قراءة في "أحد عشر كوكباً" للشاعر محمود درويش

قضية فلسطين شكلت حضوراً موازياً لمأساة الأندلس
05:38 صباحا
قراءة 9 دقائق

ثمة ارتباط واضح في موضوع الخطاب الدرويشي في ديوان أحد عشر كوكبا، إذ يؤسّس الموضوع إلى محاور مهمة من تاريخية الصراع بين الأمّة وأعدائها ممثلة بقضية فلسطين، ووصف حالة اللاوجود للأمّة من خلال محاور عدة تلتقي جميعها في الرؤيا المشتركة حول الواقع المحيط بكينونة الوجود، فالمحاور المتجاورة تبدو في ذكر الجزئيات المؤلّفة لهذه القضية المركزية، من مثل محور الأندلس الذي اعتبره الشاعر جسرا للعبور إلى مآربه، فهي حقل ثري بالموضوعات والرؤى والرموز؛ لما تمثله في الوجدان العربي من دلالات تلهب الذاكرة، وتحرك الذات، وهي ذات ارتباط موضوعي واحد داخل البنية النّصية على الرغم من تعددية الصّور المرسومة، وبنائية المحاور الموضوعية المطروحة، إذ يوحي الموضوع بالتآمر والنهاية، وتردي الأوضاع والأمل .

وعليه، يمكن اعتبار أنّ هذه الرسالة اللغوية التي يحملها الخطاب الشعري هي رسالة مكتملة ومتماسكة تحيط بموضوع واحد من البنية الصغرى الأولى له، وحتى الأخيرة، وهذا يؤسس لما يسمّى بانسجامية الخطاب داخل النص ليوسم بأنّه نص مغلق بمعنى له بداية ونهاية ولكنّه، توالدي مفتوح، غير أنّ من المهمّ اعتبار أنّ التقديم الموضوعي على مستوى النّص ينشط لدى القارئ مخططاً ذهنياً معيناً، ومثل هذا المخطط ينشأ بطبيعة الحال وفق الفهم العام للخطاب المعطى الذي يحدّد بمجموعة من المعطيات لا يمكن التعامل معها بفردية، وإنّما ينبغي إدراكها مكتملة، فموضوع النّص يفهم على أنه الفكرة الأساسية أو الرئيسية في النّص، التي تتضمن معلومة المحتوى المهمة المحددة للبناء في كامل النّص بشكل مركز ومجرد .

وهذا ما يجعل من موضوع الخطاب قاعدة لبرمجية النّصوص بمعنى توسيع موضوع الخطاب، وتشكيله في نظر المتلقي نتيجة عملية الفهم؛ لأنّ السامع لا يشكل فهماً حقيقياً للخطاب إلا بعد تشكيله لرؤيا كاملة حول موضوع هذا النّص .

ومن هنا فإنّ تشكيل فهم صحيح وتأويل جاد للخطابات المتعددة لا يتأتى إلا بمعرفة مقدمات حول موضوع الخطاب، أو بنيته الكلية؛ ليقوم بعد ذلك متلقي الخطاب بسلسلة من العمليات داخله تعزّز مفهوم الموضوع، وتساعد على حصر مقاصده وتوجيهاته؛ لتتآزر المعرفة الأولية عن موضوع الخطاب مع البنية النّصية التي غالباً ما تحتوي مجموعة من المؤشرات التي تتوافق لإنتاج النّص، وبناء الخطاب بتحديد الموضوع، ووضعه في سياقه الصحيح أخذا بمبدأ التأويل المحلي الذي يعتبره (براون ويول) أقدر على تحديد الموضوع؛ لأنّه لا يسمح للمتلقي بأنّ ينشئ سياقاً أكبر ممّا هو ضروري لضمان الفهم الصحيح للخطاب .

ولكنّ التحديد الدقيق لموضوع الخطاب يقضي دراسته وفق آليات بينة تكفل التحديد الموحي له، واستجلاءه بناء على تحديد أول لإطاره العام ثم ذكر التفاصيل الداعمة له باعتبار مبدأ تكاملية الأجزاء، وهو ما سيتم مناقشته من خلال محورين مهمين هما: العنوان والتكرير .

إن عنوان الديوان ينهض بدور تأويلي فعّال، إذ يمثل مدخلاً من مدخلات الخطاب الشعري، ويتحكم في تحديد الرؤيا، ويؤسس لعلاقة التغريض كما يرى براون ويول؛ لأنه يتحكم في تغريض الخطاب، إذن فإنّ قراءة النّصوص الشعرية في ظلّ عنواناتها تشكّل الانطلاقة الأولى؛ لصنع الخطاب إذا ما ذهبنا إلى أنّ دلالية العمل هي نتاج تأويل عنوانه .

