتكون من دول أجنبية، ولدى شعوب بعيدة بعضها لم يكن قد سمع بها المواطن السوري والعربي .
سأله كاتب هذه السطور ذات يوم في العام 2007 في محاضرة كان يلقيها البجيرمي في المركز الثقافي في منطقة المزة، عن سبب عدم إتيانه بأي طرفة عن سوريا أو أي بلد عربي طوال عشرين عاماً من برنامجه المميز، فكان جوابه أكثر طرافة من البرنامج نفسه إذ قال: "نعيش في عالمنا العربي ما يجعلنا نبكي، فمن أين آتي لكم بطرافة وضحك؟!!" .
وبعد تقاعد البجيرمي في العام ،2000 لكن برنامجه أعيد عرضه على عشرات المحطات العربية خاصة في دول المغرب العربي، فكانت مواقع التواصل والمنتديات تشيد بالصوت الذهبي لمقدمه، لكنه لم يترك العمل في الأدب، فدأب على مواصلة الترجمة، وتمكن برغم حالته الصحية المتردية في السنوات الأخيرة، من ترجمة الكتاب السابع عشر له، علماً أنه طوال فترة ما قبل التقاعد كان قد ترجم 12 كتابا، فأضاف خمسة لها في ظرف 12 عاماً، وكان من أهم الكتب التي ترجمها إلى العربية للكاتب محمد توفيق البجيرمي "كيف تمسك بزمام القوة" وهو باللغة الإنجليزية، وهو (الكتاب) يتناول القوة كمفهوم لدى البشرية، ويمر عبر 3000 سنة من حياة الإنسان معها، وكيفية التعامل مع القوة في الوضع الهجومي وفي الوضع الدفاعي، وكيف يتمكن المرء من جعل البوصلة تمضي كما يشتهي حين تكون رياحه متحركة، وكيف يكبح جماح قوة الآخرين عندما تكون رياحهم متشددة نحوه . وكان الكتاب في العام 2005 أفضل كتاب مترجم إلى العربية، خاصة أن الحديث عن نقله إلى لغة الضاد أخذ صدى واسعاً في بلدان بعيدة تبدأ من البيرو ولا تنتهي عند اليابانيين . رحل البجيرمي فخسر الإعلام السوري والحركة الثقافية والأدبية قامة عليا قد لا تُعوَّض .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"