في ضوء الذي قدمنا، يبدو أنّ العنوان في خطاب درويش أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي قد تبوأ مكاناً بارزاً أسّس لدلالة الخطاب الكلية، وبنى آفاقاً من التوقعات الناهضة بكشف الحجب عن الرؤيا، ومتنه زاخر بكثير من العناوين الموحية، والحاملة للدلالة المغرقة في إيحائها، والمتواصلة مع عنوان الديوان؛ لتشكيل خطاب يبحث عن وجود وسط حشد هائل للطاقات التعبيرية، واجترار للماضي، وتسخيره لتجربة الحاضر؛ لتشكيل رؤيا المستقبل .

إن العنوان يشكل خطاباً موحداً على الرغم من التفاعل الأحادي في القصائد المنتشرة في متنه، إذ إنّ العنوان بؤرة الدخول إليها لإنتاجها؛ لأنّه يمثل تجارب تعدّ ركائز تصف جانباً فكرياً ينقل عبر بوابة هذا الأثر الفني الذي لا ينتج عن التجربة العملية فقط، وإنّما هو نتيجة ما في الفنان من تباين وفردية وذاتية، الأمر الذي يؤسس لعلائقية واضحة بين موضوع الخطاب ومرسله، وكل عنوان هو نص يتآزر مع متنه الذي يشكل نصاً آخر لدعم متن البنية الكبرى، أو ما يمكن أن نسميه خطاباً سواء على المستوى الدلالي أو التداولي، وبطريقة الترابط أو التداعي الحر، والبنائية الموضوعية في هذا الخطاب الشعري ترتكز على مبدأ المشاركة أي تبادل الأدوار فيها من قبل المبدع والمتلقي، وموضوع الخطاب من دون افتراض أحادية لهذا الموضوع، بل إن تفرعات جزئية تكوّن موضوعا، فالخطاب يحوي مجموعة من العلاقات المتلازمة التي تحتاج إلى أن نصل إليها عبر علاقات لغوية وسياقية، عبر برهنة من قصائد درويش المنتشرة التي تشكّل كلا موحدا على الرّغم من اختلاف صورها، وتباين أفكارها المطروحة .

ومعنى هذا، أنّ عنوان الخطاب يتكون من شقين يمثلان مراحل سياقية؛ لإضاءة حاضر محيط، ومن مرسل له خلفيته الثقافية والاجتماعية المعلنة لدينا، وهو يقوم على الاختزال؛ ممّا يدعو إلى اعتباره مشحوناً بالدلالات، ومفعماً بالرؤى؛ ذاك أنّه يرجعنا إلى سياقات نصية ثقافية وتاريخية ودينية، وقد غلب الطابع الديني في شقه الأول أحد عشر كوكباً، وهذه الإضاءة تمثل بعدا خاصا في كونها ترمز إلى حادثة معلنة في القرآن الكريم ذات أهداف بينة، وبنية دلالية واضحة في سورة يوسف عليه السلام برمزية فاعلة في ظلّ أحداث ظلمه، ومطاردته لسنوات طويلة معانيا من الحرمان، وسلب الذات، ومكتويا بنار الظلم؛ لذلك كان إبراز هذا التناص القرآني داخل عنونة الديوان إيحاء لإعناء النّص بهذه القصة، إذ إنّه ثري بدلالاته المرتكزة على التناص التاريخي الذي يهب النص قيمته ومعناه ليس فقط؛ لأنّه يضع النّص ضمن سياقه ولكن أيضاً؛ لأنّه هو الذي يمكننا من طرح مجموعة من التوقعات عندما نوجه نصا ما .

تأسيس

إذن ثمة هدف جوهري من تأسيس العنوان على مثل هذه العلاقة، وهذه إشارة فعّالة إلى أن العنوان بحد ذاته يشكل خطاباً شعرياً يقوم على بنية دينية ضاربة في الماضي، ومسلّم بقطعيتها، وحدث تاريخي حديث متمثّل بمأساة الأندلس، يضاف إليهما حدث غائب/ حاضر متمثل بمأساة فلسطين؛ لتوحي هذه الحوارية التناصية بأنّ ثمة اشتباكا بين هذه التجارب جميعاً، ورسالة مفادها أنّ التاريخ يعيد نفسه، إذ ينخرط المبدع مع واقع شعبه، ويستحضر التاريخ معطيا للمأساة أبعادا أكثر شمولاً ومباشرة، يضاف إليها عنصر الأمل الموحي الذي تحقق في عنصره التناصي في الشق الأول، وانحصر في رؤياه المبثوثة داخل أروقة الديوان، وقد جعل من الشق الثاني في العنوان إطلالة تاريخية موحية وموظفة لخدمة الخطاب، وإعطاء النّص الأكبر قيمته خصوصا باختيار المشهد الأخير من مشاهد الأندلس على آخر المشهد الأندلسي، حيث الإيحاء بالتمازج الموحي بين تجربتين تاريخيتين، فهناك رابط زمني ومكاني في كلا الشقين مشهد القصة القرآنية بإيحاءاتها المختلفة، ومشهد الأندلس، لكنّ المشهد الأخير ليس ذا أبعاد إيجابية، فهو المشهد الأخير من حياتها ذو الدلالة المغرقة، والتجربة القاسية في الوجدان العربي إذ ساد حكم ملوك الطوائف، وانبعثت رياح الفرقة العاصفة بالوجود، والمنذرة بضياع هذا الإرث الحضاري، والرابط بين الشقين أو المشهدين حرف الجر (على) إمعاناً بالحضور الحافل في التجارب الزمنية التي يمثلها المشهدان، ومدى الشخوص والحضور .

وتبدو معالم تشييد الخطاب في بناء العلاقة بينه وبين المتلقي الذي يشكل حضوره تكوينا للعمل من جديد عن طريق التأويل؛ ما يجعله مالكا للنّص، ومشاركا فيه، فهو يبحث في العلائق الغائبة بين المشهدين، وعلاقتهما مع عالم المبدع، وسياق المقام في النص؛ ما يعزّز من وجود مناطق عمى تحتاج إلى إضاءة، وهي حاسمة في التأويل، وحضورها يسهم إسهاماً فعالاً في فك شفرات النّص، وملء الفراغ، وبناء المدلول، فالصمت وعدم المباشرة قد يكونان ركنين يمنحان النّص حضورا فعالا إذ يمكننا الوثوق بجدلية الماضي/ الحاضر، أو الانفصال/ الاتصال في المعاني المختزلة، أوالنّص الغائب كما يطلق عليه بعض الباحثين، وهذا الجنوح قد يلزم المتلقي بالعودة إلى تشكيل الأطر، واستخدام معرفة العالم المحيط بالنّص على اعتبار أنّ فعل الاتصال قد يشير إشارة حقيقية إلى العالم الخارجي، فالاتكاء على العالم الخارجي، ومعرفة ما يجري فيه قد يوحي بالعلائق الغائبة، ويجعلها حاضرة، ومن هذا الحضور حضور المشهد القرآني، الذي يؤسّس لبنائية حوارية مع نص قرآني افتتح فيه الخطاب العنواني؛ مّا يفتح أفق المتلقي على هذا النّص، لاستلهام آفاقه، ولعقد تواصليّة متفاعلة بين المضامين، خصوصاً عند اقتران النّص بالتجربة التاريخية التي استجمع فيها فترة ملوك الطوائف في آخر العهد الأندلسي، وحضورها في عالم الشاعر الخاص، إذ إنّ كيفية معرفة الناس بما يجري داخل النّص هي حالة خاصة من مسألة كيفية معرفة الناس بما يجري، وهو الأمر الذي عززته الإضاءات داخل متن الخطاب إذا ما اعتبرنا نصوص الديوان الفرعية داعمة لبنيته العنوانية، وحاضنة للرؤية الفكرية .

وعليه نستطيع القول: إنّ عنوان الخطاب مشحون بدلالات وإيحاءات رمزية عالية تحتاج إلى ربط بين جزئياتها المتنوعة للوصول إلى رؤيا منسجمة لهذا الخطاب العنواني، فمهمة الربط تحفّز جانب الاستدعاء التاريخي الذي خرج عن السرد التقريري، وتجاوزه إلى استخدام العناصر التاريخية استخداماً فنياً؛ للتعبير عن أشدّ هموم الإنسان المعاصر وقضاياه معاصرة وخصوصية بعد التأويل المعاصر لها، واستخلاص دلالتها بعد تجريدها من ملابساتها ودلالاتها الوقتية العابرة .

ينتقل درويش من الحاضر إلى الماضي، ويسقط تجربة الماضي على هذا الحاضر في معادلة محتشدة بالدلالات تحتاج إلى إعمال فكر، ودراسة بنى، وحضور علائق غائبة باعتبار أنّ مشهد القصة القرآنية، وآخر مشاهد الأندلس تجربتان سالفتان أثّرت إحداهما في الأخرى، وإذا كان هذان المشهدان قد شكلا بداية الرؤيا، فإنّ الرؤيا المسكونة تكمن في إيجاد العلاقة الغائبة/ الحاضرة التي تبدو مشحونة بضبابية المرحلة، ومعزوفة الغناء، واحتشاد الصور المكوّنة لها التي تشدّ إلى العصر الحاضر بانتماء ناظمه، أوصياغة ألفاظه، أو إيحاءات معانيه، أو إشاراته ومرجعياته، وهي قضية فلسطين التي شكّلت حضوراً موازياً لمأساة الأندلس، وتعالقاً واضحاً بين الماضي/ الحاضر، وهذا ما يوحي بمحاولة درويش إسقاط تجارب الماضي على الحاضر، والولوج إلى هذا إنّ حضور العنوان في الخطاب يشكل فعلاً اتصالياً تمثل العنونات الأخرى داخله نصوصا تعكس رؤياه، وتنبئ بطبيعة الرسالة المشكلة لطبيعة الزمان/ المكان فيه، فاتكاء درويش على هذه التناصات التاريخية، وتوظيفها في تجربة الحاضر إثراء لنصه الجديد، وخلق لخطاب حضاري؛ مما يوحي بأنّ العنوانات الفرعية للخطاب ذات أبعاد بنيوية، فهي حوامل للرؤيا كونها تحمل مدلولات ومؤشرات تثبت وجودها، وتعزّز من رؤيتها إيمانا بأنّ البنية الكلية تأتى من خلال مجموعة بنيات تركيبية للخطاب، وهذه البنيات محتوية على دوال توجه إلى فهم جوانب من الخطاب، ومنها ما هو ظاهر بالعلامة السيميائية، وآخر مضمر في وعي القارئ، ولكنه يثار من خلال الاستقراء .

ومن هنا يمكن أن نبحث عن الدلالات والمقاصد للعنوان، وفضاءاته الممتدة من خلال محاورته واستنطاقه، والوقوف مع إشاراته الإيحائية للتدليل على الرؤيا المرضية لخلق النّص، وانسجام الخطاب .

وعليه، فإنّ النظرة الأولى لعنونة الخطاب، واتصالها مع النّص الأكبر المتن توحي بمجموعة من المقاربات المقبولة، والمستوحاة من مستويات دلالية وإشارية، وفضاء بصري خدمة للدلالة، وتقريبا للرؤيا، فالمتلقي مشدود للهمّ الجماعي من خلال أكثر العلامات مركزية حيث الخطاب الديني والتاريخي المشخّص لحالة الضعف العربي؛ لذلك يبدو الوقوف مع إيحاءات العنوان بؤرة مهمة، ومرتكزاً موحياً له؛ لأنه يضع بين يديه الإضاءات الأولى لمجموعة من المعطيات التي تعين مجموعة من البنيات الدالة على فك شفرات النّص، إذ يمكن رصدها في متن الخطاب، وهي تتضافر لرسم مجموعة من البنيات الدالة .

ففي المستوى العلاماتي تبدو إشارات بناء الدلالة التي يمكن اعتبارها مقاربة أولى تخطو نحو تشكيل البنية من خلال انفتاح الخطاب العنواني على آفاق الزمن، وشخوصه على حالة من البياض حيث الإحساس بمدى الفراغ المؤطر للواقع، والمجسد لحالة حصار الذات؛ لأنه قد يكون أحياناً طرفاً في لعبة الوجود والعدم، فإذا به يحدّ الشاعر من السواد، بصفته لونا مضاداً له، وصنوه العكسي، فيقلّص من إمكانات التعبير، واندفاعات الكلام، ويغدو البياض رمزاً للموت، ثمّ تأتي العلامات البارزة الأخرى في فعل الترقيم الموحي في العنوانات الفرعية التي تمثل علامة فارقة تؤسس لبنائية واحدة داخل الديوان .

إسقاط

ينتقل درويش من الحاضر إلى الماضي، ويسقط تجربة الماضي على هذا الحاضر في معادلة محتشدة بالدلالات تحتاج إلى إعمال فكر، ودراسة بنى، وحضور علائق غائبة باعتبار أنّ مشهد القصة القرآنية، وآخر مشاهد الأندلس تجربتان سالفتان أثّرت إحداهما في الأخرى، وإذا كان هذان المشهدان قد شكلا بداية الرؤيا، فإنّ الرؤيا المسكونة تكمن في إيجاد العلاقة الغائبة/ الحاضرة التي تبدو مشحونة بضبابية المرحلة، ومعزوفة الغناء، واحتشاد الصور المكوّنة لها التي تشدّ إلى العصر الحاضر بانتماء ناظمه، أوصياغة ألفاظه، أو إيحاءات معانيه، أو إشاراته ومرجعياته، وهي قضية فلسطين التي شكّلت حضوراً موازياً لمأساة الأندلس، وتعالقاً واضحاً بين الماضي/ الحاضر، وهذا ما يوحي بمحاولة درويش إسقاط تجارب الماضي على الحاضر .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"